الحلاق العجوز

الحلاق العجوز

مجدي السماك

[email protected]

الكهرباء مقطوعة، وغزة كلها في ظلام أول الليل آسية ملفوفة بالسواد، وبالحزن تئن. على الرف بجانب المرآة الكبيرة للصالون شمعة صغيرة مشتعلة، لها لهب هادئ وقور، بالكاد تضيء شعلتها الخافتة الوجه الأسمر لعجوز نائم، وجه مليء بخطوط التجاعيد المتشابكة، وأفاريزها الناتئة ككتابة بارزة لختم إمبراطوري قديم وأثري، أو هو الزمن الذي ختم وجهه إلى الأبد منذ الأزل بختمه، ختم يتوغل في جلده مع كل يوم يمر، وقد حفر به من الحروف والكلمات ما شاء أن يحفر.. وعلى وجهه المختوم هذا يهدّي الذباب، فيهشه بيده الغافية بحركة لا إرادية وئيدة، فيبتعد الذباب وما أسرع أن  يعود ثانية ليعود الهش من جديد.

 صالون الحلاقة قديم في وسط المخيم الفقير المحشو بالبؤساء، قديم قدم فقرائه.. في الصالون أربعة كراسي بلاستيكية، ثلاثة منها ملوّحة ارجلها، أما الرابع مسنده مكسور، وكنبة طويلة لا بد أنها قديمة، برز منها حشو الإسفنج وبان لعبث أيدي الزبائن والأيام.. على الكنبة ممدود جسد طويل اسمر ينفث التعب وبمشقة يتأوه، الصدر منه يرتفع وينزل بتمهل مع كل جرعة هواء ينتزعها أنفه الكبير بنهم كأنه يختلسها من الهواء الساخن حوله اختلاسا، ويتنفس بعمق. هو جسد الحلاق العجوز، جسد مرهق يشخر ويمدّ الشخير وينهيه بخرير، ويختلط شخيره مع طنين الذباب الذي يحوم ويهدّي في أي مكان يحلو له، بحركة متصلة لا تنتهي إلا لتعاود التحليق والطّن من جديد. 

استيقظ العجوز على دبيبي وصرير اصطدامي بالكرسي، ونظر إلى وجهي وأطال  إلى ما شاء له الله أن يطيل، حسبته يتأملني.. فرك عينين ضيقتين ناعستين تهدلت منهما جفون حمراء وقام بتثاقل، وهو من شدة الإعياء شعرت أنه لا يريد أن يتزحزح عن الكنبة ولا يريد أن يقوم.. مد يده النحيلة وتناول عن الطاولة كوبا في قاعه بقايا شاي بارد، ارتشفه وهو يزم شفتيه ويضيق فتحة فمه حتى يمنع ويحجز ما رسب في القاع من تفل.. أخذت أحدق في عموده الفقري المّحدب، متصورا أنه سينكسر في أي لحظة على غفلة منه، أو لأقل انحناءة يقوم بها، وما أكثر ما ينحني.. وأحدق في عضلاته الضامرة الناشفة المهددة بالزوال، عضلات يبينها قميص نصف كم واسع فضفاض وكالح، يلبسه على اللحم.. أو بالأحرى على العظم.

كعادتي جئت بغرض التسلية مع الحلاق العجوز وسماع قصصه مع الحياة وتجاربه بها، المرّة منها والأكثر مرارة.. وراح يحدثني بعد أن عزم عليّ كوبا من الشاي، صبه لي من براد تناوله من تحت الطاولة بعد أن سخنه، وهو يخبئ الشاي في هذا المكان بالذات حتى لا يخجل، فيضطر أن يعزم على كل من هب ودب إلى الصالون من المتسكعين والمتلكئين، أو الزبون ألطياري.. حدّثني أنه يوم أول أمس حلق شعر رأس طفل صغير، وأخذ منه أجرة كاملة وهي نفس الأجرة التي يأخذها عندما يحلق رأس رجل كبير بالغ وعاقل، على غير المعمول به في قطاع غزة وعرفها، فكل الحلاقين يأخذون نصف أجرة من الأطفال الصغار.. وجاء والد الطفل يشكو وينوح ويطالب بنصف الأجرة، لأن الحاج العجوز أخذها زيادة بلا حق وفقا لتقديره، متهما العجوز بالجوّر.. ولمّا سألت الحاج العجوز لماذا فعلت ذلك؟ التقط أنفاسه ولملمها بأناة وبهدوء تكلم..

