في غرفة النوم

ياسين سليماني

[email protected]

دخل على عروسه في غرفة النوم، وجدها جالسة على السرير، تضع يدها على محياها الذي يشهد أغلب من رآه أنّه لملاك، فجلس بجانبها وبرفق أمسك يديها وأراد لثمهما.

كان قد رآها في ذلك اليوم - وقبل أن يختلي بها - صامتة جامدة كتمثال من الشمع، توزّع نظراتها بين زوجها وأمّها، فأمّا زوجها فكانت تنظر إليه نظرات مضطربة لا تلبث أن تغيّرها نحو أمّها، فتنظر إليها مليّا ... لقد شعر بوجود شيء ما لكنّه لم يدرك كنهه.

والتقت عيناهما لأوّل مرّة وهما وحيدان، رأى في عينيها حمرة تدل على البكاء، وما لبثت أن أشاحت بوجهها عنه لتأخذ نفسا طويلا.

قال لها أنها ليست المرّة الأولى التي يلتقيان فيها، لقد اعتادت على زيارته مع أمّها في مكتب المحاماة الذي يملكه، فهو محام شاطر استطاع أن يأتي لهما بحقّهما من عمّهما الذي استولى على أموال أبيها بعد وفاته، وهو زيادة على ذلك أخ لصديقتها التي درست معها سنوات الجامعة، فهذا حريّ أن يُؤْدم بينهما، وما وصل إلى كلمته الأخيرة حتى سمع نشيجا خافتا تحاول إخفاءه لكنّه وصل إلى مسمعه في آخر الأمر، فاتخذّ هيئة الجادّ بعدما كان يداعبها ويلاطفها، أكيد أنّ هذا الصمت المطبق والبكاء الخافت له أكثر من سبب.

-إنّي زوجك الآن فلا جدوى من إخفاء شيء عنّي .قال وهو ينظر إليها ويمسح دموعها بأصابعه برفق.

وأضاف: تحدّثي، فلربّما كان الحلّ أمامك وأنت في غمرة هذا البكاء لم تهتدي إليه.

نظرت إليه بوجهه الوضّاح ونظرتها المنكسرة قائلة:

- أخاف أن أقول لك فتكون فضيحة.

قال: أعوذ بالله من الفضيحة، لا يا زوجتي ورفيقة دربي وشريكة حياتي، وعيني التي أرى بها، وقلبي الذي أعيش به، صارحيني، صارحيني.

قالت: حتى وإن كانت صراحتي تسبّب لك غضبا ؟

قال: إنّ الذي تعلمته من سنوات عملي كمحامٍ هو أنّي لا بدّ أن أكون هادئا عند سماع أيّ كلام .. هكذا اعتدت.

كانت نظراته أكبر مشجّع لها على الحديث، فما انفكّت تفرغ صندوق أسرارها:

منذ أن دخلت أمّي إلى مكتبك أول مرّة، وهي تسمعني عنك كلّ كلمات الإعجاب... شاب لطيف، وسيم، وفوق كلّ ذلك غنيّ جدّا، كان هذا هو موضوع حديثها منذ ذلك الحين، وفي الزيارة الثانية أرغمتني على المجيء معها إليك لأرى - كما كانت تقول - العزّ الذي تعيش فيه. يا بخت التي تكون زوجة لهذا الشابّ، سمعتها تقول هذا مرّات لا أستطيع عدّها، وكنت كلّما سمعتها تقول ذلك أغيّر مجرى الحديث فتقول لي: ابقي أنت هكذا دائما، يا ساذجة، إذا لم تحاولي جلب هذا الرجل إليك وجعله يحبّك فإنّك لن تجدي أحدا يصلح لك.

كنت أردّ عليها قائلة: المهمّ الحبّ يا أمّي. وكانت هي تقول:

- المهمّ الحبّ ؟! لقد تزوّجت أختك بمن تحبّ رغم رفضي له بسبب فقره فماذا جنت ؟ ألم أكن على حقّ ؟ ألم تمرّ سوى أشهر قليلة حتى جاءتني تعلن سأمها من هذه الحياة الفقيرة ؟ أم لعلّك تحسبين أنّ ذلك الحانوتي الذي تهوينه قادر على إسكانك في شقّة مثل شقّة المحامي أو حتى في عُشر شقته على الأقلّ ؟ وبقيت هكذا إلى أن طلبت يدي، وأرغمتني هي على القبول.

