الثمن غالي
عبير الطنطاوي
مواعيد مواعيد .. حياة (غادة) كلها مواعيد في مواعيد .. إنه لشيء يثير العجب فعلاً من هذه المرأة .. كيف تنسق بين العمل المنزلي والعناية بطفلها الصغير وزوجها الثري صاحب المشاغل الكثيرة ، وبين زياراتها ومواعيدها ! ألا تنام !! ألا تقرأ !! حقاً إنه لأمر عجيب .. كثيراً ما كانت تصل إلى مسامع الجيران صوت زوجها وهو يزمجر ويشتكي إلى الله من هذه المرأة .. فالصغير حرارته مرتفعة ولأن الأم على موعد مع صديقة لم تأخذه للطبيب .. ومرة يسمع الجيران صوته الغاضب لأنه لا يجد من بين عشرات البنطلونات بنطوناً نظيفاً واحداً يلبسه على الرغم من الغسالة الأوتوماتيك في البيت ، ولكن زيارتها عند فلانة شغلتها .. وموعدها مع علاّنة قد ألهاها ..
جاءت مرة إلى إحدى الجارات تشتكي سوء خلق زوجها .. قالت :
ـ تصوري يا أختي .. منذ أن يدخل المنزل والعقدة معقودة على الحاجبين .. الطعام لا يعجبه .. الصغير يشكو من سوء هندامه ونظافته .. أما البيت فهو دائم الشكوى من عدم نظافته ، هل تصدقي أن جارتك (غادة) ـ ذات الرائحة الزكية الفواحة ـ كما يصفها زوجها ؟
قالت الجارة :
ـ ولكن زوجك قد يكون على حق ..
صرخت غادة في وجهها :
ـ حق ؟ أي حق هذا ؟ لماذا لا يحضر خادمة ؟ اليس قادراً مقتدراً ؟
قالت الجارة :
ـ ولم الخادمة ؟ وكلكم ثلاثة في البيت .. وكثيراً ما يسافر ويتركك مع الصغير .. وما حاجتك إلى خادمة تطعمكم على مزاجها وتنظف بيتكم على هواها ؟
ـ لا يا جارتي طفح الكيل .. أنت متحاملة علي كثيراً ..
وغادرت بيت الجارة غاضبة .. وبعد فترة كالعادة جمع بينها وبين تلك الجارة لقاء على فطور عند إحدى الجارات بمناسبة نجاح ابنتها .. وكان لجارتها ولدان صغيران قد جاءت بهما معها إلى الفطور .. وشقاوتهما قد أربكت الحاضرات مما جعل أمهما تنهي الزيارة وتغادر مسرعة .. نظرت تلك الجارة إلى (غادة) فرأتها في أبهى حلة وأجمل طلعة ، لا تحمل ابنها معها ولا بيدها حقيبة الأمهات الكبيرة المليئة باحتياجات الطفل .. بل كانت تباهي الجارات بحقيبتها الصغيرة الغالية جدا .. تساءلت الجارة عن ابنها .. فأجابتها بتعجب :
ـ إبني !! أنا لا أحضر ابني معي إلى أي مشوار ..
سألتها باستغراب :
ـ إذن أين تتركيه ؟
قالت بثقة :
ـ أتركه في البيت طبعاً .. على سريره ..
ـ واذا استيقظ ولم يراك ما العمل ؟
ـ يا عزيزتي أنت عاطفية جدا .. وما الذي يوقظه ؟
ـ أي سبب مهما كان صغيراً قد يوقظه .. ثم هل العاطفة عيباً ؟ المرأة عاطفية بطبعها وبدون عاطفة الأمومة لا نكون نساءً ..
عادت الجارة إلى البيت مع طفليها .. وبينما تصعد درج العمارة سمعت صوت الصغير في بيت (غادة) يبكي .. أسرعت إلى الجوال واتصلت بغادة تحذرها .. وجاءها الجواب :
ـ أوف .. صغارك وضجيجهم أيقظوه .. سأعود بعد قليل ..
