قرابين مولوك

حميد الهجام

مضت ثلاثة أيام مند أن غادرت المشفى بعدما أمضيت سنة بحالها، بأحلامها و كوابيسها، بأفراحها و أتراحها ،بشرطها و عوائقه. ماما لا تني تزعجني، بزعيقها...

- لا تنسى المهدئات.حسب تعليمات الطبيب تضيف و هي تقفل باب غرفتي.البارحة كانت مرحة على نحو غير مألوف...قبلتني و وعدتني بشكلاطة و جولة في حديقة السندباد صباح الأحد.تتعامل معي بلغة بافلوف .

لا أتذكر شيئا، نسيت كلَ شيء...آه.نسيت أن أخبرك أني عولجت طيلة ستة أشهر بالصدمات الكهربائية ولن أروي ما حدث طيلة إقامتي هناك، في ذاك المشفى.

أكيد أخي نبيه ستستغرب وسوف تطفو على شفتيك  تلك البسمة البلهاء الدالة عل تعودك و تشريطك على استبلاه الحقائق و أكل النقانق دون التساؤل عما بداخلها-يقولون أنهم يحشونه بلحم الكلاب .أنسيت أني أخبرتك أني نسيت لأني بكل بساطة لم أكن أنا،ألم يجل بخلدك أنت و الآخر أن هذا الكائن الذي يركض سواد جنونه فوق براءة ورقة الاجندا ،كائن ،كطائر الفينيق الخرافي ،من رماد ينبثق،ينفض عنه غبار النسيان،و، يبعث من جديد ،يتطلع إلى السماء ثم يطلق سيقان حلمه للريح.

الآن، في هذه اللحظة و المساء ينهطل مدرارا على إسفلت الحياة، سأحاول استعادة لحظة ما قبل دخولي المشفى.تلك اللحظة اللامتناهية في القصر و اللامتناهية في الزمن، لحظة استبدال الضمائر مواقعها و انتقلت قيادة  مركب الجسد من قبطان إلى آخر.أجل،ففي ذلك اليوم الخريفي الأجواء سلمت الأنا رقبتها إلى السماء ...

...اعتدت صبائح تلك الأيام الجلوس ساعات خلف مائدة المقهى.كان الزمن ينساب لزجا مملا و خانقا و كانت الذكريات الملاذ الوحيد أيام ذلك الصقيع.عبر غيم دخان السجائر كانت تشق عباب الأثير مستحيلة قبل اختفائها   قصورا و واحات و ساحات إعدام ومدن سيبيرنيطيقية و ذباب يستميت في محاولاته الأبدية و العبثية في آن. الاختراق الشبه مستحيل للحاجز المزجج و.......                                                    

كان الأرق قد أربك توازني في تلك الأيام الشؤم إذ كان النوم قد هجر جفني أربع ليال متتاليات، و كنت أستشعر ألما متقطعا على مستوى عضلات رقبتي و من حين إلى آخر كانت فرائصي ترتعد جراء وخز شرايين مفاجئ في نقط  مختلفة من جسمي، وخز يشبه تماما رد الفعل الذي نستشعره عادة حين نكون نعبث بآلة قهرومنزلية، فتنفلت إحدى الأنامل لتصل سلكين نحاسيين عاريين، فتلدغنا الصعقة، صعقة القهر وباء.                                                                                

كانت حواسي شبه مشلولة في تلك اللحظة كما لو كنت منوما. لا أدري فيما كنت أفكر حين التفتُّ بشكل ربوتي نحو مصدر الصرخة.شعور غريب سيطر علي آنها، خلت إثره أن الصرخة هتفت بداخلي.التفت بسرعة..و.. ظللت ساهما أتفرج ببلاهة من لم يفهم بعد، فوق الرصيف قبالة المقهى ، كان باب المنزل الوحيد المدسوس وسط صف المكتبات الصفراء  ،مشرعا على مصراعيه،كان هناك شاب في حوالي الثلاثين، ضخم البنية، يمسك بخناق طفل لا يتجاوز الثامنة.                                   

