فخ الدببة
فخ الدببة
م. زياد صيدم
تبدل حال القرى الحالمة، بعد تسلل دب مهاجم داخلها فعاث فيها فسادا ودماء .. فدب الفزع في قلوب الرجال قبل الصبية .. وخارت قلوب النساء خوفا على أطفالهن.. وقيل بان معظم كبار السن قد أصابهم بلل المطر وما يزال الربيع على الأبواب.!كثرت الاقتراحات بشأن هذا الدب الدموي المهاجم ، حتى بدأ أهل القرى المتاخمة لبعضها في نسج خرافات وأساطير حوله.. فأبو إبراهيم صاحب أكبر مزارع للخراف، يروى بأنه شاهد أنيابه التى بدت كأسنان المنجل تقطر منها الدماء ، كان قريبا منه حيث اختبأ على سطح خزان المياه في قلب مزرعته، عندما مر من هناك يبطش بالخراف فتتطاير رؤوسها في الهواء ، وقد علقت بها بقايا حمل وديع سقط بين فكيه ..وهذه أم حسنيه تروى بأنها رأته يتراقص حول مختار القرية، فالمسكين حاول بعكازه من الخيزران أن يدفعه بعيدا عنه ، فباغته الدب المتوحش بضربة من ذراعه الثقيلة فلم يعد يتحرك بعدها .. وقد انغرست مخالبه على وجه المختار ، فلم يعد يُرى شاربه الذي لطالما تفاخر به قبل أن يرتطم على الأرض جثة هامدة بلا معالم لوجهه، و يبدأ الوحش في الرقص حوله أشبه بقبائل الغابات الموحشة والنائية حول نارهم المقدسة، كانت لحظات سبقت انتقاله بالرقص على صدره وبطنه حتى سوى الرجل بالأرض .. فاختفت جثته بين طيات ثيابه .. كانت أم حسنيه تضرب كف بكف وعيونها قد زاغت ذات اليمين وذات الشمال من شدة الموقف وصعوبته وهى ما تزال تحدث قصتها .. كان جسدها يرتجف خوفا وهلعا كأنه قد أصابها مرض الرعاش الذي تلبس الحاجة مريم معمرة القرية ، قبل وفاتها ببضع سنين عن عمر زاد عن القرن بعشر سنوات على الأقل.
بعد هذه الحادثة المفزعة للزعيم الأوحد لم تعد القرى الحالمة جميعها في مأمن .. واختفت الفرحة من على وجوه الناس .. وساد رعب وفزع في العيون ،حتى أصبحت حركاتهم خلسة تقتصر على جلب ما يلزم من لبن وجبن وسريعا يختفون من الطرقات ، فقد ضرب المرعب حصارا إجباريا على حركة وحرية الناس في تلك القرى، فلم يعد بالإمكان طبخ اللحم أو مجرد التفكير في شواء اللحم كعادتهم في الهواء الطلق في الحقول والبساتين ، فحتى حسنيه وهى أجمل جميلات القرية ، توحمت على لحم شواء فلم يتمكن زوجها من تلبية طلبها وهو تاجر مواشي تعرفه البلاد ويطلب وده العباد.. لقد كانت نصيحة العم أبو حسان أكبر الرجال سنا بان رائحة اللحم والشواء خاصة تجلب الدب من مسافات بعيدة .. عم القرى كساد رهيب، وحرمان عجيب ،وساءت أحوالهم العامة والخاصة ..! فتضررت بقوة حالة رجال القرى النفسية ، فجعلهم يهجرون مضاجع نسائهم حتى لا يتكرر فشل رجولتهم.. وهم المتفاخرون بها أمامهن، فتحكمت النساء في الشاردة والواردة ، وغلبت حجتهن ، فسبحان مغير الأحوال، فبدت نساؤهم تقاتل ذباب الهواء !! فعلت أصواتهن في البيوت على غير عادة، كانت تعبر عن ضجر وعصبية لا إرادية، وبدت نظراتهن تجوب كل ركن بعيد !.. مرت فترة عصيبة والجميع في صدمة وانبهار عجيب، قد ألغى تفكيرهم، وشل حركتهم ،حتى ضاقت بهم السبل .
