المقامة الامتحانية
عبد الرحيم صادقي
حدثنا نزيه بن رقيب قال: كُلفت يوم الامتحان بحراسة الغِلمان، فلم أَدْرِ أكنتُ مع إنس أم مع جان. ولقد مضت علي سُوَيعات ثلاث، ابْتُليتُ فيهن بأصناف من الغش والمكائد، وبَحَّ صوتي وضاع وقتي في الضرب على حديد بارد، وما تنفعُ الشَّعْفَة في الوادي الرُّغُب؟ فقلت لنزيه: فقُصَّ لنا ما كان من أمرهم، وحدثنا عن أخبارهم.
قال: أما ناقل المِلحاح، فلا يمَل ولا يرتاح، يتمَلْمَل كتَمَلْمُل القِداح، وكأني به غريق يرجو التفاتة ملاَّح، أو مقامرٌ لطول ما قامر ولم يحالفه النجاح، راهن على ماله كله، وقد أقسم أن يجني ما تَقِرُّ به عينه من الأرباح، أو يخسر ما شقي العمرَ لأجله ويجعلَه هدية للرياح، وهو موقن أن عمره لن يجاوز الصباح. قال نزيه فقلت لناقل: من اتكل على زاد غيره طال جوعه، وغثُّك خير من سمين غيرك. فقال: أحوجتني إلى ذلك تصاريف الدهر ونوائبُ وظروف، وأفضل المعروف إغاثة الملهوف.
وأما متواكلُ بن مَكْسَل فهادئ رزين، لا يحركُ غيرَ عَيْنَين، يُقَلِّبُهُما ذات اليمين وذات الشمال، والجسدُ مُسْتَوٍ على سوقه ثابتُ الحال. قليل الحركة كثير النظر، قد أعد عُدَّته ولبس لَبوسَ الحذر. يقتنصُ كلمة مِمَّن على يمينه، ويُتِمُّ بأخرى مِمَّن على شماله، فإذا جُملته ركيكة تشكو العُسْرة، وذلك حال كلام جُمِع يَمْنة ويَسْرة.
ورأيتُ آخر يرمق بين الحين والحين، وُرَيقة وضعها بين الفخذين. قال نزيه: فسَلَلْتُها كما تُسلُّ الشعرة من العجين، ووعظته بكلام الصادق الأمين، وأنا موقن أن الحياء مانُعه من الغش لا محالة، وأن وعظِيَ حرك فيه دواعي النبالة. فلم تمض غير برهة من الزمن، حتى أخرج الشقي من تحت إبطه وُريقات أُخَر، أحْرُفُها أدق من رؤوس الإبَر، لاريب أحوَجَهُ نسْخُها إلى ليال من السهر، فتبخرت كل عظاتي والعِبَر. وكأنه أيقن أن الغش قضاء وقدر، وأن الله قد عفا وغفر، ما تقدم وما تأخر.
قال نزيه: فانتزعتها منه بقوة، وقلت أتُصِرُّ على الغش عَنوة، أم أن الغش عندك دهاء وفتوة! فرد علي في صلف واستكبار: ومن يُحاسِب الغشاشين الكبار؟ لصوص الليل والنهار، مَن أفرغوا الخزائن وخرَّبوا الديار، وتركوا الناس بين رمضاء ونار، فمنهم طالب انتحار، وآخرون ركبوا البحار، فكانوا طُعما لحيتان وقروش، والمحظوظ منهم من عاد في نعوش.
قلتُ: يا ولدي الناس مَجْزِيون بأعمالهم، وهل يُغيِّرُ غِشُّك طبعَنا الجافي، أم تُراهُ يكون دواءَنا الشافي؟ حسيبُهم من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكل شيء عنده في كتاب مسطور. فإن غاب قاضي البلد السليب، فقاضي القضاة لا يغيب.
قلت لنزيه: وماذا كان حال نساء الغد ومربيات الأجيال، ومَن بهن تبدأ طريق الأميال؟ فعليهن العِوَل وهُنَّ موطِّئاتُ الأهوال.
فقال نزيه: يا ليتني كنت نسيا منسيا، ولم أشهد خزيا مخزيا. لقد أقضَّ الغلمان مضجعي، وأيقنت أنهم مُفَوِّزون علَّقوا شنًّا باليَا. فقلت: ما الأمر وما الخبر، ولِمَ الحنق ولِمَ الضجر؟
قال: إني رأيت فتاة عهِدتُها حاسرة، قد غطت رأسها بخمار وتَشَمَّلت بعباءة ساترة، فإذا هي أكسى من بصَلة. فقلتُ لعلَّها توبةٌ نصوح، وربُّك كريم صفوح، وليس يُلام من رام العُلى واستحثه الطموح.
فقلت: فما كان من أمرِها يا نزيه، حدثنا وأنت النبيه! فقال: لم تَنْقَض غير دقائق معدودة، وبَيْنا أنفاسُ المُمْتَحَنين مشدودة، إذ لمحتها تحرك شفتيها مُهَمْهمِة، واضعة على الصحيفة رموزا مُبهَمة. فقلتُ لعلها لربها ذاكرة، مُثْنية عليه شاكرة. فدعوت الله لها بالتوفيق، إنه بمن رجاه رفيق. حتى انكشف السر الدفين، ووقع الأمر المشين: سِلْك تدلَّى من تحت الخمار، فبان أنه يوحَى للفتاة من وراء الستار. قد أوثقَت هاتفها بمِعْقاد رفيع، طوَّق جيدها وبئس الصنيع، وتدلى الهاتف إلى صدرها كأنه طفل رضيع.
قال نزيه فقلت لها: عينُكِ عَبْرى والفؤاد في دَدٍ، ويلكِ يا أَمَةُ من غدٍ. خِلْتُكِ تائبة فإذا توبتُك كتوبة الثعلب، تحت جلد الضأن قلبُ الأَذْؤُب. فردَّت علي قائلة في امتهان : آفة العلم النسيان، والأصيل يجود، فلا تقطعوا رحمة المعبود! ثم إن العيش نُجْعَة والحرب خدعة، وهل نحن إلا كلاعب الشطرنج على الرقعة! قلتُ: يا هذه احْلُبيها بالساعدِ الأشد، وفي مخالفة الهوى كلُّ الرَّشَد. ومَن أعانَكِ على الشر ظلمك.
قال نزيه: ولقد أشبعوني كلاما عن الضرورات التي تبيح المحظورات، وعن مرارة الواقع والمستقبل الضائع. ولقد وجدتُني كالنافخ في غير ضَرَم، ومِن العَنَاء رياضةُ الهرِم. ولولا أن أكثر الظنون مُيون، لَنَتفْتُ حواجِبَهُم وفقأتُ العيون، ثم هِمْت على وجهيَ كالمجنون.
فقلتُ لنزيه: صدق من قال: عند الامتحان يُكرم المرء أو يهان. فقال: ولقد أُهِنتُ وهم المُكْرَمون، وأنا الرقيب وهم المُمْتَحَنون! قلتُ: يا نزيه لا تَذهبْ نفسُك عليهم حسَرات، إن الشباب مطيةُ الجهل، فإن تَعَهَّدَهُم أولو الألباب كانوا خيار الناس، وإن غاب اللبيب وعزَّ الأريب وأعرض الطبيب وأشاح القريب، فمَن للمساكين غير تُرَّهاتِ السَّباسب؟
قال: صدقتَ والله، فمتى استقام الظلُّ والعود أعوج؟!