قدر

عبير الطنطاوي

[email protected]

  الليل لا نجوم فيه ولا قمر .. لا سنا ضوء ولا شعاع يقتحم هذه العتمة .. كأن بغداد تحولت إلى جمرة محترقة سوداء .. والطائرات المعادية تحوم فوقي .. وأصوات الصواريخ المضادة للطائرات تنطلق وتنطلق بلا توقف ..ولكن أنى لها أن تصيب طائرات الشبح التي لا صوت لها ولا تخترق أجهزة الرادار..؟

 الآن فقط هدأت السماء قليلاً وصمتت الطائرات .. أرهف السمع .. فجأة فأسمع صوتها وهي تحوم في السماء ثم تلمع السماء فجأة ثم نسمع دوياً هائلاً .. هائلاً جداً .. تهتز جدران المنزل .. ويرجّ الزجاج بعنف .. وتقف العيون جامدة بانتظار انتهاء الغارة .. ولكن ما إن تنطلق صفارة الأمان حتى تعاود الطائرات القصف مرة ثانية وثالثة وهكذا .. لا يهدؤون ولا تهدأ أعصابنا التي أوشكت على التلف .. أنظر حولي .. أين أختي باسمة ؟ أين أطفالها ؟ أين بسمات الرضيع وترنيمات الحابي .. وتوعكات الصغير الماشي ؟؟ وصراخ ابن الروضة .. وهتاف ابن المدرسة ؟ أين تساؤلات ابنة اختي ؟ ودعابات أولاد ابنة اختي المتزوجة ؟! أين الجميع ؟ كان لدى باسمة سبعة أولاد .. نعم أذكرهم .. أذكر وجوههم العطرة .. بسماتهم كلماتهم .. كانوا نجوماً في حياتي بل زهرات في بستاني بل شقاء عمري وضحكة قدري .. كانوا كل شيء .. فأنا لا زوجة لي ولا ولد .. فوجدت في أختي وزوجها وأولادها السكن والود والأسرة .. أختي تلك الزوجة الآمنة المطمئنة .. لم يعرفها زوجها وقد غدت رماداً إلا من حليها ذلك الذهب الذي كان كنزها لنا وقت الشدة .. كانت تقول لي :

  ـ والله ما بغلى الذهب عليك يا اخي .. خذه وتزوج به ..

  وأولادها لم نتعرف عليهم أبداً إلا الرضيع فقد ابتعدت قطعة قماش من ملابسه عن النار فعرفناه منها .. الجميع أشلاء محروقة ممزقة .. لم يبق من الأسرة إلا أنا وزوج ابنة أختي وزوج أختي باسمة  .. وعيوننا بحار هائجة من الدموع .. أما قلوبنا فنيران مشتعلة .. الله أكبر كيف حصل هذا ؟ قبل ساعات كنا معاً .. أسرة كبيرة متماسكة محبة .. كنت أخشى على أنفسنا من عين الحسود .. ويا لها من عين أحرقتنا كلنا أحياءاً وأمواتاً .. خرجنا كالعادة الساعة الثامنة مساءً من بيتنا ومشينا في الطريق مخلفين سيارتنا حزينة خلفنا فلا وقود فيها بسبب أزمة الوقود قبل وأثناء الحرب .. عبرنا جسر العامرية ثم قطعنا شارعاً فآخر إلى أن وصلنا إلى ملجأ العامرية .. أودعنا النساء والأطفال في الملجأ حتى يعيشوا بسلام وأمان في الليل عندهم كهرباء وماء نظيف وبعض الصحبة المؤمنة تعينهم على قراءة القرآن والدعاء .. أودعناهم في الملجأ حتى لا يبكي الصغير في الليل حين تأتي الغارة .. أذكر توسلات أختي لزوجها ولي :

  ـ يا أبو أيمن ابق أنت وأخي وصهري في الملجأ معنا بأمان من الله .. الأوغاد يقصفون كل شيء إنهم يريدون تدمير بغداد الحبيبة ومن فيها ..

