هي الحياة
هي الحياة
أنمار محمد محاسنة *
[email protected]
خرجت الشمس لتنسج من خيوطها إشعاعة النور ، وتهدي للأزهار قبلتها الأولى ، وشذى هذه
القبلة يتناثر ليوزعه على الأكوان ، فالشمس قد خاطت بمقلتيها قصة ً وروتها بلسان ٍ
عذب ٍ ندي ٍ ، ليستمع لها محبي موسيقى الفجر الساحر ، ولديهم الأمل بالحياة
والطموح .
غرست "سناء"ريشتها في قلب محبرتها التي بقيت نرشق آثار الحبر السائل .... وروّت
الورقة باللؤلؤ المنداح من ساحل جفنيها المغرورقين بالبرد الدفين تحت أنقاذ غيمة ٍ
واجهت الصعاب لتحقيق ذاتها ، وإنبات شخصيتها في بحر ٍ من ضباب .
عدّلت جلستها على مكتبها، وزالت اللؤلؤ من سواحلها بانتظار أن تجف الورقة، إنها
تكتب قصتها وصراعها مع الحياة حين كانت طفلة ً وديعة ً ماتت أمها عندما كان عمرها
خمسة أعوام، وكان أبوها عاجزا ً عن الحركة بسبب شلل ٍ أصاب جسمه.... وبعد هذه
الحادثة تولى أمرهم عمها "سليم" الذي كان يعيش في المدينة، وفي وضع مادي مناسب.
بعد مضي أربعة أعوام ٍ عاشتها مع تلك العائلة مات والدها بعد صراع ٍ مرير ٍ مع
الحياة، وبقيت لديهم أسيرة ً بعد وفاة والدها العاجز، وأصبحت كجارية يأمرها الحاكم
ولا تخالفه أمرا ً.
لم ترتح "سناء" لهذا الوضع ، فقد كانت تلك العائلة تختلق المشاكل وتثقل الحمل فوق
ظهرها ....... فتصبر .... وتصبر ..... وتكمل مسيرتها محملة ً بذات الأحمال، وكل يوم
ٍ تزداد المهمة صعوبة ً..... إلى أن جاء يوم ٌ أوقعت فيه تلك الأحمال من على ظهرها،
وتنتهي مسيرتها لدى تلك العائلة....... وتغادرهم متجهة ً نحو العالم المجهول .....
وتنتظر ما يظهر لها الزمن من أوكار ٍ وحفر .
لقد دخلت المدرسة قبل ثلاث سنين، واعتادت عليها، فكيف تلتزم بها بعد أن أصبحت
مشرّدة ً ؟ لا أهل لها ..... ولا أصحاب...... ولا شيءٌ يشعرها بالأمل..... فهذه
الفتاة يودّ الزمان أن يرقدها أسيرة رضاه ُ......ويضعها في كفن اليأس يشعله السعير
فحما ً في أرجاء ساحاته وجزائره ....... لقد نضجت هذه الفتاة قبل عمرها بكثير ...
وقد أثمرت بذور عقلها..... وكانت تضع واجهتها الأمامية في هذا الدرب قول " المستحيل
مستحيل ٌ لمن لديه الإرادة و الطموح ".
كانت تعي كل كلمة ٍ تضعها في دربها لتشكل بها سطرا ً تضعه على جبينها ، فلقد روت
قصتها على معلماتها ، فاحترمن رأيها وموقفها ، وتكلّمن مع مديرة المدرسة بشأنها ،
فأعفتها المدرسة من تكاليف الدراسة طيلة فترة مسيرتها لديهم ، فانفلج قلبها لهذا،
أما بشأن سكنها فقد ضمنته إحدى معلماتها إلى أن تكبر ويتحسن حالها ، وتستطيع أن
تبحر بسفينتها من الشاطئ ، وتخترق الحواجز ، وتكسر الياقوت الذي فيه معاشها .
مضت الأيام .... كبرت ... وكبرت معها أحلامها وازدادت صعوباتها ... وأصبح وقت
مغادرتها على الأبواب....... أصرّت الفتاة على الخروج .... لم تدعها آنستها ... لكن
.. لأجلها .. ولأجل إنبات طموحاتها وإنماء ذاتها أرادت الخروج.... لتعتمد على نفسها
أمام مواجهة الطوفان الكبير .. لمن الغلبة يا تُرى ؟؟!!
كانت تبلغ من العمر ستة عشر عاما ً، فاستقرّت في غرفة ٍ صغيرة ٍ أملتها عليها
ظروفها... وكانت تحمل من النقود القليل... كانت ولا زالت طالبة ً مبدعة ً متفوّقة ً
في المدرسة ... فذهبت لتعمل في الخياطة لدى إحدى النساء الحسناوات الطيبات لتؤمن
مصاريفها ، ولترسخ أول خطاها في التقدم على الطوفان في أولى مراحلها ، فأنى يكون
لها العمل والمواظبة في تفوقها في آن ٍ واحد ؟؟!!!
تذكرت ذات يوم ٍ وجه أبيها الذي كان حصادا ً، وقد عاد من المنزل وسيل العرق ينصبّ
من جبينه ويترسّب في فرجه، فيروح ليحكّ لحيته بكفيّه ليزيل آثار التراب العالق
بقاعها، وبعدها يحكّ كفيه فينزل التراب منهما على الأرض.... وبعد أن يرمي المنجل من
يديه... ويفتح قميصه ..... فيتضح الشعر المجعد عندما يبلله العرق ... فيخلع عمامته
التي يرتديها... فينفضها نفضة ً واحدة ً ويضعها على يمينه ... وبعد أن ينتهي من غسل
جسمه يتربع على بساطه المعتاد، ويتناول ما جنى يومها من الزاد، وعندما تسأله زوجته
عن زاد اليوم القادم يقول لها ويديه مرفوعتان نحو السماء " رزقنا على الله ".
هكذا كنا .... وهكذا صرنا .... بعد أن أكملت دراستها بمعدل ٍ عال ٍ في الثانوية
العامة حصلت على بعثة طبٍّ في الخارج، فتمكنت من أن تتذوق طعم النصر بكؤوس ٍ من
جمان، ورقت بجدار ٍ من فولاذ ٍ لما تريد.
أسندت "سناء" جلستها على الكرسي مرة ً أخرى .... وقد تبللت أوراقها بندى أيامها
المرّة.... ورشفت طعم الفوز بعد تغلبها على الطوفان، ونالت مفاتيح نصرها من أنياب
دهر ٍ لا يلين، وتوّجت جهدها وطموحها فوق السماء.
نزعت اللؤلؤ المنضود من نرجس عينيها .... وقبّلت ثغر فنها وإبداعاتها....وجمدت
لؤلؤها في المرصد إلى الأبد، ورسمت إكليل زهر ٍ على جبين الزمان، وجففت دموعها
بانتظار كتابات جديدة، فانفرجت شفتاها.... تبسمت .....ضحكت ....... قهقهت ......
فكبُتَ وَجهُها على مكتبها وسالت دموعها ... دموع الفرح والانتصار.... وأغلقت
كتابها بانتظار مذكرة ٍ أخرى .
* هندسة اتصالات