عربدة في الشط الآخر من الكون

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

لم يروق للفتى الذي يميس في شرخ الشباب وميعته السكن الجامعي الذي أتحفته به جامعته التي أصرت على غيها، ومضت على غلوائها في تكبيل حريته ووضع القيود والأغلال أمام نزقه ومجونه، فهي ترفض في إباء وشمم أن يدخن لفافة تبغ في حواشيها المترعة بالعلم والمزدانة بالجمال فضلاً عن المخدرات التي يزعم أنها تهبه الذهن المتقد، والبيان المشرق الجميل، كانت جامعته توصد الأبواب أمام أصحاب السفه والفجور، وتسدل الستور في وجوه الراغبين لاجتراح المعاصي واقتراف الذنوب في تلك المدينة التي لم يداخلها صلف، أو يشوب وجهها كلف، المدينة التي يحاكي نساءها ملاسة المرمر، ونداوة الزهر، وتضوع العنبر، المدينة التي تصدح بالأهازيج، وتعج بالأناشيد، وتقصدها قوافل السياح ورواد اللذة الذين يجنونها في يسر، ويتداولونها دون تعقيد أو وجل من جلاوزة النظام المنتشرين على أقاريز الشوارع، ومشارف القنوات، مدينة يتضرع الصالحون فيها على قلتهم بأن لا تصيبها عوامل الذوي والبلى الذي اجتاح مدن قريبة على شاكلتها، الصالحون الذين لا تنغمس أيديهم في منكر، أو تسعى أرجلهم لخطيئة هم الذين يملأ دعاؤهم جوانب أرضها وخوافق سمائها بأن لا تصير مدينتهم التي تاهت عن الطريقة المثلى، وفارقت العروة الوثقى أثراً بعد عين.

كان وائل عبد الحميد الفتى القسيم الوسيم الذي ينحدر من أسرة كظها الغنى وبشمتها الثروة غارقاً حتى أذنيه في أوضار الانحراف والضلال، فهو منذ أن طرّ شاربه، وترقرق في عطفيه ماء الشباب، عابثاً، متهتكا، ماجناً، سفيهاً في الجملة، خليعاً في التفصيل، دأبه أن يقارف اللذة، ويفني نفسه في تحصيلها، حتى طارت له هيعة منكرة، وخضّب أسرته بميسم العار، فلم تجد عائلته التي إنجذم حبل رجائها، وضل رائد أملها في صلاحه وتقويمه، سوي ترحيله إلي خاله الأستاذ الجامعي النابه الذكر بدوي المتعافي، البروفيسور الذي يملأ شعاب كل قلب بالإعجاب والذي يعمل في ذلك الركن القصي من المعمورة، في تلك الديار المتعددة الأعراق التي سعى الغرب لترويضها واستئناسها من قبل دون طائل، عقد وائل العزم على أن يمضي خلف شعوره الذي طغى على فطرته، فلقد وجد نفسه منسجماً مع الخطايا والمنكرات، وسيمضي على هذا المنوال حتى تخترمه المنية وتطويه الغبراء، ولن يستطيع أي أحد مهما أوتي من قوة وصلابة أن يزحزحه عن عزمه، لقد أقسم وائل في قرارة نفسه ألاّ يبارح شريعته التي أوحاها له شيطانه الرابض في صدره قيد أنملة، تلك الشريعة التي تكفل له مواتاة كل لذة، ومقارفة كل إثم، نعم لقد عاهد شيطانه أن يظل عاكفاً على اللذة وقد أوفى بعهده فهو منذ مقدمه لتلك الأراضي الموشمة البقاع، الناتحة النقاع يحرص علي حصد الشهوات والسير في مدنها الخربة الحافلة بأصحاب الرايات الحمر وبغايا الرذيلة، حرص الشحيح على ماله.

لقد أوصاه خاله بدوي الذي أدرك أنّ ابن اخته قد علته غبار الشهوات، وصرعته حبائل الشيطان، فلا طائل من نصحه، ولا جدوى من إرشاده، بعد أن استفحل فيه الداء وأعضل، ولأنه يعلم جلياً أن قمع جيشات أباطيله، وكبح صولات أضاليله، ضرباً من المحال، وغاية دونها خرط القتاد، أوصاه وصية أحسن فيها وأوفي، وأوجز فيها وأكفى، أوصاه ألا تنقطع الصلة بينه وبين ربه الذي صاغه من عدم، فالصلاة تمحص الذنوب، وتجلو الخطايا، وترد مرتادها إلي الله وإن طالت غربته، أمره خاله الحاني أن تكون الصلاة عنده أعذب من الصهباء، وأشهى من ثغور الحسان، كما أوصاه بأن يتصدق من ماله بعد كل جريرة يقترفها، وذنب يرتكبه، لأن الصدقات تطفئ غضب الرحمن وتجعله جلا وعلا يتغاضى على آثام عبده إلي حين رغم تهافت عبده الفاحش على نيل اللذة التي يسعى لنيلها وإن نالته مشقة في نفسه، ونقيصة في عرضه، ووكس في دينه، هذا بالطبع إذا لم تقتضي مشيئته عزّ وجلّ أنّ يذيقه وبال أمره، فيهتك ستره ويجعله أحدوثة تتقارضها الألسنة،لأنه تجبر وطغى وخلع عِذار الحياء، وأصاب الأخلاق في مقتل.