بعد مرور أسبوعين على دفن المختار ،بطقوس جنازة كانت سريعة وخاطفة لم يعهد وها من قبل ، دعي ابنه الأكبر إلى اجتماع لكبار القرى لتدارس الأمر ، بعد أن تُوج بأغلبية ساحقة مختارا عليهم بعد انتهاء مراسم الدفن مباشرة.. تحادثوا وتناقشوا وطرحوا كل ما يجوب في خاطرهم من أفكار وخطط لمجابهة هذا الوحش المستبد، فاجمعوا على مقاومته بكل السبل المتاحة وأعلنوا النفير وزمجر الرجال، وزغردت النساء المتصنتات من خلف الجدران ، والمتلصصات من ثقوب النوافذ المطلة على الديوان ..وهنا وقف خليفة المختار خاطبا: على جميع رجال القرى المقتدرين ونسائهم خاصة تقديم ما ملكن من حُلى ومصاغ ذهبي .. وليأتني بها إلى هنا وقد عينت من اللحظة محاسب التجار أمينا على المال ،يساعده الحاج عبد الستار إمام المسجد لهذا الغرض.. فقد قررنا شراء السلاح للمواجهة والدفاع عن الأرض والعرض والولد ، فانتشر الخبر كالنار في الهشيم بين الناس .. كانت حسنيه حسناء القرية وأجمل الجميلات وذات بصيرة ثاقبة أول من سمع الخبر، فكانت أولى النسوة تضع مصاغها تحت تصرف المحاسب والإمام وتأخذ وصلا بذلك ممهور بختم المختار عليه.. فتشجعت نساء القرى وتبعتها معظم النسوة التى يمتلكن أي معدن ذهبي أو فضي .. فقد توصلن إلى حقيقة بأنهن لابد وان يضحين بالنفيس من أجل ما هو أنفس ولا يقدر بثمن؟ إنها فحولة رجالهن بكل ما ملكت معاصم أيديهن من أساور فحتى حلمات أذنهن لم تعد تحمل تلك الأقراط الذهبية التى كانت تتأرجح أماما وخلفا كرؤوس الصبية داخل كتاب القرية.. شكل المختار على أثرها لجنة من كبار القوم كانت كلجنة طوارئ ، فهي في انعقاد دائم في ديوان المختار لا تبرحه أبدا، معتكفون فيه لا يغادرون إلى بيوتهم ولا يرون أولادهم ولا نسائهم ، ومع هذا لم يمتعضوا من هذا الأمر .. بل كانوا من أسعد رجال القرى !، كان على قلوبهم كالعسل وانتابهم نوع من الرضي، وتمنوا لو تطول مدة بقائهم خارج بيوتهم..! فهنا أكل وشرب ونوم ، فعملهم ينحصر في تلقى التبرعات والعمل على جلب وشراء السلاح ، فلا يسمعون عتاب منهن ، ولا يشاهدون عيون نسائهم تخترق كبريائهم فتمزقه إربا ولا يريدون سماع ضحكاتهن في داخل جلابيبهن حتى لا تخرج مدوية عندما ينفردن في محارم النساء متهكمات ، فتتهدل شواربهم وترتخي شعيراتها فتتذوق معهم طعم الجبن وكسرات الخبز باللبن.. فأصبح أهون عليهم الموت في مجابهة الوحش بلا سلاح كمختار القرية الذي أصبح رمزها بلا منازع فقد استراح من كل هذا.. وها هم يتمنون الموت المشرف مثله على رؤية هذه المشاهد، فهم محظوظين بمعية المختار الجديد هكذا تهامسوا فيما بينهم ، وقد قال احدهم : كان الله في عون بقية رجال القرى فانفجرت أفواههم بضحكات لم يستطيعوا كتمها، فساعدت على إضفاء نوع من هدوء سرائرهم المشوبة بالحذر..!
أرسلوا في طلب البنادق من كل فج عميق .. وانتظروا على أحر من الجمر.. مر أسبوع آخر حتى بدأت بشائر الخير في القدوم وتم تجميع كثير منها ، وعلى أثر ذلك قام المختار بتشكيل فرق من شباب القرى بعد تدريبهم وتوزيعهم في أماكنهم للنيل من ذاك الكاسر المتوحش ،الذي ادمي واثكل كثير من العائلات وزرع الخجل والكبت في كل البيوت !.. مضى يوم وآخر.. وغابت شمس وأشرقت أخرى .. دون أي خبر يلوح في الأفق !، فقلق الجمع و شحبت الوجوه وعلت همهم اتهم ، ولكن لم يجدوا غير الانتظار بد .. في مساء اليوم الثالث من رباط الرجال ،جاءت وفودهم من كل المجموعات المنتشرة ، لتلتقي باللجنة المنعقدة في حالة طوارئ دائمة برئاسة المختار، ليخبروا جميعا وبلسان واحد بأنهم شاهدوا أثار الدب تبتعد خارج حدود القرى وتنكفئ هناك من حيث أتت ؟ .. توجس الجميع وكتموا فرحتهم وقرروا البقاء لأسبوع آخر يتم فيه شواء كثير من اللحم في داخل المزارع والبساتين ، ليتفحصوا وليختبروا الوضع جيدا وبعدها يستطيعوا الحكم النهائي .. كانت هذه مشورة حكيمة من المختار الذي عزز ووطد من نفسه ومكانته طوال هذه الفترة بلا منازع ، فنال ثقة الجميع واحترامهم وتقديرهم لما يقدمه من خدمات للجنة وحسن ضيافتها على نفته الخاصة، ونتاج طبيعي لمشورته الصائبة على الرجال. .. وفعلا تم ما أشار به زعيمهم الجديد ، وكان الرجال المسلحين يرابطون في مواضع قريبة من أداست اللحم ومواقد الشواء التى انتشرت في كل المزارع والبساتين حسب الخطة المرسومة .. فلم يظهر أثرا للدب المتوحش خلال ذالك الأسبوع لقد اختفى نهائيا .. فانفرجت أساريرهم ورُدت إليهم رجولتهم إلى سابق عهدها ، وتحركت فحولتهم وانتصبت شواربهم ، وانكبوا على اللحم والدسم بشراهة لم يعهد وها .. وبانقضاء آخر مساء لأسبوع المراقبة الحاسمة ، قرر المختار بنهاية النفير والاستنفار .. اختفى الجميع باكرا ذاك المساء فلم يحضر لصلاة العشاء في مساجد القرى إلا نفر قليل من كبار السن ؟ وفرغت مضافة المختار تماما.. وخلت الشوارع والأزقة.. وكأن القرى قد أصابها طاعون فخويت على عروشها.. وفى صباح مختلف ، خرج معظم الرجال في حللهم الجديدة وعلت أصواتهم مجلجلة في الأسواق وعلى المقاهي من جديد .. ولم تُسمع بعدها أصوات نساء القرى فقد همدن واستكانت سرائرهن !.. توالت أجواء احتفالات في معظم القرى .. فالقهر والخوف والحرمان الذي طال وعصف بهم قد انتهى، أو هكذا أقنعوا أنفسهم !.