استوفزت و كان ذلك الجلف قد تمكن من إحكام قبضته بيده اليسرى و شرع سدد صفعات متتالية براحة يده اليمنى حتى كاد يطوح بالصبي أرضا.لم احتمل تلك الفظاظة و وحشية المبارزة اللا متكافئة أيقظت بداخلي غريزة الشعور بالأخر, المستضعف المفترض في تلك اللحظة.اندفعت عابرا الطريق الفاصل بين المقهى و المنزل.كان المكان قفرا،و سحابات رمادية كانت تجثم على قلب السماء. كان الطفل قد تملص، و اندفع يأمل الاحتماء بفتاة كانت تقف ميلا جنب باب البيت. فستانها كان في لون الإسفلت. ثدياها كانا ناهدين على نحو غير مألوف و ردفاها مكتنزين أكثر من اللازم.كانت هناك تستند بكتفها إلى درفة الباب و قد بدا وجهها شاحبا بعض الشيء و عيناها كانت تحفهما هالة غريبة زرقاء.وقفت تتفرج ببرودة و تزجر الطفل ناهرة إياه كلما لجأ إلى الباب.تمليت سحنتها مليا و أنا امسك الطفل من كتفية جاكيتته ساحبا إياه إلى الخلف حين هم بالهجوم من جديد على ذلك الوحش...اغتظت...انفلت الطفل من بين يدي مرة أخرى فجأة و هب باتجاه خصمه و اشتبكا من جديد حتى أني لبثت منشدها أرنو إليهما و إرادتي مسمرة على نعش عجزي.

رغم ضعف بنيته، كانت تتملكه من حين إلى آخر قوة رهيبة فيشرع في الدفاع  يقاوم و يدافع عن نفسه بمهارة قلما نلفيها لدى الأطفال؛ حتى لا تصل الركلات أماكن جسده الحساسة كان  يقرفص و يتكور على نفسه كقنفذ، و حين تسنح له الفرصة يهجم صارخا بأعلى صوته ثم يسدد ضربات متسارعة و عشوائية إلى الجسد الضخم بجمع يديه الصغيرتين.

لم ينفثئ غضبي إلا بعد لأي، فانتهزت فرصة هدنة كانا خلالها واحد إزاء الاخر  في وضعية مصارعين.كانا يلهثان حين  ألبست شفتي بسمة جدية و تدخلت بشكل حازم مخفضا من نبرة صوتي عازما على وضع حد :

ـ حرام عليك يا أخي تعامل بكل هذه القسوة كائنا غضاًَ..ثم أضفت بانفعال لم أتحكم في انبجاسه...جسده لا يحتمل كلَ هذه الرعونة.

لم يقو على تحمل قسوة ألفاظي فصرخ في وجهي:

ـ و ما دخْلُك أنت ؟..إيه..

فُزعت و ازداد فزعي حدة حين أتلع برأسه حتى كادت جبهتانا تتماسانن.رصدت حينها ندبة غائرة جنب عينه اليسرى،و بما أني و أصارحك القول من ذلك النوع السائد ،حسبتها بسرعة و بدا لي جسدي الواهن غير صامد في اشتباك مع شخص تدل المؤشرات الأولى أنه متمرس على عراك الشوارع،حينها خفضت من إيقاع صوتي ،مبتسما حتى أهون من تطور الموقف ،عازما على سلوك سبيل أقل مجازفة...

ـ أستسمح لكن بإمكانك معاقبته بأسلوب يراعي روحه اللعبية...التفت نحو الصبي، و صحت فيه معنفا بنبرة متكلفة ..

ـ أنتم أطفال هذه الأيام لا تقدروا من هم أكبركم سنا...

أجهش الطفل بالبكاء، و بدا في تلك اللحظة، بشعره الأشعث وعينيه الدامعتين مثل أي طفل مضطهد في العالم.بعد برهة أجابني شاهقا.

ـ لا أريد... شهق ثم أضاف...إنه مجنون

التفت نحو ذلك الغبي مستفسرا بإيماءة تلقائية.

ـ ابنك ..؟

عوض أن يجبني، من جديد اندفع بشكل أهوج محاولا الإمساك بالطفل، لكني تمكنت من صده مبعدا إياه بيدي اليمنى.انزحت و توسطتهما، أحسست آنها بجسدي يغلي كمرجل.

ـ مهلا،فلنتفاهم..ماذا تريد منه؟...سألت في شبه يأس..