- لأن رأس الطفل كبيرا أكثر من المعتاد.. اكبر من رءوس الرجال.. اكبر رأس رأيته في حياتي.. فأنا في هذه المهنة من خمسين عاما.. يعني تأبيدتين.. لا يخفى علىّ أي رأس.. آه، خبرة.. هو قليل ما رأيناه ومر علينا في هذه الدنيا.. الرءوس أحجام وأنواع يا أستاذ.

ثم حدق العجوز باهتمام إلى رأسي، وأنا أمانع ضحكة تحاول أن تترد إلى فمي لتفر مني، لكني كتمتها في صدري وحبستها كلما حاولت جاهدة الانفلات قبل أن تصل إلى بلعومي، إلا أن ضحكة طويلة ملصت من فمي، بعد أن غلبتني، وانفرطت الضحكة كلها إلى سيل من الضحكات الصغيرات النقيات المجلجلات، مشبوكات مع بعضها كسلسلة حوّطت المكان بإحكام، رأس كل ضحكة مع ذيل الأخرى، ورحت اسأل، بجد سألت..

- لكنه طفل وليس رجلا.. يجب المراعاة قليلا.              

- المهم في الموضوع ليس عمر الإنسان، المهم هو حجم الرأس.. أما هذا الطفل وحيات الله رأسه اكبر من رأسك يا أستاذ.. صدقني أنه أكبر بمرة ونصف.. من المفروض أن يدفع لي أجرة حلاقة رأس رجل ونصف الأجرة.. يعني رأس ونصف رأس.. ولكني سامحته وأخذت منه أجرة رأس واحد فقط، وعوضي على الله.. هل أنا غلطان يا أستاذ.. بالله عليك هل في كلامي غلط؟ بالذمة وبلا خجل؟

- خير الأمور الوسط.. كان من الواجب عليك أن تأخذ أجرة ثلاثة أرباع رأس.. يعني ثلاثة أرباع أجرة بلا مؤاخذة.. الناس في حصار بلا نقود.. والله إنهم غلابا.

- لا يا أستاذ.. هنا أكل عيش .. أنا بدفع من جيبي كل شهر أجرة المحل، واستهلاك الكهرباء والماء، ناهيك عن رسوم البلدية يا أستاذ.. هنا صالون حلاقة وليس جمعية خيرية.. صحيح أن الناس ما معها نقود.. وأنا مثل بقية الناس يوجد ورائي عائلات أولادي العاطلين عن العمل.. وأيضا رسوم أحفادي في الجامعات.. كلهم يعيشون من وراء هذا الصالون.. آمن بالله يا أستاذ أن أحفادي بالأمس لم يأكلوا سوى الخبز الحاف، وبعضهم نام جوعان يا أستاذ.. أولادي وأحفادي عاطلين عن العمل.. عندي عدد كبير من الأفواه المفتوحة التي تأكل الزلط وتسف التراب.

توقف الحاج العجوز عن الكلام، وسحب درج خزانة صغيرة متآكلة جوانبها، واخرج منه صحنا معدنيا به على ما أظن قليل من بقايا طبيخ ناشف، وبعض فتافيت الخبز، قرب الصحن إلى أنفه وشمه ليتأكد أن ما به لم يفسد بعد.. وهو ما زال يتمتم..

- أنا في حياتي ما رأيت رأسا كبيرا لطفل بهذا الشكل، أنا لا اكذب يا أستاذ.. عيب.. أنت عارف أني حججت في زماني إلى بيت الله ووضعت يدي على شباك النبي.. ورجمت إبليس، لعنة الله عليه.. آه .. طبعا يا أستاذ.. تفضل كل معي..كل لقمة معي.. مد يدك..تفضل.. بالله عليك.

