آخر أساتذتي

صالح أحمد البوريني/عمان

[email protected]

وقفنا أمام باب شقته التي يقيم فيها في منطقة الشميساني بعمان، ضغَطَ أبو أسامة الجرس، وسَمع صوتَ الخادمة الآسيوية فقال: هل الشيخ موجود؟ فردَّتْ الخادمة قائلة: نعم بابا موجود، وفَتَحَت الباب، ولبثنا دقيقة، ثم خرج إلينا الشيخُ تعلوه هيبة العلماء، بطلعته البهية، ووجهِهِ المشرق بابتسامةٍ تنم عن الرضا وصفاء الطوية. تقدم إليه أبو أسامة يمشي بتؤدة وتواضع مبتسما، ومدَّ يدَه إليه محيِّـيًا وقال: السلام عليكم سيدي، كيف صحتكم؟ قال: الحمد لله، بخير؛ وها أنا قد تجهزت للخروج معكم. فقدَّمني إليه وعرَّفني به قائلا: هذا أستاذي وشيخي أبو إقبال. تقدمْتُ إليه ومددتُ يدِي؛ فصافَحْتُ يدًا بيضاءَ لينةً، تبدو على ظاهرها آثار السبعة والثمانين عامًا التي طواها الشيخ من عمره.

كان أبو أسامة قد حدثني عن أستاذه حديثا شائقًا، وذكر لي من حُسن أخلاقه، وكريم صفاته، وراسخ علمه؛ ما أكَّـدَتْـه سيرةُ الشيخ، وشهدَتْ له به مؤلفاتُه وتلامذته وأعماله الجليلة. وذكر لي بعضَ المواقف القديمة التي لا تَمـَّحي صورتُها من ذاكرته، وقال لي بحُزن وألم: هذا آخر من بقي من أساتذتي ومشايخي. 

ورغم أنها المرةُ الأولى التي ألتقي فيها بالعالم الشيخ الدكتور أديب الصالح، لكنني شعرتُ أنني أعرفه منذ زمن بعيد، ذكَّرَ ني مرآه بوالدي ـ رحمه الله ـ الذي عِشْتُ في كنف شيخوخته حوالي عشرين عاما، أَعُدُّها أجملَ أيام العمر. أحسستُ بنظراتِ الشيخ تغمرني بالحنان، وكلماتِه تحيطني بالمؤانسة، شعرتُ حقًّا بدفءِ الأبوة، وجلالِ الشيخوخة. ما أجملَ أن تعيش هذا الشعور! وأن تحتفظَ بنكهته في الذاكرة مهما امتدت بك الأيام!

هبط بنا المصعد إلى الطابق الأرضي من العمارة، ثم تحركنا باتجاه المخرج، مشى أبو إقبال خطواتٍ إلى البوابة، يتكئُ على عصاه ويدُه اليسرى في يَدِ تلميذه أبي أسامة، الذي كان يمشي الهوينى؛ لا يَسْبِق بخطوتِه خطوةَ شيخه، ولا يعلُو صوتُه على صوتِه. سبقتُهما إلى السيارة، وأدَرْتُ المحرِّك ومُبـَرِّدَ الهواء فقد كان الجو شديد الحرارة. وقفَ الشيخ على الرصيف، وتقدَّم أبو أسامة وفتح باب السيارة الأمامي، وأمْسَكَ بيد أستاذه حتى دخل واستوى على الكرسي، وأخَذَ بحزام المقعد وربَطَه، فأغلق أبو أسامة الباب، ورجع فجلس في المقعد الخلفي، وأخَذْنا طريقنا باتجاه المركز العربي للرعاية الصحية.