كان وائل وصديقه في الخنا والفجور أحمد ابراهيم الشاب الوضئ الطلعة، الفارع الطول، الفاحش القول، الذي يتقلب في حمأة المعصية، ويحرص عليها حرص العابد الأواب على صلاته، ينتظران مطلع ذلك اليوم بصبر نافذ، ومهج صدئة دائبة النزوع لمواخير الفساد ومواتاة الرذيلة، وما أن تبزغ شمس ذلك اليوم الفضيل الذي هو في الأيام بمنزلة الأعياد في الأعوام، حتى يغادرا سياج الفضيلة ((جامعتهم)) التي لا تيسر لهم مراماً، ولا توفر لهم سانحة، لإخماد شهواتهم المتأججة، إلا في تلك الأيام التي يهول ((كُتّابِهِمَ)) فيها إسرافهم في المعاصي، وإغراقهم في السيئات، لقد نسى هذين العبدين المارقين أن الدنيا ليست بباقية لحي، وما حي على الدنيا بباقي، ففي بواكير كل يوم جمعة ينتبه كل طرف وسنان، وينتعش كل عضو ذابل، لينساب كالسهم النافذ إلي المهفهفة الدعجاء التي تحتوي على شتى الألوان من الحسن، ومختلف الأشكال من الملاحة، تغمرهم أمواج نزواتها، وتطويهم لجج شهواتها، ويظلوا عاكفين على صفحة خدها الأسيل المرصع بالرياحين، لاثمين ومكبرين حظهم الذي قادهم لتلك الأماكن التي صفا عهرها، وخلصت كعابها من كل كدر وعيب، وبعد نيل الرغائب، وقضاء الحوائج، يتحلقوا حول معبودتهم التي لها أشياع وأتباع في كل مكان، الصهباء التي لم يقلوها أو يسلوها ، تسقيهم إياها رّعبوبة ملداء، لينة الأطراف، ثقيلة الأرداف، ترتدي ثياب تشف عن جسدها الذي يفتن الضرير، ويضرم شهوة من أزفّ للرحيل، جسدها الذي يضاهي زهر الربيع في ألقه وسحره، خلياً من الهوى، بريئاً من الصبابة، مولعاً بالعناق والدراهم العتاق، وأخرى تتمايل كأنها قضيب خيزران على وقع الموسيقى الصاخب الذي يروق لوائل سماعه بعد أن يخمد غُلمته، ويشبع نُهمته، حتى يطغى ضجيجها على صوت أحمد ابراهيم الأجش الذي تستك منه المسامع وهو يتغنى بأغاني موغلة في القدم، لمغنيين لم يكن يتألف قط من مجموع حياتهم صواب، أغاني لا يتذكرها إلاّ حينما تدب الخمر في عظامه، وتعربد في مفاصله، وبعد قضاء الوطر وبلوغ اللذة يبدأ وائل وخله الوفي أحمد في التردد على منازل من علائقهم بالسماء مزعزعة الأركان، متداعية البنيان، أصحاب النزق والمجون..الذين تصرعهم سكرة اللذة وتأخذهم حُميا الشهوات،كان أولّ من يوفدون إليه هو ذلك الرجل المديد القامة، الضخم الهامة، الذي تعلوه سمرة لا تعيها العين إلا حينما يشعُ بهاء ثغره...الباشمهندس الصادق سلطان الذي هجر الفرائض، وعطل السنن، واتخذ الدنيا أماً وأباً، الصادق الذي منذ أن طوى عهود الصبا وبلغ مبالغ الرجال ما طاش له سهم، ولا سقط له فهم في صيد اللآلئ وثقبها بفرحٍ جم، وزهوُ جامح ، المهندس الألمعي الذي بسط الله له في الرزق ولم يتزوج بعد رغم أنه قد أرزْم على الأربعين، وقد خطت وقائع الدهر توقيعها على شعره الذي يحرص دوماً على تصبيغه باللون الأسود، كان إذا سئل عن سبب تأخره في الزواج يجيب ببيت من الشعر لا يحفظ غيره

لنْ تُصادِفَ مْرعىً مُونِقاً أبداً..... إلاّ وجدْت بهِ آثارَ مأكولُ

ذلك البيت الذي يدل على سوء ظنه بقبيلة النساء، يعقبه بقول اقتضته فلسفته في الحياة: إذا أردت أن تكون آمناً من كل سوء، نابياً عن كل كدر، لا ترتبط بأنثى قط، وأجعل منها شبحاً يزور مخدعك ولا يمكث فيه...لقد استحق هذا الفهم العليل الذي يمتهن المرأة ويختزلها في إطار المتعة منزلة الثبات، ومرتبة االرسوخ عند الصادق الذي تستهويه من النساء المرأة التي أعلاها عسيب، وأسفلها كثيب، فلم يسبق لطرفه الوسنان قط أن حدج امرأة هزيلة الجسم، نحيلة الجسد، كما لم يسبق للسانه أن جاد بالتحية لامرأة ضعيفة الخلق، رقيقة البدن.

ونواصل