صفق قاصفا في أذني صوته الأبح..

ـ قلت سيذهب معي، يعني سيذهب معي هذا اللعين.

كانت الفتاة تتأمل المشهد ببرود مريب.تعلك الشوينغوم بطريقة توحي بالمجون و التآمر،تنفخ فيه حتى يصل إلى حجم فقاعة الصابون ،ثم تفرقعه وتعيد مضغه  مصدرة أصواتا مقززة كما لو كانت تمضغ صرصورا.لم أتمكن من معرفة علاقتها بالطفل، المهم حين كان الطفل يتوارى محتميا تزجره و هي تصرخ و تهدد ملوحة بيديها الاثنتين.

التفت من جديد نحو ذلك الجلف و أومأت له متوددا ثم ناديت الصبي وأنا أردد.

ـ بالحيلة سيذهب معك ،برفق، أينما تريد سيذهب معك،أنظر..قرفصت  و بعد أن عدلت ياقتي جاكيتته تصنعت شكل البهلوان واستدنيت الصبي.

ـ لم لا تذهب مع بابا ؟سيشتري لك شكلاطة...

تطلع إلى بعينين دامعتين و قطب حاجبيه، هم بقول شيء ما لكنه عذل مشيحا بوجهه عنا ولا أدري فيما كان أفكر لحظتها.بعد برهة, بدا خللها أن الآخر قد ضاق درعا بالأمر، نبس بصوت ناعم:

ـ ليس بابا، إنه متوحش..ثم استرسل جاهشا..

ـ توسلته فيما مضى كي يخرجني لكنه كان يمتنع مصرا على إبقائي في سردابه المظلم ، والسرداب تقطنه وحوش و عناكب ،كانت ترعبني فيما مضى لكني ألفت بشاعتها الآن...لا، لن أذهب معه مهما كلفني ذلك.

ذهلت و أنا أستمع إلى ما فاه به الصبي ،بدا لي لبرهة أن الطفل وهمي و لا وجود له على الإطلاق .فكرت أن الحقيقة و الوهم لا يتنافيان .

ـ لا تصدقه إنه يكذب مثلما يتنفس هذا الملعون...

خلسة تسللت بسمة من بين شفتي و أنا أرد عليه كاظما غيظي.

ـ لنفترض يا أخي،لكن بميسورك ابتداع أسلوب أكثر تخلقا في معاقبته ،هذا إذا ارتأيت ضرورة معاقبته، إضافة إلى أن كذب البراءة عنوان صفاء...قاطعني و كان قد استشاط غضبا و شرع ينتثر من فمه رغاء لزج أصفر.

ـ إنه لا يفهم سوى هذه اللغة..و دفع بيده محاولا الإمساك بالصبي الذي كان يحتمي خلفي،حدست آنها من حركاته العنيفة أنه مصمم على مبتغاه . بغتة، و دون توقع أذعن الطفل و في دفقة يأس تبدت واضحة من تجهم أساريره استكان و نبس بصوت متهدج.

ـ حسنا، سأذهب و إياه، على الرغم أني لا أرغب في ذلك....

لبثت مشدوها، و بعد برهة لمحت يد الجلاد تطبق على معصم الضحية، يده اليمنى، و مضيا.حين تداركت نفسي التفت نحو باب البيت العتيق، كان قد أنقفل.

حتى اللحظة و بعد مرور كل هذا الزمن،لا أدري هل كل ما حصل كان مجرد وهم تجلى كبداية لحالة الانهيار؟حدث خيالي نسجه الذهن دفاعا عن نفسه؟لست أدري..لكن البارحة صباحا و أنا أراقب الحليب يغلي تحت لهيب الفرن لاح السؤال فقاعات بيضاء.... لم عاودت ملازمتي تلك الأحداث أو أطيافها منذ أخبرني الطبيب أني أتماثل للشفاء؟

فاض الحليب جداول فوق الفرن...كانت إذا تنتمي إلى العالم الواقعي و قد سبق أن عشتها...

