لا مخرج لكم ..!!
محمد السيد
وتحدثت الراوية فقالت :
قالوا : ( أسطول الحرية ) وتطاولت الأعناق ، اشرأبت إلى غدٍ ، تنتصب فيه الجوهرة ( القدس ) حرة ، ترعاها قلوب توضأت للتو ، وأيقنت أن (بيبرس) لا يقدم جزافاً ، فهو لا تغريه الأكف المنافقة ! ولا تقعده الدمعة المقهورة، وهو بالعضد يبتغي كشف سر الأفواه المتلعثمة بالكلمات ، تلك المتخفية خلف الحروف الخادعة، الباحثة عن عذر أعمى .
وحين وضع ( جودت ) سليل عثمان قدمه اليمنى فوق سطح مرمرة كانت في وداعه جمهرة من نوارس عتيقة ، وحين راحت السفينة تعب الموج ، فتغيبه في بطنها العملاق ، حدق في ساعته بعد أن اطمأن إلى المسير وقال : باسم الله .. بعد ساعات معدودة .. نكون هناك إن شاء الله ، والتفت إليَّ ، وقد وافته ذكريات شريان الحياة ، ثم قال : " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " .
_ قلت : ماذا ؟ ومن تقصد بهؤلاء ؟
_ إنهم يهود .. يهود .. ألا تدركين ؟
_ بلى ، إني مدركة ، ولكنهم اليوم عالون ..!
_ إنها رميات غدرٍ يا عزيزتي وحسب! قتل ، اغتصاب أرض، حصار، تجويع، عالم غادر العدل.
_ وبدت عينا جودت ساهمة ، تدقق في تلك الموجات المرتدة ، التي يُطلقها إبحار السفينة . كان النهار ذلك اليوم هادئاً ، وكان كل شيء على السفينة يبعث بالأمل .. فكل الناشطين متفائلين ، تحدوهم رغائب الوصول إلى الهدف ومشاركة مرابطي غزة رباطهم ، فكنت ترى تجمعات منهم تلهج بالحداء ، وتجمعات تقرأ عن غزة ، وتجمعات تغني حيناً بلغاتها المختلفة ، فيعلو الضحك ، وتغروورق العيون بالدموع ، شوقاً للّقاء المنتظر ، في حين كان ( جودت ) إلى جانبي يستدرج سمعي بكلمات يتمتم بها بصوت خافت ، وقد استدركت منها سؤاله الذي وجهه لي دون مبالاة:
_ هل لاحظتِ ذلك الضباب الداكن ؟
_ اي ضباب تعني ؟ إني لا أرى إلا نهاراً ساطعاً .
_ انظري .. انظري .. ها هي غزة تظهر من بين سحب الضباب شاحبة ..! دققي في تلك الموجات المرتدة عن جدار السفينة، فسوف تشاهدين خلالها غزة ، ورغم أن الضباب يلف وجهها الصبوح ، فهي تبدو صامدة صمود الأرض في وجه الإعصار، إنها ترد كيد الغدر ، بغدائر شعرها وصدور شبابها ، الذين زينوا وجوههم بلحى تقطر من وضوء ، وبعيون تغازل الغد بالعزم الذي تَنْظُمُه بساتين البرتقال والليمون واللوز والزيتون ، وبآمال تنير ظلمة المساء ، حيث تموت مصابيح السكك من جوع تصنعه أحقاد الغدر ، ويدبج مسوغاته من استمعوا لمهزلة ( الروك آند رول الجهادي ) في مكتبة الإسكندرية ، وتابعت الراوية زوج ( جودت ) القول : ولحقت بحدقتي تلك الموجات ، لأرى ما يرى زوجي ، ولكن شعاع بصري تاه في الدرب ، إذ كانت الأطياف الخائفة تحملني على موجات هدوء مخاتل . وأدركنا المساء ، وكنت أجلس على ظهر السفينة ، أرقب حركات جودت ، وهو يرتب أمر الصحفيين ، فقد وكل إليه إمرتهم ، فهو منهم ، ومن الذين جربوا الإبحار على ظهر قافلة شريان الحياة.. كانت خصلات شعره الأسود تراود جبهته البيضاء العالية ، امتزج بياضها بحمرة الشفق ، الذي راح يتوسل لكل شيء فوق السفينة: أن يخلد للتأمل .. وبدأت سحب الظلام تلف بسدلها المعالم . وفي لحظات التأمل تلك ، صافحت أذناي رنة شعر ، كان يلقيه أحد الحادين العرب ، فتخيلت أنه موجه إلى جودت :
في عينيك ألوان العطاء / للكادحين الصامدين / للبائسين /
لطفولة تشكو الظلم / لكهولة تبغي السلام / لصبية باعت زهور الحب في الليل العميق / لشعب يحب الضياء ، يقدس حرفاً مضاءً
عندئذٍ شعرت بدمعتين حارتين غزيرتين ، تنزان على وجنتي ، فمددت يدي أمسح بها الدمعات ، حيث داعبت وجهي نسمات بحرية عليلة اختلطت بخصلات شعاع القمر ، التي راحت تسامر السهر ، وتقهر بعض الخوف الذي بعثته ظلمة البحر في النفوس . وفجأة شعرت بكف ( جودت ) تداعب وجنتي اليمنى وهو يقول : أيتها العزيزة بماذا تفكرين ؟
_ لا شيء .. لا شيء ، إنها كلمات شعرية طرقت أذني ، فهدهدت دمعاتي .
