العَتَب على النَّظر
العَتَب على النَّظر
عبد الفتاح فتوحي
جلس ابن الستين في دُكانه كعادته كل يوم.. من الصباح إلى المساء؛ يقطع ذلك الجلوس غدوةٌ أو غدوتان إلى المسجد لصلاة الظهر والعصر مشياً على الأقدام - في الغالب- للمحافظة على لياقة جسمه ونشاطه المتآكلين.
يجلس يرقبُ المارة؛ وهم قليل، والنادر منهم مَن يُعرِّج عليه يسأله عن حاجةٍ غير متوفرة في دُكانه، والنادر مِن ذلك النادر مَن يأتي مشترياً من بضاعته ذات النوع الواحد.
إلا أن سيل السيارات يكاد لا ينقطع، وقد راجت أقاويل تفيد أن حركة المركبات سوف تخف بسبب غلاء المحروقات الجنوني، لكنها - كما يبدو - شائعات وتوقعات من ذوي الدخل المحدود.. البسطاء.. وهم لا يدرون كم من الناس لا يهتمون بالغلاء.. لأنه لا يؤثِّر عليهم.. لِما يتمتَّعون به من مصادر دَخل متعددة.. لصِلاتهم... و..معارفهم و..مناصِبهم... و.. و..، ما علينا.. هكذا الدنيا بالوجوه.. والآخرة بالعَمل ، ونسأل الله أن لا نكون مثل فقراء اليهود (لا دُنيا ولا آخرة).
وكان مِن شُغل صاحبنا أن يتعامل مع بعض الذبابات اللاتي يَقتحمن عليه دُكانه؛ فيقتل من كُتب عليها القتل وتهرب من كُتب لها النجاة منهن.
في هذه المرة جاء دور البعوض.. إذا اقتحمت الدكان بعوضة ذات أطراف طويلة.. وجناحين ممتدين.. وجسم نحيل.. تساءَل صاحبنا وهو يرقبها.. أي نوع من الجراثيم تحمل يا تُرى؟.
فقد جاء الصيف في وقت الربيع بعد شتاءٍ جاف نسبياً، ورَبيع أشدَّ جفافاً.. والحقيقة أننا نستحق ذلك وأكثر... بما كَسبت أيدينا.. ويعفو عن كثير.. فها نحن نتظالم؛ ويأكل بعضنا بعضاً إلى حدِّ الافتراس.. بكل فخر واعتزاز.. عن طريق التسلسل من أعلى الهرم إلى أسفل (السَّاس).. نسأل الله العفو والعافية.. وعدم الإفلاس.
آه.. أين نحن..؟ لقد كثر التشتت.. وأقفر الشتات هذه الأيام.. رحَّب صاحبنا بزائرته الجديدة فقام وبيده مغلف من مغلفات فواتير الهاتف التي تجمعت مع صويحباتها من مختلف الفواتير على طاولته تنتظر دورها للتسديد.. وقد سئمت...
تقدَّم صاحبنا بهدوء يشدُّ أصابعه على المغلف ويهزه هزَّ المهدِّد المتوعِّد.. تقدَّم نحو واجهة الدُّكان الزجاجية وضيفته تنتقل من مكان لآخر على الواجهة حتى ظن أن الهدف صار في مرماه.. أطلق ضربةً قوية من المغلف.. يا إلهي..! لم يُصبها!!، مع أن المغلف جاء فوقها.. انتقلت إلى مكان آخر من الواجهة...
انتظرها حتى استقرَّت، ثم باغتها بنوع آخر من الهجوم.. إذ اقترب منها بالمغلف متأنياً حتى صار قريباً منها... أهوى به عليها وفركه بتشفٍّ وزهوّ... لكن المفاجأة أخجلته عندما رأى البعوضة تتبختر بسخرية على الطرف الخارجي من الواجهة...
ضحك صاحبنا بأسىً من حاله.. وقال: "العَتب على النظر".
(لا أعمى الله لنا بَصراً ولا بَصيرة)