بعد أن اختفيا عن ناظري ،قفلت آيبا إلى المقهى،و جرعة واحدة،سكبت فنجان القهوة في جوفي،فازدادت حدة خوفي  .حين نقدت النادل، ما زلت أتذكر، سألني... وجهك ممتقع ما بك؟

لم أجبه ،لبثت ساهما لبرهة –أي وحش أوحى لي بفكرة اقتفاء أثر كائنات لا تربطني بها أي علاقة تواصلية؟...لو كنت أعلم بما كان سيحدث لما ذهبت.انطلقت ركضا خلفهم و ما هي إلا برهة حتى لاحا إلي عند ناصية إحدى الزقاق فخفضت من إيقاع خطواتي محافظا على مسافة زهاء العشرين مترا حتى لا أثير انتباه ذلك الفظ.سلكا الاتجاه المفضي الى البحر كنت أعرف تلك الطريق جيدا خلال طفولتي ،شارع لويس كارول وحين تبلغ تقاطع الحرية تنعطف نحو شارع هوميروس الفسيح، أو من الأفضل أن تسلك مختصر كيبلينغ حين تجتاز أسوار المدينة القديمة، و قد جالت بخاطري فكرة أنه ربما يعزم التخلص من الصبي بقتله و تقطيع أوصاله و رميها بين الصخور الشائكة المترامية جنب المنار العتيق،خاصة أن هذا النوع من الجرائم كان قد كثر في تلك الأيام-اغتصاب الأطفال و قتلهم-و قد كان و لا يزال لدي نزوع غريب نحو التصورات ذات الطابع المأساوي و قد عزوت الأمر مرارا إلى تركيبتي النفسية الهشة و إلى  تأثير تراجيديات أوريبيد الرديئة التي كنت أدمن قراءتها خلال طفولتي...

كانا أمامي ،حرصت على ألا يغيبا لحظة عن بصري،و قد كان الأمر في غاية الصعوبة إذ كانت المنطقة التي نعبرها حيا راقيا من تلك الأحياء التي قلما يرى فيها حد المارة .في منعطف إحدى الزقاق ،التفت الصبي فلمحني،نعم لمحني ،ما أكد لي ذلك هو معاكسته ذلك البليد  و كان قد اختفى وراء الزقاق في تلك اللحظة ،و بينما كان الصبي يلوح إلي بيديه الصغيرتين لمحت يد ذلك الجلف تسحبه بعنف من رقبته.اختفى هو الأخر كما لو أن وحشا لا مرئيا كان رابضا هناك التهمه.ركضت خوفا من فقدان أثرهما،و حين عرجت يمنة، خفضت من إيقاع خطواتي من جديد محافظا دوما على فرق المسافة بيننا.كان الطفل من حين إلى آخر يلتفت، تارة كنت أرى ابتسامة وردية ترتسم على شفتيه و طورا كنت المح بريقا منطفئا في عينيه تبدى لي في تلك اللحظة توسلا لإنقاذه...

حين بلغنا حي الوحدة خففنا من سرعة خطانا و كانت الفيلات خفيضة البناءات مزدانة ذات واجهات مزدانة بالزهور و النباتات،و على امتداد الجدران كانت الأعشاب الخضراء تتكاثف في انشباك مزعج يحول دون تسلل الضوء إلى داخل تلك المنازل الجميلة و الصمت الذي كان يرخي بظلاله الكلسية على المكان كان يضفي لمسة حزن تبدت إثرها بلكونات تلك المنازل شاحبة و مخيفة كأثداء إسمنتية ذاوية تتهيأ للوثب على شفاه لا مرئية.كان الجو كئيبا.واصلت المسير خببا تارة وببطء تارة أخرى، من زقاق إلى آخر...

تنفست الصعداء حين عبرنا شارع "ايفريقيا" نحو "شارع الأمجاد " الضاج بالحركة و الحياة و الضجر و المفضي رأسا إلى شاطئ البحر .رغم الازدحام كانت المطاردة ناجحة.

بغثة، توقفا أمام بناية منيفة توجد في منتصف شارع الأمجاد محاذية مقهى لو دوبل الشهير ،الذي تظلل مظلته الرصيف العريض ،الذي يرتاده بكثرة رجال القانون؛ المحامون و القضاة و السماسرة وكذا عمداء الشرطة و القوادون و الجواسيس و الخونة و تجار المخدرات و تجار الأعضاء البشرية و الرقيق و كثير من رجال السياسة من حفدة بيرس٭.مقهى "لو دوبل" من لا يعرفها في الحي الشرقي بل قد بلغ صيتها ما وراء البحر و قد اخبرني العم إرنيست٭ أن مالكها السابق كان معمرا نمساويا و قد كان اسمها "الدوبلغانغر".