  أجابها :

  ـ وكيف نبقى بين النساء والأطفال ؟

  قالت وهي خائفة :

  ـ قلبي غير مطمئن .. أخاف عليكم .. ليتكم تخرجوننا من هذا المكان المخيف .. أبواب من حديد مقفلة بالكهرباء .. ثم إن قدر الله واقع لا محالة فلم لا نكون معاً ؟

  قال لها :

  ـ يا امرأة هنا أمان .. ماذا تقولين إنه ملجأ للأطفال والنساء كيف تخافين ؟ من سيصل إليه ؟

  وأخذنا نقنعها وهي تتشبث بنا .. مرة خائفة علينا .. وأخرى قلبها مقبوض من هذا الملجأ .. ونحن نقدم لها الأعذار والإقناعات .. وكأننا سقناها وأسرتها وأسرة ابنتها إلى قبرهم سوقاً ..

  في تلك الليلة الرهيبة .. عشنا كالعادة ليلة رهيبة مخيفة .. قصف .. دمار .. طائرات .. صواريخ مضادة للطائرات .. آآآآه .. موت ينتشر في كل مكان .. يحتضن الصغير والكبير .. المسلم والمسيحي .. البريء والمجرم .. لا فرق .. لا أدري شعور غريب انتابني فجأة .. أردت في الساعة الرابعة فجراً أن أخرج من بيتي .. أن أركض حافياً تحت برق السماء ومطرها من الماء والنار .. أن أركض كطفل أضاع أمه .. أن أركض بحب إلى الملجأ وأسرق نعم أسرق أختي وأولادها وأولاد ابنتها .. خفت من هذا الخاطر المزعج .. وأخبرت زوج أختي فضحك مطمئناً وطمأنني .. كم تمنيت لو سمعت كلام أختي .. فعلاً قدر يصيبنا معاً نموت معاً ونحيا معاً .. أخيراً تنفس الفجر الصعداء وتنفسنا معه شيئاً من الأمان .. وأيقظت شباب العيلة وأخذنا نتسابق إلى الملجأ لنحضر أسرتنا الغالية الحبيبة ..  وصلنا إلى الملجأ .. وإذا بالدخان يخرج من كل مكان فيه والناس متجمعون حوله .. وأصوات صراخ وعويل يقطع نياط القلب المكلوم .. لا أنسى وأنا في طريقي للمجأ رأيت نوافذ البيوت القريبة من الملجأ محطمة .. اصفر وجهي من الخوف .. إلا زوج أختي، فإنه طمأن قلبي فسماكة جدران الملجأ ستة أمتار والملجأ تحت الأرض بحوالي خمسة أمتار .. فمن القادر على اختراقه .. ولكنه القدر ..

  لما رأينا المشهد .. قلت له :

  ـ لمَ الخوف ؟؟

   ركضنا جميعاً إلى مكان تجمهر الناس .. سألنا ماذا حصل ؟ وجاءنا الخبر .. النيران مشتعلة في الداخل .. يا رب نيران .. قصفوا الملجأ ؟! مثوى الأبرياء من النساء والأطفال ؟! هرّبنا الضعفاء من الخوف فجاءهم الموت حرقاً بالنيران ؟! مضت ساعات والدفاع المدني يحاول اختراق الملجأ والدخول إليه .. لعله ينقذ أحداً !! لكن هيهات هيهات .. وقت ثقيل كالمنشار على رقبتي .. وأخيراً تمكنوا من الدخول وإخراج الجثث وأي جثث ؟ بل إخراج رماد قالوا إنه بقايا جثث !! أشلاء مبعثرة مقطعة منثورة هنا وهناك محروقة .. من بين المئات اكتشفتُ .. أختي أنا وزوجها ميزناها من سلسالها الذهب .. ومن بين الأشلاء ميز زوج ابنة اختي ابنه الصغير من قطعة قماش مخلوطة مع عظم أسود محروق ..

  كيف تحملنا الصدمة ؟ لا أدري .. الله الكريم أنزل سكينته علينا .. فلم يصدرمنّا سوى :

  ـ الحمد لله .. الله يرحمهم ويرحمنا .. اللهم أجرنا في مصيبتنا ..

  وبعد ساعات من الضياع بين الدموع والدفاع المدني و.. و.. وعينا على جيراننا وقد أقاموا لنا صواناً لاستقبال العزاء من الناس والمعارف .. ونحن في دوامة الذكريات وكلمات باسمة في أذني :

  " قلبي غير مطمئن .. أخرجونا من هنا ...."