_ لا عليك ، ساعات قليلة ، ونكون هناك .. وأبطأ الكلام على شفتيه قليلاً .. ثم أضاف : هناك في غزة ..!
_ ولكن الليل ألقى بجرانه ، نصفه أو زد عليه ..! ثم من أين لك تلك الثقة الغالية بالوصول .. ألا يبتعث الخوف جنوده إلى قلبك ..؟!
_ في غزة الناس لا يعرفون الخوف ، إنهم يلصقون الصخر على البطون ولا يعجزون ، ثم هم ينتظرون الأحلام ، تحملها صقور متوضئة بندى الفجر ، لتضعها بين أيديهم مشاريع متحققة فوق الأرض ، التي استقبلت في الزمان كل ألوان الغزو ، فخرجت منها شامخة ، تضيء عتمة الشام ومصر .
وتابعت الراوية تقول : وللتو ألقى ( جودت ) برأسه فوق صدري ، وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة رضى ممتزجة بأمل عريض ، وبينما كنت أسرح شعره الفاحم بأصابع يدي ، وقلبي يتفجر حباً واعتزازاً بهذا الشاب الممتلئ إيماناً ، ساجداً بعينيه بين يدي رب عظيم ، محلقاً بأحلامه الصقرية فوق معالم الأرض المغصوبة ، تصورته أحد فرسان السرايا التي كان يسيرها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، أو ملبياً في جموع حجيج : لبيك اللهم لبيك ، ومردداً الأمل العظيم ، يتدحرج على شفتيه القرمزيتين : ( سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ) .
وفي هذه اللحظة وافانا صوت المؤذن في الباخرة، ليهدي إلينا همسات الاطمئنان والسكينة ، ممتزجة بهدير كلمات كان جودت يرددها وهو يقفز في الهواء بخفة : لا مخرج لكم أيها الأوغاد .. لا حصار بعد اليوم .
وتابعت الراوية قولها : وفي هذه اللحظات ، التي ردد طمأنينتها سكون الليل ، وخفوت الأمواج ، ودموع الفجر اللينة، وانتظام صفوف المصلين انطلقت رصاصات غادرة ، وأطلت أغوال الليل الجبانة من خلف الجدران المصفحة، وجدران العموديات الجبانة.
وبالأجساد وبعض الخشب المتوفر رُدَّ المتوحشون بداية على أعقابهم ، وهم المحملون بكل ثقيل من السلاح ،كالبغال تحمل ما لا تفقه مآلات استعماله ..!
ورأيت ( جودت ) ينظم وضع الصحفيين ، ليقوموا بمهماتهم ، وراح وهو المصور الصحفي المبدع ، يوثق مشاهد البرابرة ، إلا أن رعديداً حاول الاقتحام على الصحفيين ، فتصدى له بصدره الأعزل ، فبادره الرعديد برصاصة قريبة في رأسه ورصاصات أخر .. وارتبك الرعديد ، فقفل راجعاً ،عندئذٍ أقبلت على زوجي ألملم جراحه ، غير أن روحه كانت تفيض ببطء إلى بارئها فبادرته القول :
_ روحك حققت مرادها ..؟
قال بحشرجة : غزة والقدس تستحقان الدم .. فلا تبك يا عزيزة .
_ إنني أبكي الفراق .. وليس التضحية .. فالقضية تستحق أكثر .
_ سنلتقي يا حبي في الجنة حيث لا خوف .. ولا حصار .. ولا اغتصاب .. ولا ظلم ..! هناك العدل .
ألا تذكرين ما عانيناه في العريش قبل شهور ؟
_ نعم أذكره .. فمن تلك المعاناة ، ومن هذه الوحشية اليوم ولد ( جودت ) من جديد .
وأغمض جودت عينيه وفارق .. ومسحت دموع الفراق وجهه المضيء ، وكانت كلمات تتدحرج على شفتي تقول : إلى اللقاء يا جودت ..! إلى اللقاء في زمن يحبه الله ونحبه جميعاً .. ألم تبدأ هيلين توماس ذلك الزمن ، حين قالت : فليعد كل صهيوني إلى البلد الذي قدم منه ، وليتركوا الأرض لأصحابها ..؟