لم تدم فرحتهم طويلا.. فالحال اليوم في القرى الآمنة والحالمة ليس كالأمس ؟ .. فقد استفاقوا ذات صباح على إطلاق نار كثيف .. نتيجة لخلافات من ليلة البارحة.. لم تكن غريبة على أهل القرى، ولكن الاختلاف اليوم يكمن في استخدامهم السلاح لحسم الخلافات بينهم ، وهنا سارع المختار لوضع حد لهذا الخطر القادم، والذي استشعر به الجميع ولم يستطيع احد البوح به !.. دعا المختار كبار القرى لحسم موضوع السلاح المنتشر في أيديهم والذي اشتروه بداية لصد عدوان ذاك الوحش الدموي الكاسر ، بحلي نسائهم وتعبهم وعرق كدهم قبل أن يتضاعف وتتنوع مواصفاته .. لم يلبى الدعوة للأسف أحد منهم !وهنا كرز المختار على أسنانه فقرض طرف لسانه وكتم ألمه وغيظه.. حاول جاهدا جمعهم مرات أخرى ولكن دون فائدة ، فقد أصبحت لكل قرية زعيمها ، وما لبثت الحارات تضع لكل منها زعيما يلتف من حوله رجال مسلحين ، وهكذا فلت زمام الأمر من يد مختار القرى لتنتقل إلى أيادي زعماء مختلفون في كل شيء إلا شيء وحيد اجتمعوا عليه وهو ألا يتفقوا ؟! .. فوقعت القرى في فخ الدببة والذي نُصب لهم بإحكام وخديعة ودهاء .. فعادت الأحزان والدماء تُسفك على أيادي أهلها فتولدت الثارات فيما بينهم، والتي لن تجد لها حلا سهلا في الزمن المنظور.. فأصحاب السوء تقاطروا من كل صوب، يدلون بدلوهم مؤججين النفوس والأحقاد.
شُوهد المختار ذات مرة وهو ينظر في وجوه الناس، ويتفحص شوارع وأزقة ومقاهي وأسواق القرى يجوبها داعيا ومحذرا بكلمات واضحة، كانت تخرج من قلبه كَحكِْم و مواعظ، لم يكن صوته صاخبا كما السابق.. لقد غار صوته كأنه في بئر ماء عميق .. لقد سمعتها حسنيه ورددتها على مسامع الجميع وكررت قوله بصوت يسمعه الجميع: بان الدب الغادر لم يُقتل بعد وهو حر طليق في مكان ما .. ومن يتذوق طعم اللحم والدماء حتما سيعود ذات يوم .. وأضافت على لسانه وعلى مسمع الجميع: وقد يعود وبصحبته كثير من الدببة الجائعة والمتعطشة لدمائنا وأجساد أطفالنا وهذا احتمال كبير، فماذا ستفعلون حينها؟ وانتم هكذا على ما انتم عليه !! فمضى المختار منكفيا وقد خابت توسلاته ..وتسللت منه قطرات من دموعه اختلطت مع عرقه المتصبب بغزارة من كل جسده .. كان حريصا على إخفاء دموعه لآخر لحظاته، فكبريائه وأنفته ما تزال كما هي لأنها رأس ماله في الحياة الفانية .. كان يشير بعكاز والده الذي قاوم به الوحش القاتل بكل شجاعة وكبرياء وقضى شهيدا إلى حيث تقف حسنيه بينهم وهى ما تزال تكرر على مسامعهم ما يقوله من نصح وتحذير قبل أن يمضى عائدا إلى بيته معتكفا وقد اكتنفه الحزن والمرارة.. وانفض القوم وتوارت حسنيه عن الأنظار عائدة.. كانت تهز برأسها يمينا وشمالا وتتمتم بكلمات المختار الحكيم التى لا تباع بكنوز من الذهب ، عندما سيعلمون قدرها.. وهى تشيح بنظرها هناك بعيدا .. حيث اختفى الدب القاتل ، ولكن لا حياة لمن تنادى ..!!
إلى اللقاء.