زغاريد على الحدود
م. زياد صيدم
كان شغوفا بمشاهدته لأفلام حربية على صغر سنه ،وكم مرة أطفئوا التلفاز عليه ونهروه بان يشاهد سبيس تون..وفى كل ليلة كان يمسك بمدفعه ويتنقل في ساحة المعركة، يقاتل الأشرار وفى كل صباح كان يسأل : ماما قاتلت الأشرار وتغلبت عليهم ولم يقتلوني ولم أصاب بأذى مثل بطل فيلم كذا وكذا.. كانت ترد عليه بدموع سخية وباحتضانه إلى صدرها وتربت على ظهره بلطف وحنان قائلة له: لا نملك غيرك معيلا لنا.. فأنت وحيدنا أتفهم ذلك يا ولدى ، كان الأب يستمع إلى الحديث فيصمت ويتجه بيديه إلى السماء متضرعا وداعيا بالسلامة له وطول العمر..
وفى يوم جاءت عربة بجوار مزرعتهم ونصب ملثمون أجسام طويلة ما لبثت أن تطايرت في السماء ، فمزقت سكون المنطقة كلها بصرير أشبه بقماش يتفسخ.. وأثارت زوبعة من غبار وغاز يثير حساسية في الأنف أشبه بالنشادر، تسرب إلى أعماق بيوت الفلاحين المتباعدة نسبيا.. والغارقة في ظلمة الليل إلا من فوانيس الكاز والغاز، فانتفضوا مذعورين ومذهولين، فقد وجمت الوجوه وانقطع الكلام وساد صمت في تلك المساكن الواقعة على حدود منسية حتى أمد قريب..
أفاقوا فجرا على صرير يقترب منهم على غير عادة، ما لبث أن بدأ في تجريف المزارع والأشجار فبكت الزوجة وخرج الزوج يحمل فانوس الكاز ولحقت به زوجته.. فالكهرباء لا تأتى إلا نهارا، كان يريد أن يستكشف الأمر وما أن أطل بفانوسه حتى فُتحت عليهم أبواب جهنم صوب المنازل البسيطة، لتحيلها إلى أشبه بغربال وهو يصرخ فيهم ولدى هناك..طفلي حسن في الداخل..انه طفل يا خواجة..بحق السماء توقفوا..أمر ضابط الفرقة بالتوقف ودخل مسرعا بفانوسه وقد سبقته زوجته وبنور قلبها وصلت قبل منه لتلتقط حسن بين ذراعيها وتضمه الضمة الأخيرة إلى صدرها..كان مدرجا بدماء ساخنة وعلى ضوء الفانوس كان جسده قد مزقه رصاص لا يميز ولا يرحم ..وسُمعت صيحات من بعيد.. وشوهدت أمهات تحتضن أطفالهن وقد ارتخت أذرعهم إلى أسفل تسيل من أجسادهم الغضة دماء حمراء تقطر على ثرى أرض تبشر بتحول جذري!! .. فالمكان لم يعد بعد اليوم ذاك المكان المنسي ؟ أو تلك الوجوه الغير مبالية ؟؟...
أما هنا في الجوار فقد سقط الطفل حسن شهيدا، حقيقة كنور الشمس الساطعة بنور مميز هذا الصباح !! لم يكن يحلم في نومه هذه المرة ..حمله الأب بين ذراعيه وهو يناجيه: لم يمهلوك حتى تكبر وتحمل مدفعك الذي طالما حملته في حلمك لتدافع عن نفسك و قريتك ، ولكن اطمئن يا ولدى فأنت الآن عصفور هناك في الجنة وبكى .. وناحت الأم من خلفه قبل أن تسقط مغشيا عليها.. وعندما خرجوا لدفنه كانت سواعد الفتية تلوح ببنادق مشرعة إلى السماء تعلن بداية عهد جديد لمنطقة الحدود.. وتهتف بالانتقام لحسن ومحمود وعلى وعيسى..
ومن خلفهم كان الآباء الأربعة يحملون أطفالهم بين أذرعهم وقد لفوا بالعلم الوطني الفلسطيني ويهتفون بحناجر صاخبة صارخة كمن صحوا من غفلتهم!! ، من أوهامهم !! ، من سخافاتهم !! ..يهتفون بمليء حناجرهم وحدة.. وحدة وطنية ،،، بالروح بالدم نفديك يا فلسطين.......
و عندها انطلقت زغاريد من أفواه النسوة وكانت زغرودة أم حسن مجلجلة في عنان السماء .
إلى اللقاء.
*** إهداء إلى روح أطفالنا الشهداء في مخيمات غزة.