العقرب الفضي

أحمد يوسف ياسين

عانين ــ جنين

[email protected]

الشمس تعانق الرمل عناقا حارا بلا حواجز يخفف من وطأة هذا الحر حتى مجرد سحابة خفيفة عابرة ، كل الأشياء تتوهج مستجيبة لقرص الشمس الصغير والمركز وكأن هذا القرص يرسل حرارته الى هذه البقعة من الأرض بالذات ، وأبوشاهر يتخلص من ملابسه باستثناء ما يفرضه الحياء العام دون أن يغير ذلك من المعاناة شيئا ، تلك المعاناة التي بدأت منذ شهور خلت حين اضطرت العائلة الى مغادرة بيتها في عاصمة عربية كانت الملاذ الآمن لتلك العائلة وبين عشية وضحاها أصبحت تفتك بكل شيء وأصبحت تلك العاصمة قاتلة متوحشة تأكل أبناءها فكيف بمن يدعى بالغريب اللاجيء مثل عائلة أبي شاهر؟؟

أبو شاهر استطاع أن ينجو بعائلته من تحت السيف ، وفر غربا ظانا أنه يهرب الى حضن يأويه اذا اقترب من الوطن قليلا ، ولم يهمه هروب أبيه به قبل عشرات السنين والذي قال حينها ان السلامة مغنم .. ومات يحلم بالعودة لكنه أبدا لم يعد ولو ميتا ....

داخل الخيمة التي تبرع بها مشكورا الصليب الاحمر تكوم خمسة أطفال وأمهم ، أحفاد ابي شاهر الذي قتل ابنه ذبحا بالسكين أمام أعينهم بيد حاقدة عطشى للدم ، وأبو شاهر يتجول بين الخيام المتناثرة فوق رمل صحراء قاحلة تمتد كما لا  نهاية لها ، وفي أحسن أحوالها تهب نسائم خفيفة بعد غروب الشمس لطيفة شيئا ما حتى ولو انها محملة بالغبار وحتى لو كانت ما يعرف بالطوز..

في هذه البقعة من الأرض ــ أبو شاهر يشك انها من كوكب الارض ــ يحس المرء أنه معزول تماما عن الدنيا وعن العمران وعن الحضارة حتى أضحى هذا المخيم الصغير كمقبرة لأحياء يعدون الأيام لموتهم وفي الأفق المظلم لا أمل يلوح ....

سيارة الصليب الاحمر هي  الرابط الوحيد بينهم وبين أي شيء عداهم .. وتعجز كل كلمات العربية المكسرة أن تعيد شيئا من الأمل الى نفوسهم الا بعضا من متطلبات الحياة اليومية التي تصبح شيئا كبيرا صعب المنال رغم كونها في الاحوال العادية شيئا لا يذكر، وتجود عليهم تلك السيارات البيضاء المخطوط عليها صليبا أحمر ببعض من الدقيق والسمن النباتي والأرز ما يبقيهم على قيد الحياة مما يرسخ اعتقادا لدى أبي شاهر ان هذا الأمر هو أيضا مؤامرة فكلما طال بقاؤهم أحياء زادت معاناتهم ...

أشياء كثيرة لا يستطيع أبو شاهر فعلها أو على الأقل فعلها بسهولة مثل الاستحمام مثلا ويقول ابو شاهر أن هذا يمكن الصبر عليه وانه من الرفاهية غير المبررة في هكذا ظروف ، ولكن قضاء الحاجة أمر مختلف ولا بد منه  مما يشغل فكر أبي شاهر كثيرا في أين وكيف سيقضي حاجته وأن تمكن هو من ذلك فكيف تتمكن زوجة ابنه الشابة ؟؟ ..

الوقت بطيء وبطيء جدا ، الوعود التي يتلقاها الجميع بحل المشكلة قريبا تدخلهم في بحر انتظار أشد قسوة من بحر الرمال اللاهبة ، كلما بان الغبار من بعيد كاشفا عن سيارة قادمة تتسارع دقات القلوب المتلهفة الى حل قريب تحمله تلك السيارة التي يترجل منه بعد قليل صحافي مبتديء يبحث عن قصة ، وفي احسن الأحوال مندوب يوثق الحدث  يوزع بعض الواح الشوكولا للصبية الذين تجمهروا حوله ...

يجلس أبو شاهر في ظل الخيمة مع زميله في رحلة العذاب تلفحه نسمة حارة تجفف الريق فيشرب من ابريق معدني يعلق أبو شاهر بالقول : انه ينفع لعمل ابريق شاي ...

الأفاعي الرملية السامة هي أكثر ما يخيف أبا شاهر، فهو في مراقبة دائمة حول الخيمة كي لا تتسلل واحدة منها الى داخلها وتلدغ أحد الأطفال ...والعقارب السوداء والبيضاء منتشرة بكثافة ومنها أيضا يخاف أبو شاهر ...

عبد الجبار يجالس أبا شاهر في ظل الخيمة ويضع مجموعة عقارب اصطادها في زجاجة شفافة ويقول ان هواية صيد العقارب ليست الا وسيلة لقتل الوقت والتغلب عليه فاكبر عدو لهم هو الوقت ..

الفكرة أعجبت أبا شاهر ، تذكر أن ممثلين عن الصليب الأحمر سيأتون مساء وربما يحملون الفرج ، نظر الى ساعته فكانت الواحد ة بعد الظهر ، أخذ يدور حول الخيمة يتفقدها ، وجد عقربا أسودا ، بحث عن زجاجة فارغة ووضعه فيها قائلا : أول صيد أصطاده.

مر وقت طويل على هذا العمل التسلية ، نظر أبو شاهر الى ساعته فكانت الواحدة والنصف ظهرا ، تأفف أبو شاهر ضجرا : أوه نصف ساعة فقط  ...

استراح قليلا وكان شخير عبد الجبارعاليا ، نظر اليه أبو شاهر حاسدا ، ثم واصل البحث عن عقارب قائلا في سره : لا بد أن يمضي الوقت ...

نظر الى ساعته ، شك انها متوقفة ، لكنها من النوع الجيد ولا يمكن لها ان تتوقف فهي غالية الثمن ومضادة للظروف الجوية والماء وغير ذلك ، نظر اليها ثانية ، لم تصل الثانية ظهرا ، عقربها الفضي يتحرك ببطء شديد ساخرا ، رمى أبوشاهر زجاجة العقارب ، خلع ساعته من معصمه ، بحث عن حجر فلم يجد ، وجد أداة حديدية كانت كافية لما قام به ...

استيقظ عبد الجبار ، وقف يضرب كفا بكف :ـ وحد الله يا أبو شاهر .. لا حول ولا قوة الا بالله ...

انتهت