ظلا مسمرين زهاء الثلاث دقائق،كان خلالها ذلك البليد يتطلع مشرئبا برأسه إلى أعلى كأنه يروم قراءة شيء ما،ربما إحدى اليافطات النحاسية التي تكون عادة معلقة في مداخل عمارات شارع الامجاد .تظاهرت أنا حينها بالتفرج على واجهة محل لبيع الأدوات الرياضية و ألبسة فنون الحرب. شد نظري سيف ساموراي نصله كان يلمع خلف الواجهة المزججة .رحت أتملى براعة صنعه و من حين إلى آخر كنت استرق النظر خطفا باتجاههم.زاغ بصري الى داخل الدروغستور  ،كانت تفتح قاعتها الفسيحة لاحتضان الزبائن ،طاولات البلياردو و الاعمدة المنتصبة داخل القاعة بدت لي بهية و هي خالية من الزبائن في ذلك الصباح .حين التفت و لم ألمحهم أدركت أنهما ولجا البناية،فتبعتهم في التو،و ما إن هممت بولوج البناية حتى وقع بصري على شرطي يجلس خلف مكتب صدئ في الرواق المظلم المفضي إلى المصعد.كان ذهني يعمل بسرعة قصوى و الأسئلة تنهمر كزخات رشاش.

من الذي جاء بالشرطي هنا ؟ هجست إلى نفسي ..؟لاأدري من أين جلبت تلك الجرأة،إذ و دون أدنى تردد واصلت السير متجاهلا الشرطي فإذا به يشير إلي بالتوقف:

-إلى أين؟

أجبته بأن شددت قبضتي و رفعت سبابة يدي اليسرى إلى أعلى.

-معك الطفل؟...سأل دون أن يرفع رأسه،سطح قبعته بدا لي كرقعة شطرنج فقد علته لطخ أوساخ تقاطعت في مربعات بيكروماتية٭...

-نعم...أجبت دون سابق تفكير

لم يسألني أين هو فقط تزحزح في كرسيه و نبر بصوت واهن..

- هنا لا يأتي إلا من يرغب في التخلص من الطفل،إذا لم يكن معك طفل فيجب أن تلج البناية الأخرى...قوة ما كانت تتحكم في شفتي... أجبته في التو..

-نعم معي الطفل...لم يعاود مساءلتي اكتفى بالإيماء بيده في اتجاه المصعد ثم ما لبث أن أعادها حاجبا فمه،فأكمل تثاؤبه و دفن رأسه متابعا تفحص جريدة صفراء كانت ملقاة بجانبه.عالم أحمق تراءى لي في تلك اللحظة.

حين بلغت المصعد كانا قد صعدا،لكني تمكنت من معرفة الطابق من خلال ميناء المصعد .الأرقام الواهجة تتموه

 1-2-3-4-5 ،وروحي معها.توقف في الطابق الخامس.بعد برهة هبط المصعد فولجت بشكل آلي و كبست على الزر رقم 5 ،و كانت الأرقام تمتد بلانهاية ،إنها الطوابق تمتد إلى ما لانهاية نحن إذا في ناطحة سحاب .فكرت و أنا في المصعد "ربما هما بصدد زيارة طبيب للأطفال"، لكن صوتا آخر كان يهتف بداخلي:لا...لا...لا شيء يثني عزمك أكمل المغامرة و تذكرت و أنا أتملى وجهي في مرآة المصعد ما قاله لي العم تسو٭ ذات يوم في مقهى "الانتظار"لا تتق في قشرة التفاحة فحقيقة القشرة دوما تخفي حقيقة جوهر التفاحة...

لطيف العم لاو يفاجئك دوما بأشياء جديدة.

توقف المصعد.

باباه ابتلعهما الحائط.الرواق يرين في أرجائه صمت مظلم.