قال لها حزينا: إذن لم تكوني تحبينني ؟

قالت باستحياء: نعم لم أكن أحبّك .

قال: أكان هذا سبب بكائك ؟

ردّت: لقد تذكرت البيت الذي حدثني عنه الشاب الذي أحببته، قال لي أنّه لن يكون ممتلئا بمباهج العين لكنّه سيكون ممتلئا بالحبّ.

قال: وهو يكظم حزنا يكاد يتفجّر: ولمَ لمْ يتقدّم لخطبتك ؟

قالت: المــال.

قال: بئس الشيء المال، أمنْ أجله تباع العواطف بيعا ؟

ثمّ ركن إلى جانب السرير وقال بهدوء مصطنع: وما تريْن أن أفعل الآن ؟

قالت: ما شئتَ فافعل، فلا خير في امرأة تعيش مع رجل بجسدها ومع آخر بقلبها.

سكت قليلا ثم قال متأسفا: أتودّين أن تكتبي لذلك الشاب شيئا يريحك؟ باستطاعتك إرسال ما تريدين، وبعد شهر أو شهرين تعودين إلى أهلك.

قالت: خيرا تفعل.

قال: إذن لك ذلك.

مهما أسكرت المادة نفوس العالمين، فهناك دائما قلوب لا تهفو إلا إلى قلوب رحيمة مثلها تعينها على الحياة بشمعة الحبّ وسط كهف الحياة، إيمانا منها أنّ المال مهما على شأنه بين الناس فهو أضعف من أن يوجِد الحبّ.

دأبت على كتابة الرسائل إلى حبيبها، وكانت تتلقى كتابات منه، وأحيانا يجلبها زوجها ويعطيها لها مكسور الخاطر، وقد عرفت أنّ كلّ كلمة تكتبها تجعل الشجون تلسعه بإبرها.

كانت تشكر زوجها من أعماقها، لقد أرسلت كثيرا لحبيبها ولكنها ما لبثت أن قطعت ذلك على حين غرّة، فالحنين الذي كان قويّا مضطرمًا ما انفكّ نوره يخبو وينطفئ لهيبه، والمساعدة التي قدّمها زوجها بأن استمع إليها وأشار عليها بما يريحها كطفل وديع سبب كاف لجعل عاطفة ما تعشش في قلبها.

في ليلة من ليالي ذلك الشهر، وبعدما تعشيّا على طاولة واحدة، ذهب إلى غرفته للنوم، وراحت هي تحمل الأطباق إلى المطبخ، وتغسل ما وجب غسله، وترتّب ما لزم ترتيبه، ذهبت إلى غرفتها البعيدة عن غرفة زوجها الذي لم يمسسها، والذي وافق على أن يبيت كلّ واحد منهما في غرفة ما دام سينفصلان قريبا، ففكرت قليلا قبل أن تفتح الباب، ثمّ بدى لها أن تذهب إلى غرفة زوجها، أطلّت من ثقب الباب، وجدت زوجها قد تعرّى في فراشه للنوم، عادت إلى غرفتها فتعطرّت وتطيّـبت ورجعت إلى زوجها، ففتحت الباب بحذر اللصوص ودخلت على أطراف أصابعها بينما كان هو قد أغمض جفنيه قبل دقائق، استلقت بجانبه، نزعت عنها ثيابها تحت الغطاء واحتضنته بعنف، فنهض مندهشا متفاجئا وقال: ماذا تفعلين هنا ؟ ألم نتّفق على المبيت كلٌّ في غرفته ؟

قالت: كان ذلك في السابق، لمّا كنت أفكّر في إنسان آخر يعمل حانوتيا، أمّا الآن فأنا لا أفكّر إلاّ بالمحامي زوجي الحبيب.

قال: أفكّرت جيدّا ؟

قالت: نعم، فابتسم ضاحكا وقال: ولا رسالة بعد اليوم ؟ أجابت: ولا رسالة بعد اليوم.

قال: إذن، تعالي إلى أحضاني ودفّئيني جيّدا، فالتقى الجسدان العاريان أوّل مرّة في ليلة حمراء مثيرة عرفا فيها السعادة بعد طول الصّبر.