ما بعد الاعتراف المتأخر

محمد المهدي السقال

محمد المهدي السقال

القنيطرة / المغرب

[email protected]

قالت: حرُمتَ عليّ شرعاً، فكيف تتمسح لاختراق المسافة بيننا خلسة عن وجهك في المرآة ؟

ثم أطفأت المصباح وعيناي ما تزالان تتابعان مشيتها متمايلة الردفين ، وددت لولا خجلي من أرق كبريائي ، أن أغازلها بما يسوس لي جسد يغلي كالمرجل في بركة جمر خامد .

أسندت وجهها للباب المغلق ، بعدما غرزت في العمق سهماً أحدّ من زمن مقيت ينخر صدري ، لعلها اطمأنت على لدغ كلماتها منتهى ذكورتي . لا أنكر أني سبحت منشغلا بها في دوامة الظلمة ، متمنيا لو أن الأرض تنشق لابتلاعي سخافتي ، جمدت كل النوازع فجأة ، واستبد بي تضخم الصمت في متاهة البحث عن معنى أداري به ضعفي ، سبق لها أن سخرت مما اعتبرته تناقضا صارخا وظلتُ أعتبره مفارقة غريبة ، كنا ضفتين لفراغ عمودي تمدد بيننا جثة هامدة ، أخذتها سنة حسبتها خلالها نائمة ، وأخذتني غيبوبة التفكير في جواب بين رغبة الإصرار ورهبة الاعتذار.

عدت إلى البيت يؤويني سقف لم تشدني إليه حاجة الاحتماء به مما يغويني ، بعدما تركته وفي النفس هواجس صارت في حديث الأهل عنوانا على جنوني ، اتجهت صوب نفس شجرة التوت نهاية الطريق ،  لمحت ظلها الدائري  منعكسا بين رفرفة وريقات تعاند السقوط ، وجدتني أستحث الخطى للركون إلى جذعها ، كعادتي حين تسود الدنيا في عيني ، فأتسمع نفس الصوت الجارح صاعدا من قرار الإشفاق :

أنت فقط  تتناسى دون أن تفلح في النسيان ، وجنونك لعبة صارت مكشوفة للعيان .

يظل يطاردني عتابها ملازما لكل صحو أعاند فيه اغترابي ، و أظل بنفس الشوق متطلعا لخلاصي :

متى تفهمين ما بي سيدتي وأم عيالي ؟

على أغصان الشجرة ، كنت أعلق تمائم يلفها كتان أبيض ، لم أكتب دعاء صديق قديم باسم شيطان الحب ، اكتفيت بجملة وحيدة ، متى تأتين بعد طول انتظار ؟

ليتها أدركتْ ما بي من حرقة السؤال ،

أهاتف جنيتي الغجرية في ثوبها الأحمر ، تطلع صورتها باسمة فلا يجلو غير وجهها حيثما أولي وجهي :

تأخرتَ ، هنا كان موعدنا من زمان ، ومرّرتْ أناملها على خدّي تتحسّس كعادتها وجودي الهارب إليها من سرابات الفراغ ، كلما عادني الحنين إلى أنثى تحت الرماد في الذاكرة ، قلت : وحدكِ دون ملامح النساء بين أمسي وغدي تلوحين لناظريّ حلما معلقا في الغياب .

زندت سيجارتي الأولى منذ خرجت  متسللا باكرا من البيت، أسابق خطوي كاتما نفسي حذر لفت الانتباه لانسحابي ، بيد أمسكت كراسة كتاباتي التي لم تتحرر من عقال حروفها المخطوطة ، مازالت تحفظ مراياها صوراً شتى عن قوافل الغرب ليلة عيد الميلاد في اتجاه العاصمة ، كنت في دكان أخي حين سمعت المذياع يعلن عن قيام الجيش بثورة ، رنت في أذني بحجم بناءات الحلم في غفوات زمان ، وبأخرى حملت حقيبة من جلد اصطناعي ، تحوي بعض ملابسي الاعتيادية ، تاركاً خلفي صباحاً أيقنت أنه نهاية زمن وبداية آخر ، سابقتْ رجلي اليسرى يمناها تتنفس الهواء البارد يملأ صدري عن آخره .

هل سمعت همسي في المنام بالرغبة في موتها قبلي فامتعضتْ أو دعتْ عليّ جهاراً بما ظلت تكتمه عنّي؟

يعاندني الخطو كالغارق في وحل طيني كثيف ، فتمثل أمامي حبيبة عمري الضائع في انتظارها على بوابة المغارة تصعد دائما من رماد الذاكرة ، ابتسمت على مضض وقالت :

بيني و بين الماء ضفاف كليحة تغازلني حمراء ذابلة العينين...

و هناك... خلف غـيوم عابرة مثلي مسافات الوهم بلا مجداف أنهـكه الرحيل،