الحلقة الأخيرة
زكية علال
[email protected]
الشمس تنحسر عن جسد الكون، تسحب غطاءها الذهبي عنه لتفضحه أمام عيون الناس جميعا،
لكن الليل يأتي مسرعا ليستر ما تريد أن تفضحه الشمس. النفاق لا ينكشف أبدا
–
في هذا العالم-دائما- يجد له غطاءا يستره
…
وأجلس أنا هاهنا –وحدي-
أعد أسماء المنافقين الذين يمشون على الأرض واحد .. اثنان.. عشرة .. ألف .. أي ..
رأسي يكاد ينفجر ، عددهم لا يحصى إنه يفـوق خلايا جسدي .. كل منافق بقصة وكل قصة
بغصة وكل غصة بنهاية .. آه .. ما أكثر النهايات في عالمي .
-وحدي –أسير
في الشارع أدقق النظر في وجوه المارة ، في عيونهم وأتساءل في سري "كم ألفا سيربحون
من هذه الإبتسامة الصفراء على شفاههم ؟ كم ضحية سيسوقونها وراء براءة مزيفة في
عيونهم ؟ ما لون هذه الخيانة التي تنام خلف صدور دافئة ؟
-
دائما –أحس
أن كل بشر يمشي على الأرض يحمل أحشاءه بين جنبيه .. يخبـئ قلبــه وراء صدره –و
وحدي –أنشر
أحشائي على جسدي ، وأضع قلبي فوق صدري .
اللحظة.. وحيدة –أمزق
صمت هذا الشارع ، وصوت أمي يلاحقني "إنـك مريضـة يا حبيبتي ، انظري في المرآة ،
وستلاحظين شحوب وجهك ، وذبول عينيك .. حالك يسوء أكثر، وأخاف أن أخسرك ذات يوم،
وفاء .. لا بد من زيارة الطبيب"
وسرت إلى الطبيب استجابة لرغبة أمي .. دخلت .. جلست على الكرسي المقابل له ، سألني
دون أن يرفع عينيه عن كتاب بين يديه :
-
مم تعانين ؟
-
أعاني من كل شيء، و لا أعاني من شيء .
أحسست أن جوابي فاجأه ، فرفع عينيه إلي وقال :
"-
لم أفهم".
قلت
بصوت مضطرب :
-
"أحس أن كل الأمراض والعلل تتزاحم على جسدي، تفتك به، لكن التحاليل تثبت دائما أنني
لا أعاني من شيء" .
بدا
على الطبيب أنه فهم حالتي وعرف أن المشكلة ليست في جسدي ، فسألني وقد تغيرت نغمته
الأولى:
-
ما اسمك ؟
-
وفاء
-
اسم جميل
-
ولكنه متعب سيدي، متعب حد الجنون .
-
إذا أتعبك هذا الإسم اختاري لنفسك اسما آخر .
هكذا قال لي الطبيب ، وببساطة .
قلت
وأنا أبتسم بمرارة :
-
أغيره ؟ كيف ؟ ثم استطردت :
-
حاولت كثيرا أن أغيره ، فلم أفلح ، إنه يلتصق بجدار قلبي ، فلا أحد سيدي يملك حق
تغيير لون جلده ولا اسمه .
اعتدل الطبيب في جلسته وقال :
-
إنك مريضة غير عادية ؟
-
ربما .. فهل تستطيع أن تجعل مني امرأة عادية، أو على الأقل مريضة عادية ؟
حاول الطبيب أن يغوص في أعماقي أكثر، أن يفهم شيئا من هذا اللغز الذي يخنقني ويضعني
على عتبة النهاية ، لكنه لم يفلح ، فوجد نفسه مضطرا لأن يعيد علي السؤال الأول :
-
مم تعانين؟ ماذا يؤلمك؟
-
انفجار دائم في الرأس، ألم موجع في القلب .. آه أيها الحكيم.. كم أتعبني رأسي، وكم
أعياني قلبي .
-
وماذا تريدين ؟
-
أريد دواء يفصل رأسي عن جسدي .. ينتزع قلبي من صدري، ولو يوما واحدا، أريـد أن أزرع
في عقلي آلة حاسبة كبقية البشر، أريد أن أغرس في جوفي قلبا بغير دم ككل البشر،
أريـد وجهـا آخر لأغدو بوجهين كمـا كل الناس "أريد أن أتخلص من لعنة الوفاء التي
تسكننـي .. أريد .. آه .. لا أريد شيئا.. لا أريد شيئا ..
-اقترب مني الطبيب أكثر وهمس لي بدفء :
-
أرجوك وفاء .. اهدئي فلا يوجد فـي الدنيا ما يستحق أن نخسر حياتنا من أجله .
-قلت وأنا أحاول أن أهرب بنظراتي إلى أية نقطة ضائعة في الغرفة:
"-
يا الله .. كم هو مفزع أن تكتشف أخيرا-أن كل الذين سكنوا زوايا قلبك كانوا يتاجرون
بأحلامك ، بابتسامتك، بوفائك.
ابتسم الطبيب كأنه يريد أن يخفف عني وجع الوجع ثم قال :
-إنك تنطقين بالحكمة .
أجبته بيأس قاتل :
"-
الحكمة فلسفة المرضى .
وانتهت جلستي مع الطبيب، كانت عقيمة، كما كل جلسات الأطباء.. نعم إنه يشبههم ، فقد
أكد لي أن نبضات قلبي سليمة "ضغط دمي معتدل، وجسدي لا علة فيه، ثم كتب لي مهدئات .
ووجدت نفسي مرة أخرى