لغز الكلب الأحمر
ياسين سليماني
اليوم نهضت متأخرا كعادتي في فصل الصيف، كانت الساعة في محمولي التاسعة والنصف، بقيت لدي ساعة ونيف لأكون مع إحدى الصحفيات الكبيرات كضيف...
صبّحت على الجميع، وقبلني الصغير "محمود"، كما عاتبني الأصغر على عدم مشاركته البارحة في الرقود، أما والدتي ذات الوجه الصبيح، فإنها لم تقل شيئا بعد التصبيح، سوى نفاد السكر والبن والحليب، طالبة الإتيان بها من المحل القريب، وكدت أردّ عليها فأجيب، بشيء ذي خطر غريب، ولكني انكفأت على نفسي، بعدما أصابني من تعديل عاداتها اليومية هذه أكبر اليأس.
في الحوش كانت الشمس تقهقه بصوت عال.. غسلت وجهي بتؤدة وبفراغ بال، ونظرت جيدا في المرآة، لأستمتع بوجهي جميل القسمات، كانت هذه عادتي، فور هجر فراشي ووسادتي، حتى أنّ أمي حين تجدني واقفا أمامها لوقت طويل، تنكّت فتقول: واش يخرج العروس، من بيت باباها العتروس، وكنت أسكتها بالتصبر الجميل...
أعطيت لمحمود ثمن ما طلبته أمي، دون أن أذوق لقمة من اللقم، ولكني تذكرت مفاتيح المنزل، فرجعت أبحث عنها على عجل، وبعد بحث طويل، وجدتها إلى جانب فراشي الثقيل.
عندما التفتّ عن غير قصد إلى فراشي المبعثر، نطّ إلى خاطري الحلم البائس الأغبر، الذي رأيته فجر هذا اليوم، فأذهب عني بعده النوم..
حلمت أني في طريق رحبة الأرجاء، أسير لوحدي سير الخيلاء، غير منتبه لما حولي من الناس والأشياء، ذاهبا إلى "رود الصايمين"، ذلك الشارع المحمل بذكريات السنين، لأبتاع كيلوغراما من المشمش اللوزي الذي هبطت أسعاره هذه الأيام، إلى الأربعين دينارا بالتمام.
وكان من عادتي أن أشتري هذه الفاكهة طيلة موسم الصيف، وأذيق منها أهلي وضيفي، حتى أنني يبلغ بي الشره في كثير من الوقت، فأقتني كيلوغرامين مثلا للبيت، وأبدأ طوال الطريق في الأكل، فلا يبقى للأهل، عندها أعطيهم الكيس، إلا حبات تثير التيئيس، فتلكمني بكلامها أغلى الحبايب: "هكذا يفعل الناس يا ابن المصايب؟" وتبعث بأخي محمود، ليشتري بما أعطته من نقود، كيلوغراما آخر دون أن تريه لي، خوفا من شرهي في الأكل...
كانت طريق ذهابي إلى الموعد طويلة تثير العياء، وموحشة تزيد ارتعاش الجبناء، ولم أكن أفكر في أي شيء من الأشياء.. بل ربما كنت أفكر في المرتّب الذي نفذ أول أربعة أيام، فتركني بإحساس الأيتام، ووطنت نفسي على استلاف مبلغ جديد، من صديقي "مجيد"، وسيمهلني إلى الشهر الآت، لأردّ له بضاعته مزجاة.
وعلى غير انتباه مني واهتمام، ظهر كلب كبير الحجم أمامي، يشبه بولدوغ توم وجيري عندما يغضب، أو حين يزجر أو يضرب، كان في خط مستقيم معي، ولم يكن بيننا إلا نحو خمسة أمتار وربع !!
كانت عيناه تنذران بالخطر، مفتوحتين على مصراعيها ككأس الحليب الذي هُُدر، رمقني بنظرة غاضبة، كأني كنت لأنثاه غاصبا، ثم راح يوزع كرجال البوليس السري أخبث النظرات، على وجهي جميل القسمات، لاحظت -وأنا في قمة ارتباكي- أنه أوقف عينيه للحظات في وجنتيّ، بينما تكشيرة الأنياب بدأت في أولى مراحلها توجه إليّ...
- هل أعود إلى الوراء؟
كان قلبي قد استعار طبل أعراس وراح يضجّ، ومشاعر القلق في صدري أخذت تعجّ، فيما شرع وهن كاسح يشل ساقيّ النحيفتين فينذرهما بالهلاك، ويمسكهما عن أية محاولة للتحرك إلى هنا أو هناك...
لو كنت أحفظ القرآن أو أي كتاب مقدّس، أو حتى محرّف مدنّس، لتمتمت ببعض الآيات، لعلّ الفرج يأتي من رب السماوات، حتى فاتحة الكتاب، كان مآلها عن عقلي الغياب، فلم أجد بدا من التعويل على شيء غير هذا، يكون لي وجاء وعياذا....