وبعد قليل سمعت وقع أقدام على الدرج .. أسرعت فرحة لعلها غادة عادت للصغير .. لكنه مع الأسف زوج غادة ..
وبعد قليل حضرت غادة واشتعلت الحرب ..
اعتقدت الجارة أن هذه الحرب بما فيها من تهديدات وتحذيرات وأيمان محلوفة بالله عز وجل سوف تجبر (غادة) على اصطحاب طفلها معها أينما تذهب .. وفعلاً حصل ذلك ولكنه لم يدم سوى يومين وبعدها عادت (غادة) لعادتها القديمة .. الطفل رهين السرير والأم رهينة الزيارات والمواعيد ..
في ليلة رهيبة أصرت (غادة) على حضور حفل وداع صديقتها في فندق قريب ، وبعد مداولات ومشاورات وافق لها زوجها على ما تريد على أن لا تتأخر أكثر من ساعة .. أقفلت (غادة) باب المنزل ونظرت إلى بيت جارتها قالت في نفسها :
ـ هل أعطيها المفتاح حتى تتفقد الصغير كل فترة أم لا ؟
ولكن شيطانها أسرع بالرد :
ـ وما حاجتي لسماع محاضراتها عن الأمومة والطفولة .. كلها ساعة زمن أو أكثر ..
وغادرت الأم .. ولم تمض سوى نصف ساعة وإذا بصوت الصغير بدأ يعلو رويداً رويداً .. والجارة المسكينة واقفة قرب الباب لا تعرف ماذا تفعل .. أسرعت إلى الجوال وبدأت تتصل بأمه إلا أن (غادة) في تلك الضجة لن تسمع صوت الجوال ..
حاولت الجارة دفع الباب حاولت مع الجيران كي يكسروا الباب فلم يوافقها أحد .. بحثت النسوة عن هاتف زوج (غادة) في جوالات أزواجهن فلم يعثرن عليه .. مرت نصف ساعة من القلق والصغير بدأ صوته يتحول إلى صراخ ثم فجأة اختفى الصوت .. ارتاح الجيران إلا أن تلك الجارة قلبها يعتصر عصراً .. وبعد ساعة سمعت الجارة صوت طقطقة حذاء (غادة) فاطمئن قلبها ..
فتحت (غادة) الباب ودخلت بهدوء .. شعرت بانقباض في نفسها .. هرولت إلى حجرة الصغير تتنصت عليه من الخارج فلم تسمع حسّ ولا نفس يصدر من الغرفة .. اطمأن قلبها قليلاً .. فقررت أن تأخذ غفوة قبل أن يحضر زوجها من عمله الليلي ..
بعد ساعتين من النوم العميق قامت من نومها فزعة .. هرولت إلى حجرة الصغير واسترقت السمع مرة أخرى فلم تسمع له صوتاً .. أحست بعصرة في قلبها ما شعرت بها طوال عمرها وأخذت تقدم رجلاً وتؤخر أخرى قبل أن تدخل إلى حجرته .. ولما دخلت رأت منظراً تنهد منه الجبال .. الصغير على ما يبدو بكى كثيراً وتحرك وتلوى وفي أثناء حركته أمسك بحبل الستارة المزركش الذي كان معلقاً قريباً منه وأمسك به وكلما تحرك الصغير كان الحبل يلف حول رقبته ويشتد على حنجرته وبعد صراع بين الحياة والموت جاءت رحمة المولى وخلصته بالموت .. صرخت (غادة) صرخات عويل وندب ولطم .. ركض الجيران إليها دخلوا إلى حجرة الصغير ورأوا الأم الثكلى والوليد القتيل .. في تلك الأثناء دخل الأب ورأى شباب الجيران يحاولون تخليص رقبة الصغير من المشنقة التي كانت أمه تزين بها غرفته .. خلصوه منها وحملوه جثة هامدة .. نظرت (غادة) وقالت :
ـ يا رب إنه ثمن غالٍ جداً ..