تاكسي الحرام

مجدي السماك

عضو الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب- واتا 

[email protected]

غرفة المكتب صغيرة ، أو هي كبيرة ، لكنها مزدحمة بأجساد الموظفين . يجلسون متقاربين ، متقاربة دائما وجوههم ،  الأكتاف ، الأفواه ، السيقان ، الأيدي . تختلط أنفاسهم مع همساتهم ، تمتزج تمتمتهم مع نحنحاتهم ، يتداخل كلامهم مع غمغمتهم ، في صوت واحد لزج مشوش متذمر ينوء بالشكاوي التي لا تفنى ، كأنها سرمدية ، مشاكل العمل ، البيت ، الراتب ، الأولاد . كل أزماتهم الصعبة المستعصية الكثيرة تجمعت في هذا المكان على سعته الضيقة بهم ، لم تتجمع الشكاوي للبحث عن حلول ، إنما بالعادة تقال وبالتعود تثار في محاولة لتخفيف ضيق الصدور.. المكتب على ضيقه هو المكان الوحيد الذي يريح صدورهم ويفضفض ما بها من كروب ، ربما لوجود آذان تسمع و فقط تسمع ما في ثنايا حناياهم من هموم ، هذه الآذان هي آذانهم ، و الأفواه هي أفواههم .. وحين تجتمع مشاكلهم تبدو مشكلة واحدة كبيرة ثخينة مجدولة وحول جسد واحد ضخم مبرومة .

كل شيء في غرفة المكتب داكن وشاحب ، الشيء الوحيد الذي يلمع هو صلعة عبد العال المرفوعة فوق جسد ربع أبيض ، ينبثق منه بطن بارز ممدود باتساع من الخصر إلى الخصر كما الهضبة .. جلس عبد العال كالعادة إلى طاولته ، يتناول الفطور بفم معوج متذمر ليس من الدنيا وحسب ، إنما من زميلته سميرة التي تكرر يوميا مليون مرة على مسمعه ومسامع الجميع حكاية فسخ خطوبتها ، وهو مضطر أن يسمع كل حكايتها من جديد كلما قصتها على زميلة حميمة إلى قلبها ، أو زائرة عابرة ، يستمع عبد العال بقرف مصوبا نظراته إلى رأسها المستدير المطبق مثل علبة السردين .. ثم يخرج من المكتب متصنعا شم الهواء ، متبرما ، و في دخيلته يشتم ويلعن أهلها ويشتمها ، ويهدر بعصبية وتوتر مخاطبا نفسه بصوت حاد  رفيع مدبب :  

- الله يجعلك ما تتجوزي و أنا مالي .. " ناقصني بلاوي " .. حلي عني .

وأكثر ما يغيظ عبد العال كل يوم عندما يفطر هو زميله محمود ، الذي ينظر مليا إلى الساندويتش في يده ، ثم يقضم منه قضمتين أو ثلاث حتى يملأ فمه وينتفخ شدقاه ، بلا إذن من عبد العال ، ثم يطلب منه أن يشتري السندوتشات من بائع آخر أكثر مهارة وأكله ألذ وأزكى . ولا يترك عبد العال بحاله إلا بعد أن يحدق في زجاجة عصير البرتقال ، ويبحلق بها طويلا ، ثم يمد يده بهدوء ويأخذ منها شفطة أو شفطتين وأحيانا ثلاث شفطات .. بعدها يتجشأ جشأة طويلة ممطوطة بتلذذ ومنتهية برعدة  ضعيفة وقوية أحيانا ، ثم يطلب من عبد العال أن يشتري عصير تفاح بدل البرتقال لأنه أشهى وأطيب ، وبعد أن يعبّر عن كرهه لعصير البرتقال يمتد كفه إلى الجيب العلوي لقميص عبد العال ، يعسعس الكف ليأخذ من علبة السجائر واحدة يشعلها من ولاعة عبد العال ، وما إن يسحب منها عدة أنفاس طويلة ، ويعص بشفتيه على مبسم السيجارة باستماتة وشهوة ، حتى يطلب من عبد العال أن يشتري سجائر روثمان أو مالبورو بدل هذه السجائر الرخيصة سيئة النكهة ، كان يتحدث بجد وانفعال محركا يده كمن يهش حشرة .. وسط هذا كله صار عبد العال مهيئا تمام التهيئة للانفجار ، ما إن بدأ فمه ينفخ تيارا قويا من الهواء حتى سكت كل شيء فجأة ، وفجأة كتمت الأصوات وانبسطت ملامح الوجوه ، مع قدوم المدير الذي وقف بحذاء باب المكتب واصدر أمره بحزم إلى عبد العال :

