الانكسار
وزنة حامد
الشرق العربي ...
أو الشرق الأوسط...
أو الشرق الأبعد ... أو الأقرب.. لا تهم التسميات ولا الألقاب ... هذا الشرق العفن الذي يغط من ألف عام وأكثر بعادات مبتذلة رخيصة وتقاليد عفنة وهشة ... المادة سيدة الموقف ... داء العظمة بلاء لكل الضعفاء ... عنترة الشوارب الطويلة هي سيدة الموقف ...
المرأة ... العبدة أو الجارية أو السبية الرخيصة أمام الرجل ... قيم ضائعة بل مفقودة جوعٍ اسود ... وعطش قاتل ... ماذا بقي في الشرق .. ومتى كان الشرق ... ؟حتى يكون الشرق كما نحلم يجب عليه قطع ألف عام ومع ملايين الناس لولادة أجيال لا تؤمن بما آمن به الشرق ... بهذه الأفكار وبهذه الحجة كان يحاور ذاته ونفسه ... إنه الغرب ... الغرب بأبعاده ... بحضارته ... برقيه بكل معطياته الغرب ... آه ... وتنهد ثم أطبق محفظته وأعلن السفر والمآذن والمدافع الرمضانية تعلن شهر رمضان المبارك...
منذ نعومة أظافره يكره الشرق ... كره ولادته ... كره أسرته ... حيه... مدرسته ... تعلم الانجليزية تفنن بألقاب أقتنى الأشرطة الغنائية الأجنبية ... رسم وجهه بمنظر أوربي ... أطال شعره وقصه كالفتاة ... أطال لحيته ... وأظافره ولم يبق له سوى انتظار ( الدورة النسائية ) واتجه إلى المطار
فأوراقه جاهزة حتى أصدقاءه تركهم بلا وداع... ولم يصدق متى تصل الطائرة التي تقله لفرنسا أم الحضارة ... أم الحرية... أم الآداب العالمية والشعراء والفلاسفة... ولكن لماذا الطائرة لم تصل وإنه يحتاج إلى الانتظار فجلس وحيداً ولكنه غارق في عالم الغرب ... هذا البلد الذي حلم بزيارته والإقامة فيه ولو عارياً جائعاً ... ومرت اللحظات ثقيلة بطيئة وعيناه وإذنه يترقب وإنصات لصوت المذيعة وهي تعلن عن وصول الطائرة ... الأجواء طبيعية ... هادئة ... والرياح اعتيادية ... لا شيء يكدر السفر ويؤخر وصول الطائرة ... ولكن تأخرت الطائرة ... سأل أحد المنتظرين عن التأخير ... قلب الآخر شفتيه عن عدم السبب ... طلب فنجان قهوة ... احتسه بسرعة أشعل السيجارة الثالثة وارتفع صوت المذيعة معلنة عن وصول الطائرة فهب مذعوراً واتجه إلى باب المغادرة ....وصل الفندق الذي حجز فيه شهراً للإقامة لا يهم النقود فقد استدان بما فيه الكفاية...