كان العاشرُ من تَمُّوزِنا هذا يومًا شديدَ القيظ، لاهبَ الحرارة، ولكنَّ مُبردَ السيارة كان يعمل بكفاءة خفَّـفَتْ من شعورنا بالحر، وجعلَتْ جَوَّنا لطيفًا، وحوارَنا الهادئَ متصلا من غير تأفـُّفٍ ولا انقطاع. أخَذَ الشيخان؛ التلميذُ وأستاذُه بأطراف حديث الذكريات، أخْذًا جميلا، وتذاكَرا أياما وسنوات خلَتْ؛ جَمَعَتْهُما فيها الأقدار في المعهد الشرعي بدمشق، قبل عشرات السنين، وذَكَرا أعْلامًا من الرواد والعلماء والدعاة طواهم الدهر، وآثاراً خالداتٍ بقيت مِن بَعْدهم تَشْهَدُ لهم، لا يعلمها إلا آحادٌ من الناس، يوشك أن يطويهم الزمان فلا يبقى مِن بعدهم مَن يذكُرُ أولئك الرواد، ويعرف لهم قدرهم. وسَمِعْتُ ذِكْرَ أعلامٍ وأمصارٍ ومدن وقرى وأحياء ومعالم وأحداث وصور ومشاهد ومواقف؛ منها الحلو ومنها المر، ومنها ما بين الاثنين، وكان الشيخان بين ذلك كله يجذبانني إلى الحديث جذبا لطيفا، بين الفينة والفينة، لألقيَ تعليقا، أو أبديَ انطباعا، مخافةَ أن تستوليَ عليّ الوحشةُ، أو تتطرَّق إليَّ السآمة، فما شعرتُ إلا وكأنني رفيقٌ لهما في تلك الذكريات الخاليات، ولو خُيرتُ لما اخترت غير الاستماع، ولكنَّ نُبْلَهُما أبى ذلك.

انطوت مسافة الطريق بسرعة، وقد سهَّلَ الأمر علينا اختفاءُ أزمة المرور من شوارع العاصمة عَمَّان، الذي هو من محاسن عطلة يوم السبت. وتوقفنا أمام رصيف المركز الصحي، وترجَّل أبو أسامة من السيارة، وفتح الباب لأستاذه، وأخذ بيده حتى نزل، ثم سارا بهدوء إلى الدرج الصاعد باتجاه البوابة، بينما كنتُ أُصْلِح وِقْفَةَ السيارة، ثم لحِقْتُ بهما، وحينما انفتح أمامي بابُ المصعد في الطابق الأول، وخرجت منه باتجاه باب العيادة؛ وجدتُ أبا أسامة آخذًا بيد أستاذه الشيخ؛ يمشيان الهوينى حتى دخلنا إلى العيادة.

 وكان علينا أن ننتظر دقائق معدودات، عادَ فيها حديث الذكريات عاطرا ونديا كما كان،  حتى دُعي الشيخ إلى غرفة الطبيب؛ فنهض أبو أسامة وأخذ بيد أستاذه ودخلا للمعاينة، وبقِـيتُ في صالة الانتظار أكتب هذه السطور، وما توقفْتُ عن الكتابة إلا حين سمِعْتُ أبا أسامة يتحدث إلى موظفة العيادة عن كشفية الطبيب، الذي حمَلَه وفاؤه للأخوة القديمة والصحبة الحميمة، على الامتناع عن تقاضي أي أجر، خرج أبو أسامة وموظفةُ العيادة تقول: شرفتمونا، أهلا وسهلا بكم، هذا والدنا، وهكذا أوصانا الطبيب.

سألته عن نتيجة المعاينــة، فقال أبو أسامـة وهو منبسطُ الأساريـر، متهللُ الوجه: الحمد لله، الحمد لله، صحة الشيخ جيدة، ووضْعُه مستقر، وسيلتزم بتناول دوائه، ويراجع الطبيب بعد عشرة أيام بحول الله تعالى.

كان رجوعُنا كذَهابنا، نديا بالبشر والسرور، مفعمًا بعبق الذكريات، حافلا بالكلم الطيب. لم يُـخْفِ الشيخُ ارتياحَه لوجود أبي أسامة، وَسعادتَه بـِما رآه من احتفائِه به وتكريمِه له، وما زال يدعو له ويُثْـني عليه بين الحين والحين، ويعتذرُ إليَّ عمَّا قال إنه عناءٌ ومشقة تحمَّلْتُها في مرافقتهما إلى المركز. وهو لا يعلم كم كنتُ في حينها أشعر بالسعادة، وأستمتع برؤية مشهدٍ من أجمل مشاهد الوفاء والانتماء، وصورةٍ من أبهى صور العرفان والشكران، إنها صورة التلميذِ الألمعي حين يكون شهمًا ووفيًّا، والأستاذِ العبقري حين يكون رفيقًا ومتواضعا، تلك هي العلاقة النبيلة بين الأديب الكبير عبد الله الطنطاوي (أبي أسامة)، والعالم الجليل محمد أديب الصالح، أمَدَّ الله تعالى في عمرهما، ونفع الأمة بما أسْدَياه للعلم والأدب من جلائل الأعمال، ومحاسن الأفعال.