- خذ هذه المظاريف وأوصلها إلى فرعنا الرئيسي .. مقابل ذلك استرح في البيت بقية هذا اليوم .

دب السرور والفرح في نفس عبد العال ، وشعشع وجهه بالضحك ونوّر بالبهجة ، وعلى الفور تناسى نكد سميرة وحكاية خطوبتها ، وبلادة محمود وقضمات الطعام وشفطات العصير والسيجارة . وقف أمام المرآة ، يتأكد من صلاحية شكله لأداء المهمة ، معيدا بأنامله توسيط عقدة ربطة العنق الملفوفة حول رقبته وسط ياقة قميصه الأبيض ، كذلك تأكد من ضبط جاكت الكاروهات على كتفيه ، فور ذلك بصق على كل فردة حذاء ومسحها جيدا بخرقة نظيفة حتى صارت تلمع كالمرآة .. قفز عليه محمود وهو يضحك ولثمه مهنئا ومباركا ، لم يعبأ عبد العال للأمر ومسح آثار البصاق الذي خلفته القبلة بلا اكتراث ، وراح يردد بفرح :

- سترتاح يوما بكامله يا عبد العال .. يا سلام .. " أكيد أمك دعيالك يا ولد" .. من زمان نفسي بيوم راحة " علشان " ارتاح من وجوهكم العكرة .. هي فرصة اقضي بها بعض المشاوير المهمة .. يا سلام يا أولاد .. جاءت على أهوّن سبب ، مفصلة على المقاس بالضبط .. الحمد لك يا الله .. يا سلام يا سلام يا عبد العال .

خرج عبد العال من المكتب محاولا إخفاء الفرحة متظاهرا بالجدية الصارمة ، وهو فرح لشعوره بأن له أهمية كبيرة ومكانة مميزة عند المدير ، فقابله في الممر زميل له من مكتب آخر وسأله بفضول :

- إلى أين أنت ذاهب يا عبد العال ؟

يمضي عبد العال بجدية اكبر ويشد خطواته بثقة مختلقة قاصدا إثارة الانتباه إليه لجذب الأسئلة ، متقنا تمثيل عدم اهتمامه بالأسئلة التي تقذف إليه عن طبيعة مهمته ، وإن كان قلبه على وشك أن يقفز من مكمنه فرحا لها ، وبات يتمنى لو بإمكانه أن يرقع زغرودة .

صار عبد العال خارج المؤسسة تماما ، قريبا من بوابتها شاهد سيارة تاكسي واقفة بخيلاء كأنها في موكب ملكي ، رأى السائق بأبهة غير مألوفة ، يضع نظارة قاتمة سوداء أضافت إلى أبهته جلالا مهيبا ، له شارب أسود هائش يلتف حول فم واسع وينحدر إلى الأسفل بانسياب ، منعطفا ليتصل مع شعر السكسوكة مشكلا حدوة متقنة الانحناء ، يتوج رأسه برنيطة منتفخة الوسط كما الطربوش .. بجانب السائق يجلس رجل شاب لا ينقصه هيلمان بجسده الطويل الممتلئ كأنه منفوخ بمنفاخ يضخ الماء بدل الهواء .. وهو أيضا يضع نظارة قاتمة ، لكنه بشارب خفيف بالكاد نبتت شعراته متفرقة تحت أنف طويل مدبب ومعقوف يكاد يلامس شفته العليا السميكة .