-كيف سأتعرف المكان الذي ولجاه ؟هجست في دخيلتي إذ كانت أبواب الشقق المتراصة كلها مقفلة.لم أتمكن فآثرت التريث إلى حين ظهور إشارة ما،و لتزجية الوقت سرت أدرع الرواق رواحا و مجيئا بخطوات خافتة حتى لا يند عني صوت ينبه شخصا ما،و كنت من حين لحين أرهف السمع علّي أتمكن من سماع صوت الصبي حين سمعت صوت هسيس كابلات المصعد مؤذنا بقرب توقفه .أخيرا .انتصبت مستوفزا.ياللغرابة لفظ المصعد شابا أنيقا يلبس نظارات طبية و برفقته طفل صغير يلبس ثيابا أنيقة و نظارات طبية هو الآخر.لم يأبها لوجودي قصدا أحد الأبواب ،و حين كبس على زر الجرس كنت أنا وراءهم أقف مذهولا،وما إن انفتح الباب و دخلا حتى اندفعت خلفهما...

لن تصدقوا...أكيد لن تصدقوا...لكن...الذي رأيته كان حقيقة... و إلا ...لما أكتب لكم الآن...

...قاعة شاسعة الأرجاء,لاتحدها الأبصار ،ولا تخضع في كل الأحوال إلى معلم الزمكان،تتسع إلى مالا نهاية ،تضج بالخلق من مختلف الأعمار و الأمصار .مئات الأشخاص ،آلاف بل ملايين و لن أغالي إذا قلت ملايير البشر كما في يوم الحشر.

كانوا هناك مصطفين أمام المحفل الرهيب المنتصب إزاءهم على يمين مدخل الشقة.أسندت ظهري إلى الباب و بدا أن لا أحدا انتبه إلى وجودي كلهم كانوا غارقين في بحر طقوسهم الكانيبالية.بعد برهة تعالى خلالها الضجيج أضيء هيكل مبني على شكل درجات يؤطر قمتها شبه هَرَم.أدركت حينها أن في الأمر احتفاء ما فقصدت الحشود الجالسة و حين تنبهت إلى عدم وجود كراسي شاغرة تربعت في الممشى مثل آخرين، غير بعيد عن الصفوف الأمامية حيث تهالكت أجساد شخصيات بدت مرموقة من خلال النياشين اللامعة التي كانت تنمق أكتافهم و صدورهم و قلوبهم.

قبعات عسكر و عقالات و عباءات جعلتني أدرك أن هناك ضيوف من كامل أزقة الحي الشرقي .

انداحت برهة من الزمن بدا الأمر خلالها و كأنه كارنافال منفلت من عصور غابرة.تصاعدت ،لا أدري من أين ،أنغام موسيقى ذات إيقاع غريب و بعد برهة، كانت في الواقع دهرا, حل الصمت.صمت رهيب أرخى سدائل صمته على كل الحضور.لا صوت و لا حركة إطلاقا.كان المشهد مهيبا و مفزعا في آن.فجأة انفتح أحد الأبواب المنيفة على يمين الهيكل فتقدم جمع من الكهنة بلباس أسود فضفاض يحملون على أكتافهم محملا من مرمر و فوقه، طفل مسجى دون حراك، مغطى بثوب ابيض متماوج لا يبرز منه سوى رأسه المستند إلى مخدة سوداء.بدا منوما أو محقونا بمخدر ما.

شق السكون دوي  قادم من غابر الأزمنة ظل رجع صداه النحاسي يتردد شالا الحواس دونما رحمة ،لكني كنت له بالمرصاد و كانت حواسي متيقظة متمترسة خلف درع الطفولة الهلامي .جولة واحدة ببصري لم تدم أكثر من ثلاث ثوان كانت كافية حتى أفك مغاليق الرموز و المسكوكات وأستشفر الكتابات التي كانت تعلو التماثيل و النقوش البارزة .تبين لي أنها كتابة فينيقية و بسرعة الضوء أدركت أنها طقوس تقديم القرابين لإله الشر الفينيقي" مولوك"٭، الإله الرهيب الذي ذكر في العهد القديم.

لم يخب ظني ـ أدركت حينها أهمية دراسة الديانات القديمة ـ إذ في تلك اللحظة البرقية مزق الصمت من جديد دوي أرعب من الارتطام النحاسي و الأرعب هو ما وقع بعد ذلك إذ ثم إنزال الصبي.

