المقامة المسجدية

عبد الرحيم صادقي

حدثنا عمران بن سرحان قال: أسبغتُ وضوئي، وأخذت زينتي، ولبست أفضل ما لدي من زِيّ. ثم توجهت تلقاء مسجد الحي. قاصدا صلاة العشاء، راجيا المثوبة والجزاء. ولما دخلت المسجد وجدته لا كما عهدته، غاصًّا بالتائبين والآئبين. فقلت: تالله إن لرمضان لنفحات، وعَشْرُه الأواخر بركات. ثم صليت ركعتين ولزمت مكاني أنتظر الصلاة، حتى جاء شيخ مُعمَّم لا يَمِيزُ المسجد من الفلاة. وأشار إليَّ بيده أنْ تَنَحَّ، فنظرت إليه أتمَلَّى فأحَّ. فقلت: يا شيخ اجلس حيث انتهى بك المجلس. فقال: هذا مجلسي وقد جُرْتَ يا مُفلِس. ألا ترى سَجَّادتي هاهُنا لا أبا لَك؟ أم عَمِيتَ  يا هذا لا رَدَّ الله بصرك! قلت: يا شيخ غفر الله لنا ولك، البيتُ بيت الله ما لَك؟ ثم ذكَرتُ أن الشهر شهر الرحمة والمغفرة، ومَن لم يتعظ فيه فأي ذكرى له وأي تذكرة؟! فتركتُ له سَجَّادته والمحل، وقلتُ لكَ الجمل بما حمل، فعساك تُحْسِنُ صُنعا وتُخلِص العمل.

وبينما الناس يَنْظُرون الأذان، إذ حضر واعظ في تؤدة واطمئنان. ثم استوى على الكرسي مُستقبِلَ الناس، وعدَّل طربوشه ذا الشَّرَّابَة المَيَّاس.  ثم حمد الله وأثنى عليه، ووضع كتابا بين يديه. فوعظ ما شاء الله له أن يعظ، وأطال والناس بين ساهٍ ويقظ. وذَكَّرَنا بالموت والتوبة النصوح، والأوْبَة وهِمَّة المؤمن الطَّموح. وفجأة سُمِع صوتٌ يقولُ افتحوا الأبواب، أي بدعة هذه وأي مُصاب؟! فجاوَب غلام علا مُحَيَّاهُ الاستياء: بل أي بلاهة هذه وأي بلاء؟! أتُشرَعُ الأبواب ويُشغَّلُ مُكيِّفُ الهواء؟! إنها لعمري لعنة السماء. وارتفعت الأصوات وكَثُرَ اللغط، ودَبَّ الخلاف وحل الشطط. واشرأبَّتِ الأعناق إلى الواعظ، عساه يُلَطِّفُ حَرَّ يوم قائظ. لكن الشيخ آثر السلامة، وارتأى أن يحدثنا عن يوم القيامة.

وما إن استأنف الشيخ حديثه الرقيق، حتى سُمِع الصَّدْوُ والتصفيق. فلَم أدْرِ قصْدَ المُصفق على التحقيق، ولا تبيَّنْتُ كلامه بتدقيق. حتى انتهى إلى مسمعي قولُ من قال: إن التصفيق للنساء أيها الرجال. فعقَّب مُعقب: فمتى العِشاء ومتى القيام؟! أم سنبقى هنا إلى السحور ثم ننام؟ وقال آخر: أينَك يا إمام؟ وجاوبه مُجاوِب: تالله إن هذا حرام، أنقوم إلى الصلاة بلا دعاء ولا ختام؟ فقال الواعظ: اللهم اشْدُدْ على قلوب هؤلاء الأنام، واقطع الأرحام في هذه الأيام. وإن زُرْتُكم أخرى في هذا المقام، فادْهنُوا وجهيَ بالرُّغام، واطلبوا ليَ الجذام والموت الزؤام! يا دَمِيمي الطباع أيها اللئام، حاشا أبناء الكرام. وقام منتفضا وعمَّ الوَجَل، وخرج الإمام من مقصورته على عَجَل، ثم أقيمت الصلاة بلا مَهَل، واصطف الناس وقيل: سَوُّوا صفوفكم، إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج، فعلَّق أبو سليمان الأعرج: وأين هو الصف؟ إنما هي فُلولٌ كفلول يوم الطَّف. إنما هو شَتات وفُرَجٌ بل فِجاج، والمُصلون خارج الجامِع زَرافات ولِجاج.

قال عمران: ثم صلينا العشاء والتراويح، وأمَّنَا مُقرئٌ عذبُ الصوت فصيح. كأنما أوتي مزمارا من مزامير داود، تخشع لصوته القلوب وتقشعر الجلود. وعَنَتِ الوُجوه وبكت العيون، حتى خِلْتُهم قد ندموا على ما كان وما سيكون. ثم إني صليت بضع ركعات ثم انصرفت، وبحثت عن نَعْلي فما وجدتها، ووجدت شِبْهَها مكانها. لكنها أخَسَّ منها قيمة ومكانة، فوقع في خاطري أنْ ليس ذا زمن السطو ولا مكانه. ثم قلت: كُلُّكُم يبكي فمَن سرق النعل؟ فقال لي أحد المصلين، السُّمَحاء الطيبين: أَحْسِنِ الظن بالناس يا رجل! إن الناس لا يسرقون في رمضان، وما هو إلا خطأ أو سهو أو نسيان؟ فقلت: فهذا الساهي إما إنه أعمى أو معتوه، أو عديمُ الحس ما له بَوْه. كيف لا ولِي نُعَيْلة وهذه نعل. أتستوي قدَمِي وخُفُّ جَمَل؟! فلو أني أدخلتُ قَدَمَيَّ في الفَرْدَة معا، لَوَسِعَتْهُما وما بلغَت أصابعي شِسْعا.

قال عمران: ثم أسلمتُ أمري إلى الله الواهب الرزاق، وسِرْتُ إلى بيتي أتعثر في نعل العملاق، وقد عزَّت عليَّ نعلي وشقَّ الفراق.