حاولت أن أبتعد عن سبيله قدر المستطاع، فآخذ الجهة اليمنى محاولا الإسراع، سائرا ذراعا أو ما يقرب من ذراع، أكنت في كامل قواي حين اخترت شرّ البقاع؟
لم أنظر إليه بشكل بيّن واضح، غير أنه حدجني بنظرة قاتلة الملامح، كان لغامه قد بدأ يتسرب من فمه النتن، وكنت أحس من بعيد قريب بالصيق العفن، بدأ يزكم أنفي، ويقرّب موتي وحتفي، لذلك زدت من الإهطاع، بشيء من الاندفاع والاندراع كيلا أكون "لقمة تقلّب بين أضلاع السباع"
رأيته فجأة يشدن وهو جاذل، فيما أنيابه البوازل، بدأت تصعد من لهجة تكشيرتها تصعيدا خطيرا، وتنذر شرا مستطيرا، لقد كان من عمه رأيي وعمى رؤيتي، أن آتي من طريق تجعلني "قعيد الذل حيّا كميّت"، ماذا لو غرزها في وجهي جميل القسمات، فأرداني مسخا "تعصف في الحشا ريح من الزفرات"؟ !
ضاعت زهلقتي وهملجتي وتدلّلي، التي خرجت بها من منزلي، الآن لم تعد لقلبي طبول في حفلة عروس وعريس، ولكن غدت كل دقاته معركة حامية الوطيس، بين كل العواطف المتضاربة، والمشاعر المتكالبة، حتى أن فؤادي، ربما أمر لبّي وعماديّ، بالإضراب عن العمل والجهد، هروبا من هذا المشهد.
عندما توقف كلاهما عن مهنتهما التي خلقهما من أجلها الباري، أحسست بالغثيان ما فتئ يخنقني، كان منظر الكلب الأحمر وهو يسيل لعابه الكثيف يقززني...
ولم أكد أعيد إليه حتى وجدته قد هجم عليّ، ولم أعرف كيف استطاع القفز إليّ، هذه الأمتار ليجثم مباشرة على وجهي ذي القسمات الجميلة، فيسقطني أرضا ليس لي معه حيلة، " معانقا، كان عناقه لي وراء أحشائي والأضلع"، ليخرج بعد تكشيرته التوم جيرية نباحه المروّع: "مياو".
يعيدها أربعا كتكبيرة إمام غير صالح، في حضرة جنازة عفنة الروائح، ثم ينتنني في كامل وجهي باللعاب، ويلحسني على جميع رقبتي فيجعل "الأيام كالحة غضاب".
ثم فجأة لم أعد أرى له وجودا، كأنه لم يك هاهنا موجودا ، وبقيت لوحدي أقارع، في الشارع الواسع، الرائحة المنتنة مصفودا، أجوب شارعا واسعا ممدودا...
مع ذلك لم أعد إلى المنزل دون فاكهتي الحبيبة، وأكملت الطريق رغم تعاظم الرائحة الخبيثة تعاظما عجيبا، فقد مررت على مرشّ قريب، وأصلحت ما أفسده البولدوغ الأحمر المريب، ثم اقتنيت من "رود الصائمين"، المشمش الحلو السمين، بل أكثر مما كنت أبتاع، نكاية في كلب الرعاع، فأكلت في الطريق، وأكل الأهل والصديق..
تذكرت هذا الحلم بالتفصيل، طيلة المسافة بين البيت وقاعة المحاورة والتسجيل، وهي في عمومها أكثر من عشرين ميل، وكانت خاتمته هكذا، دون تبسيط أو تهويل..
وحين وصلت إلى مكان اللقاء، مع مبعوثة وكالة الأنباء، سعدت لوجود عدد متكاثر من الناس، من مختلف المشارب والأجناس، فبدأ الحوار الجميل، والقال والقيل، في مسائل كثيرة، وأفكار مثيرة.
غير أننا لم نتحدث إلا دقائق معدودات حتى قاطعنا عنّين من خشارة القوم، ينمّ عن غلطة ولؤم، منتفخ الأوداج، لا أعرف ما يحتاج، ذو وجه دميم، وخلق شتيم، مأفون يهفوف، يشبه "الحلوف"، ينق نقيق الضفادع، ليس له عن قول المنكر من رادع، فراح يغوص في وحل من الكلام، لا قبل لأحد بالدنو من حماه حمى اللئام، ثم أخرج الناس من هناك إلى أصغر قاعه، وطلب مني أنا والصحفية اتباعه...
لم تنبس المرأة الوديعة، ذات الثلاثين ربيعا،ببنت شفه ، لذي العته والسفه.
أما أنا فقد راجعت حلمي وأخذت أتذكر، وأبحث عن تباين بين كلب المنام وهذا الأغبر، وفي الختام لم أجد اختلافا يذكر، في الغد تحدثت وكالة الأخبار، عن هجوم شرس لكلب غدّار، طوقه رجال الأمن وأطلقوا عليه الرصاص، ثم رموه في مكان لا يعلمه إلا الخاص، أما اللقاء الإعلامي المذكور، فخرج بعدئذ في ثوب قشيب كالدر المنثور...