تناسيت انه يعزم ووجدتني اسأله..

- من المفروض أن يكون عندك عدادا ليحصي الشعر كي تحاسب الزبون بالعدل؟

- نعم..كلامك صحيح..يجب أن نحسب ثمن حلاقة كل شعرة.. اشهد بالله صحيح.

هممت أن آكل معه لقمة واحدة أو لقمتين بالعدد لأجامله، لكني شكرته وامتنعت، لأنني خفت أن يكون قد أكل من الصحن صرصور أو فأر.. أو مشت عليه سحلية.

أسرع العجوز في أكل اللقيمات الباقيات مع قدوم زبون يريد أن يحلق شعره نمره 4.. وراح الزبون وهو شاب طويل شعره هائش، بدا كعفريت الصورة لسمرته في ضوء الشمعة الخافت الضعيف، راح يستعجل الحاج العجوز لأن عنده امتحان في الصباح الباكر، وعليه التواجد في الجامعة في تمام الثامنة، وبقي الكثير من دروسه لم يراجعها لغاية الآن.. قعد الزبون على الكرسي العالي مقابل المرآة، ووضع العجوز الفوطة الكبيرة على صدره ولفها وشبكها بإتقان على قفاه.. ثم شغل مولد كهربي صغير -بحجم بطن رجل سمين- يعمل بالبنزين، فأنار المكان.. المولد مركون بالخارج عند العتبة بجانب شجرة زينة أكلت الحمير أوراقها وعروقها.. وبالماكينة التي تعمل بالكهرباء راح العجوز يحلق شعر رأس الشاب، حلق نصفه الأيمن كله.. فتوقف المولد .. وسادت العتمة في الصالون وأغرقته بالوجوم.. فأشعل العجوز بقايا الشمعة.. فظهر التبرم في وجه الشاب الأسمر، وتكشيرة كبيرة حادة مضغوطة في وسط وجهه، بسرعة نفشت وكبرت، وانقسمت إلى  مجموعات من التكشيرات الصغيرات المتراصات تلبد بها وجهه كله.. أخذ الزبون ينظر إلى المرآة نصف رأسه المحلوق وبقي النصف الأيسر كما هو هائش ومنكوش تدلت منه خصلات ملتوية أطرافها على أذنه..ارتبك العجوز وعبس وجهه وارتخى جلده حتى صار اصفر مثل قماش متهدل غير مكوي.. يا لها من ورطة!

أيقظ العجوز حفيده النائم في الزاوية، وهو فتى جالس على كرسي، تدلى رأسه في حجره ومال حتى كاد أن يقع على البلاط، يده تحك من وقت لآخر لدغ البعوض، وتهش الذباب، واليد الأخرى تدلت ومالت إلى جانبه وهو على إبطه متكئ .. أعطى العجوز حفيده الفتى قنينة فارغة سعة لترين وطلب منه أن يذهب جريا لشراء بنزين كي يشغل المولد.. تناولها الفتى وخرج جريا.. مثل الصاروخ.

شعر الزبون بالارتياح، وتطايرت من عينيه نسمات طمأنينة، ووجهه انبسط على الآخر.. وهدأت أعصاب العجوز ونبت في وجهه حفنات أمل تدفقت كالسيل إلى عينيه، ومنهما انبثت كالنافورة تدفقات سرور في أرجاء الصالون مستحيلة إلى ابتسامات ناعمات طريات. 