الفندق أسطورة من الجمال ... بدعة في البناء أشبه بقصور العظماء والسلاطين ... أيعقل أن ينام في هذا الفندق شهراً ...؟ أيحسد ذاته على هذا الفندق ...؟ خدم ... وفتيات بعمر الورود ... أنيقات ... جميلات مهذبات ... في حين إن عمال فنادق الشرق فتوة وزعران .... يا الله الفرق شاسع وأين الفجل من التفاح...؟ كم تمنى لو يعمل في هذا الفندق ... عاملاً .... صانعاً فراشاً ... أي شيء كان يتزود منه ويعمل مع جوه ويصبح أحد عماله .... الطعام من النوع الفاخر ... الأواني ذهبية وفضية ... ملاعق تلمع ... طاولات مصفوفة أنيقة هدوء ونظام ... همسات الابتسامات رقيقة تشجع السياح على اعتياد هذا الفندق والمطعم الأنيق ... أيعقل أن يعمل به أيعقل هذا الفندق بحاجة إلى عامل مثله ....؟
إن عمل سنة في هذا الفندق يغير مجرى حياته للأبد مادياً وحضارياً ولكن .... هل تأت المناسبة ...؟ من يدري مرت الأسابيع الأولى سريعة ... كانت لوحة ناقصة ... لم تكتمل في خياله ولم تعط الانطباع الكافي عن هذا البلد ... رغم مشاوير مع صديق له ... انفقا الكثير من الأموال ... تعرفا على الكثير من
عادات هذا البلد الراقي ... الممتد على جغرافية شاسعة فرنسا أم الجمال أم الإبداع ... ولكن لماذا لا يجد في هذا الغرب كما كان يراه في الشرق... أين الأضواء التي كانت تنار وقت السحور...؟ صوت الجارة للجارة وهي توقظها للسحور ... أين الطبال ...؟ أين صوت المآذن وتكبيرات المساجد ... أين صفوف الطاولات قبل الإفطار وتجمع الناس في المقاهي ... أين باعة التمر هندي والسوس ...؟ أين لاعبو الشطرنج ... تداعت صور الشرق أمامه تتهادى صور يوم العيد وآذان الجوامع من مآذن مضاءة ... وخروج الناس من المساجد وانصراف النساء إلى الطبخ وتجهيز الطاولة وتحضير
المأكولات والحلويات للضيافة ... أين أطفال الحي وهم بثياب جديدة ....؟ أين المراجيح ...؟ أين ...؟ دفن سيجارته في المنفضة لقد عمل في هذا البلد الغربي والذي من أجله سلخ محبته للشرق ووهبها للغرب ... بيد الظروف لم تواكب حظه ... ربما توفر له المال ... ربما ارتسمت بهجة الغرب لبضعة أيام ولكنها اصطدمت بجدار مسدود ... فالأجرة لا تكفي . الحضارة هنا قلصت تقدمه الكل يأكل دون كلام ... ويتكلم بدون إزعاج ... ويغضب بهدوء ... ويعتذر بهدوء فأين هو من هذه الصور ففي بلده الكلام أكثر من الطعام ... وإزعاجات حتى في النوم والعفو نادر ... ولكن مع كل هذا فإن للشرق طابعاً مميزاً ... طابعاً يشعره بالانتماء للأرض ... الانتماء إلى الأصدقاء ... الانتماء إلى الروح ... وهنا لا انتماء إلا بغطاء مغطرس ... ولا أصدقاء إلا لساعات قليلة جداً بعدد الأصدقاء ... وعندما تنتهي ساعات العمل ترى الناس أرقاماً تتزاحم على الطرقات والأتوبيسات والقطارات والمترو ... وعند المساء تضاء المصابيح على رجال الأعمال والمطاعم والمقاهي... لا كما تنار عنده في الشرق حيث السهر والسمر ... والأحاديث والقصص ... إلى أن يلملم القمر عباءته ويقود نجومه خلفه ... إن الحنين للشرق ... هو حنين لملكوت السماء ... إن الحنين للشرق هو عودة الإنسان إلى طفولته ...! حماقات مراهقته ... إلى مرح الإنسانية على بيادر العفوية والشفافية ... سئم الغرب ... سئم التقاليد المعلبة والأخلاق المؤطرة والحرية التي تكسر طوق وحدود وجغرافية اللامألوف ... وحين تصطدم جغرافية الحرية على أحجار اللا منطق ... تتمزق عباءة المألوف وتظهر عورة اللانسانية ...
لم يدر كيف وصل المطار ... ولم يعد ينتظر الطائرة وموعد وصولها ... أنه ينتظر الشرق قادماً إليه فكل الوجوه التي كان يراها في المطار بانتظار وصول الطائرة هي شرقية فأرسل ابتسامة لكل مسافر ... لأنه تقاسم أو سوف يشاطره الانتماء والعودة إلى أحضان هذا الشرق العظيم.
وعندما هبط أرض الوطن أدمعت عيناه ولا يدري هل خلاصاً من الغرب العفن أم من فرحته للشرق البريء... وترك دمعته تترجم زخمها وانحدارها على خد لثم أرض الوطن.