لا حلم
محمد الفشتالي
ناصيته المغربية مارست جاذبيتها منذ ربيع العمر. جاذبيـة الأشيـاء تكـون مـن ناصيتها بدءا، وما لم يتم التحقق عقب الجاذبية الأولى؛ تدخل الأشياء برمتها منطقة الاعتياد، فالتأجيل. كنت أرى ناصيته صباح مساء، وبمرور الأيام تحول إلى علامة لا يلتفت إليها!. وكم هـي كثيرة هـذه العلامات التي لا يلتفت إليها. لما أمر أدرك أنـه قابـع هنـاك في نفس المكان بنفـس صفـرة الوقت. أحس به يرمقني، ولا أتلفت إليه؛ لكن وليمة عائلية ملعونة قلبت كل شيء. فبعد العشاء سرى الليل عميقا في النفوس، بينما دار السمر بيننا يغترف من جرة الأحلام لذتها العسلية. احتلته الشلة، و حكى كل واحد عن حلمه. أعني أروع ما رآه في منامه. كنت أصغي بمنتهى المتعة. ولم أشأ أن يصلوا إلى حد استنفاذ أدوارهم ليسألوني. فعلا ذلك ما حصل. فاجؤوني، وبماذا أرد؟. أطرقت أفكر، ثم قلت: لم أسأل يوما سؤالا كهذا. صدقوني إذا قلت لكم كلمة واحدة: إني لا أحلم. لم يسبـق أن حصل هذا أبدا. عندها فضوا سمرهم ضاحكين ضحكا يتقطر سخرية مني.
غريب حقا، عبارة صغيرة بدلت حياتي، وصارت شغلي الشاغل ولا شيء آخر. كيف بي وحدي من لا يحلم؟!. ماذا كان سيحصل لو لم يسألوني؟!. لقد روعني سؤالهم، وكشف حقيقتي أمامهم، فضحكوا ملء أشداقهم. في الواقع لقد أسدوا لي خدمة لا تنسى. أصبحت لا أرى للحياة معنى بلا حلم، و لن تستقيم إلا بعد إثبات قدرتي على ذلك. لا سعادة في هذا العالم/ القرية/ الفسولة بدون حلم. لا يعقل أن أكون بمفردي من لا يحلم.
مع الأيام أخذت أضع ترتيبات دقيقة. في العشاء تحضر رفيقتي بعناية عجائن مكرونة لذيذة. و ما أن نتناولها حتى يتدفق سمر خاص على ضوء خافت؛ أجهد في أن أجعله عجيبا ومثيرا لسبات عميق. بمساعدتها قمت بالعديد من التمارين الليلية، علني أفوز بحلم ما، كيفما كان، كابوسيا حتى. المهم ما يرجع لي الثقة بالحياة، لأن الكل يحلم. والحلم غير الوهم. الحلم تعبير عن الآتي باستشرافاته و رؤاه، فلا حياة أبدا لمن لا يحلم، لكن كلما تيقظت أستفيق على عين الحقيقة: لا حلم لي. لا شيء يحدث يدل عليه، أو يشي به على الأقل. لا حوت، لا مطر بارد أو فاتر، لا نهر، لا بحر، لا مال، لا امرأة، لا فرس، لا نار، ولا لون، لا أبيض و لا أسود. لا رجع لأي شيء كان. هل الأحلام انهارت فعلا، ولم تبق سوى حافة هذا العالم شاخصة على الحواس؛ تدميها بإثارات ضاجة لا تنضب، و ترهقها بشظف حركات اليومي، وهي تغالب منغصاته وضوضائه وترهاته؟.
- ماذا تقول؟ ماذا حلمت؟... لم أحلم أي شيء.
- هذا صباح استثنائي. كل يوم يصطف المرضى في طابور. نرقمهم حتى نصل المائة؛ أما اليوم فأنت وحدك. محظوظ، رقم واحد، والله محظوظ...
- لا ... لم أحلم... فقط جئت دون أن أرتب لذلك.
- الله يشافيك... تبدو أصفر ... تفضل .... ادخل.
فتح الباب. تزايد نبضي مثل شريط نمل يسري في الشرايين. قدمني للطبيب، ثم أطرق خارجا، ورأسه مالت كغصن في أعلى صفصافة. انفتح عالم الطبيب لناظري. وجهه كقط ودود سبق أن رأيته في مكان ما. سلم علي بحرارة زائدة. فتح الدولاب يفتش عن شيء ما؛ بينما كان في الواقع يراقب خلسة حركاتي وسكناتي، لأنه لم يقم بأية حركة تدل على البحث عن أي شيء. ساهما كنت أنتظـره و محرجا في آن. انتظرته بفارغ الصبر أن ينتهي من لعبته، وبداخلي ارتعاشات تتواتر. جلس أخيرا، و أشرق من جديد، وكله ود ولطف يغريان بالتحدث إليه. مسحني بنظرة نفاذة، وقال مشبكا أصابعه:
- أهلا و سهلا بك ... ما هذه الصفرة على وجهك؟!.
- ليست به أية صفرة، دكتور... إني ..
- إنك ... ماذا؟.
- لا أحلم!.
- ماذا؟ ... ماذا؟ .. أعد...
- دكتور ... إني لا أحلم ... لا حلم لي البتة.
- ماذا تريد أن تحلم؟.
- لا شيء. لا أحلم أي شيء بتاتا.
- آه.. أنت فاقد الحلم الذي قرأت عنه في رو...
- في أية رواية، دكتور؟؟ !.
- أنا لا أقرأ الروايات ... ( قالها بحسم و غضب) ... أنا أدرس العلم والطب.
- آه، عفوا، ما قصدت ذلك.
- لا عليك. ستعود تحلم إن شاء الله، كما يحلم باقي الناس. الأحلام ضرورية للصغار والكبار، للفقراء والأغنياء على السواء.
- شكرا، دكتور. لن أنسى هذا الجميل (و غمرتني سعادة عارمة).
- قال آمرا: ابتعد عن قراءة الروايات، وكل تلك الخرافات الأخرى، فهي تخدر...تخدر أثناء النوم الغدد النشيطة المسؤولة عن الحلم.
- ماذا؟ ... الروايات تبعد قارئها عن الأحلام؟؟ !.
- تماما، كما قلت لك. ألا تدرك هذا بعد؟ !.
- لأتخلى عنها بالمرة يا......؟ !!.
- تماما ... ها أنت الآن تتكلم كلام العارفين.
- أنت لا تنام بالنهار...منذ أن تفيق صباحا ودماغك في تحفز...تلتقط الصغيرة والكبيرة... تفكر، و يطول بك التفكير في أية شاذة وفاذة كانت...لا قيلولة لك بعد الزوال...تقرأ... ضغطك من الواضح أنه عال ومنتصب دوما...لا يتوسط، ولا ينخفض...تنام متأخرا قليلا... ستأخذ علبة دواء واحد...هاهي...ثمنها مائتا درهم...تناول حبة زوالا، وثانية قبل النوم... سترتاح...ستعود كباقي خلق الله؛ تحلم كل ليلة، إن شاء الله...عد إلي بعد شهر...اتفقنا؟.
- اتفقنا طبعا ( و ماذا سأقول للعراف؟ !).