بعد أن انطفأت الأعصاب وبردت راح العجوز يحدثنا والزبون ما زال في مكانه على الكرسي الكبير واضعا فخذا فوق فخذ، وقد لف وجهه إلينا.. يحدثنا عن اخوين أصلعين، حلق لهما شعر رأسيهما قبل أسبوعين وأعطياه أجرة رأس واحد.. بحجة أنه لا يوجد لهما شعرا إلا على حواف الرأس من الجوانب، وعدة شعرات قليلات نبتت على القفا.. فحسبا أجرة حلاقة الرأسين برأس واحد، وخرجا من الصالون بسرعة، يلاحقهما الصوت المتهدج للحلاق العجوز.. ويستطيع العجوز تمييز صلعة كل منهما حتى لو كانت بين ملايين الصلعات، فأحدهما تتوسط صلعته حفرة تكفي لاحتواء حبة لوز غير مقشرة.. والأخر صلعته عليها بقعة تشبه والعياذ بالله خارطة الولايات المتحدة الأمريكية، وملساء مثل البيضة المسلوقة بعد تقشيرها.. بل هو يعرف أي زبون عنده من صلعته، فهو ينظر بحكم مهنته إلى صلعة الزبون أكثر مما ينظر إلى وجهه.. وبخبرته العريقة يمكنه قراءة البخت في أي صلعة كما يقرأ العراف البخت في الفنجان.. وبإمكانه أيضا معرفة نفسية وشخصية كل أصلع من نظرة واحدة سريعة إلى رأسه.

أكثر ما يغيظ الحلاق العجوز هو الصلعات التي تمر منسابة أمامه عندما يقف أو يجلس قرب باب الصالون.. فالصلعة في نظره عديمة الفائدة أبدا لا يتأتي منها رزقا له، فهي بالنسبة له تعني الجوع والفقر وخراب الديار.. يغتاظ حتى إذا رأى صلعة على شاشة التلفزيون أو في المجلات.. ويفرح كثيرا كلما سمع عن اكتشاف جديد لعلاج الصلع، وسرعان ما ينال منه الإحباط عندما يعرف أن الأمر خدعة فلا علاج ولا ما يحزنون.. ويشمئز لأن عملية زرع الشعر يقوم بها فقط الأغنياء، الذين لا يمكن أن يكونوا من سكان المخيم، ولن يحلقوا شعرهم عنده في يوم من الأيام.

عاد الفتى حفيد العجوز يلهث والقنينة في يده فارغة، وقد تدلت شفته السفلى السميكة مستريح عليها لسانه اللاهث.. لم يجد البنزين في كل محطات الوقود القريبة.. وفي البعيدة أيضا لا يوجد..ساد الغم وانتشر.. امتقعت الوجوه وتوّرمت الأعصاب.. زعق الزبون بغضب جامح..

- ما العمل الآن؟

- تعال غدا في الصباح كي أكمل حلاقة نصف رأسك.

- يا سلام! معقول! تريدني أن امشي في الشارع هكذا!

- ضع على رأسك طاقية.. أو كوفية.. أنت عامل منها مشكله.

- طاقية في هذا الحر!.. الجو مثل النار!.. وفي الصباح عندي امتحان.

- طوّل روحك.. لازم نحتمل بعضنا البعض.. هو نزل من السماء حجر.

- وأهلي سيرونني هكذا.. لن اذهب إلا بعد أن تكمل الحلاقة.. دبر حالك.

خشيت أن يتطور الأمر إلى مشكلة لا تحمد عقباها، فاقترحت أن يحلق العجوز كل شعر الشاب نمره صفر كما تحلق الذقن، يعني مثل الأصلع، أو الأقرع.. بواسطة سكين كبير حاد وماضي.. فالعجوز عنده في البيت الكثير من السكاكين، وهذه الحلاقة ممكنة على ضوء الشمعة..فوافق الشاب على مضض.. وطلب العجوز من حفيده أن يسرع إلى البيت لإحضار أمضى سكين.

عاد الفتي يحمل السكين.. فانطفأت الشمعة بعد أن ذابت كلها وتلاشت.. فأرسل العجوز حفيده للبحث عن شمع في الدكاكين المجاورة.. عاد الفتي ولم يجد الشمع.

صار العجوز يحلق شعر الشاب بالسكين، والفتى حفيده يشعل له عيدان الثقاب ويمسكها بيده ليضئ له رأس الزبون، عودا وراء عود.. واليد الأخرى تمسك قطعة قطن ليمسح بها دم الجروح الصغيرة، التي امتلأ بها رأس الزبون.