حيا الحضور.نهض الصف الأمامي و انحنو جميعهم دون استثناء.جثا أمامهم على ركبتيه ثم استدار و ركع مرة أخرى أمام الكهنة.تقدم منه كاهن بتنورة سوداء يحمل بين يديه وسادة مكسوة بثوب أخضر و عليها شد خنجر طويل حاد نصله كان يومض في ضوء الشموع.بحركات أوطوماتية نضا الصبي عنه ثوبه حتى الخصر. بدا منفلتا من عصور غابرة وسط غيمة البخور المغبش بالأضواء الخافتة.تسلم الخنجر و طعن بطنه في جنبه الأيسر و شرع يبقر بطنه، لم تمر سوى لحظات حتى ارتعشت أوداجه و شرع وجهه يصفر و تصلبت تقاطيعه و طفق يرتعش .تقدم منه ضخم الجثة و استل سيفا طويلا و بضربة واحدة فصل رأسه عن جثته ،فهوى الرأس على الأرضية و تدحرج  لمسافة طويلة،لكن، الغريب و الذي لم أجد له تفسيرا هو أن الدم لم يتطاير ،ما جعلني أعتقد في تلك اللحظة أنهم ربما ينزفون المرء بطريقة ما من دمه قبل قتله.أزال السياف القناع و حيا الشهود و انسحب من الباب نفسه و لم تكد تنقضي برهة كانت خلالها التصفيقات تتعالى، و بعد فجوة صمت ،حتى انطلقت ابتهالات غريبة لم أسمع مثلها من قبل.

مولوك حي... مولوك حي لا يموت...

مولوك سليل الآلهة... مولوك رب الآلهة

مولوك  أب مولوك ملك الملوك...

الكهنة يدخلون من جديد و على أكتافهم المحمل عينه.لمحت الصبي الذي اقتفيت أثره . لم أتمالك نفسي. ركضت باتجاههم.عمت الفوضى، حاولوا منعي لكني تمكنت من إسقاط المحمل و احتضنت الصبي، كان يتنفس بصعوبة بالغة.مفعول المخدر ربما.حاولت إسعافه عبر ضخ جسمه بأنفاسي،لكن دون جدوى.سمعت صوتا حادا و حين التفت لمحت السياف و ...لمحت... السيف ،ذو النصل العريض اللامع، فوق رأسي بالضبط...أغمي علي و لم أع إلا و الطبيب المكلف بعلاجي يخبرني أني قضيت تسعة اشهر بالساناتوريوم و أني أتماثل للشفاء...البارحة دفعني الفضول فذهبت إلى ذلك المنزل العتيق المقابل للمقهى، بدا لي و كأن ما حدث مند سنة لم يحدث سوى قبل يوم أو يومين.باب المنزل العتيق من الخشب المسوس، مزين بشرائط حديدية  نخرها الصدأ و قضبانها مقتلعة من أماكنها.طرقت .لم يفتح لي احد,طرقت ثانية،ثم جلست طويلا أمام عتبة الباب و بكيت ولم تجبني روح الباب ...عدت في المساء و هذه المرة كان الحظ حليفي إذ فتحت لي الفتاة،الفتاة عينها.كانت متأنقة و بدت لي في تلك اللحظة ماكرة و مراوغة.

-أريد الحديث إلى صاحب البيت.

-من أنت؟سألت بصوت ماجن...

-أخبريه أني صديق قديم...دخلت، و بعد برهة، ظهر عجوز مترهل ،وجهه أسمر و مليء بالغضون و الثنيات...إنه هو أيعقل أن يصير عجوزا في ظرف سنة؟أنا متأكد أنه هو إذ رصدت الندبة إياها جنب عينه ليسرى..

-ألا تذكرني ؟...و تمتمت مرتبكا ..أنت و الطفل..أجابني مباشرة بامتعاض

-أي طفل...عمَّا تتكلم؟

-ابنك الذي قتل في ذلك المبنى.؟..

-سامحني لا اعرف عما تتحدث.و لكي أريحك فأنا عاقر و ليس لدي أولاد...أخطأت العنوان.

حين هممت بإخباره عما حدث..تصور أخي نبيه...صرخ بصوت غاضب.

-أنت أحمق...و أمطرني بسيل من الشتائم اللاذعة ثم أقفل الباب في وجهي .