صعد عبد العال بلهفة إلى التاكسي ، وأعطى السائق أجرة حمولة كاملة ، كي يتحرك السائق بسرعة وردد في نفسه : أنا دافع حاجة من جيبي ، فالأجرة على حساب المؤسسة .. ثم خاطب السائق قائلا :

- سوق بسرعة وحيات أبوك لأني مستعجل .

ما أن تحركت السيارة عدة عشرات من الأمتار حتى توقفت فجأة ، إثر فرملة قوية  مباغتة ، خبط رأس عبد العال بماسورة تمتد أمامه معترضة وسط التاكسي ، لكنه مخدر بالفرح فلم يشعر بها .                                                             وصاح الرجل الذي يجلس بجانب السائق :

- اذهب من الطريق الشرقي .

فرد عليه السائق :

- لماذا أوقفت السيارة ؟ .. الطريق الغربي اقرب .. لن اسمع كلامك .

شعر عبد العال بغرابة ، وانقبض قلبه ، مط رقبته وحدق إليهما ، وكانت المفاجأة كالصاعقة عندما رأى كلا منهما يجلس أمام مقود مستقل ، وفرامل ودعسات كاز وكلاتش ، ثم صرخ بهما صرخة داوية :

- أنتما اثنان تقودان السيارة .. معقول هذا الكلام ؟!

فأجابا بصوت واحد ، بنفس الوقت كأن الكلام صادر عن حنجرة واحدة :

- غريبة يعني ! ألا يوجد للطبيب ممرض .. وللمدير نائب ، وللوزير مساعد .. ما هو الغريب في الموضوع .. مستغرب ليه يا أخي .. هل نزل من السماء حجر ؟ أم انطبقت السماء على الأرض !

قال السائق الأيسر بجدية كبيرة وصوت خشن عال :

- أنا اتجه في السيارة إلى اليسار .

أردف السائق الأيمن بصوت قوي هادر :

- وأنا اتجه بالسيارة إلى اليمين .

ثم راح السائقان يتخاصمان ويزعقان كل يريد إثبات أنه على صواب ، وحلف كلاهما أغلظ الأيمان على عدم التنازل عن رأيه ..

- وحيات دم أخي الشهيد لا يمكن إلا الطريق الغربي .

- وحيات دم أبي الشهيد لا يمكن إلا الطريق الشرقي .

شعر عبد العال بالضيق ، لأن دم الشهداء لا يستخدم سوى لحلف اليمين .. وأن قطرة دم واحدة من شلالات الدماء التي سالت على مدى عقود كافية لأن يتفقا على قيادة هذا التاكسي الصغير في الحجم ورائع الجمال شكله .. شعر ذلك بعقله المخفي الذي لا يمكن رؤيته  بأحدث وأقوى المجاهر .

بعد أن بلع عبد العال ريقه اقترح عليهما أن يتجها من الطريق الأوسط .. ولكنهما رفضا بإصرار وتصميم عنيد ، كأنه طلب منهما احتضان ثعبان ، ونشب خلاف آخر بينهما حين ادعى كل منهما أن دوره قد جاء ليسوق التاكسي .. وعبد العال ينظر إلى ساعته بأعصاب تالفة ، ولولا أنه ينفخ الهواء من فمه لانتفخ جسده كالبالون و انفجر . نما القهر المحبوس في صدره وعظم . حاول عبد العال أن ينزل من التاكسي لكنه لم يستطع لأن الأبواب مغلقة بالكامل بواسطة مفتاح كهربي أمام السائقين .. وكذلك الشبابيك .. صار عبد العال يخاطب نفسه كالمجنون بصوت مسموع وعقل غائب تماما عن عراكهما :

أنا اصطبحت بوجه من اليوم يا ولد يا منحوس يا عبد العال .. آه .. لا يوجد غيرهما ، وجه سميرة النحس ، ومحمود الزفت بدناوة نفسه وهو يشفط العصير والسجائر ، لولا أنني طيب القلب لما ذاق طعم العصير في حياته كلها .. مقودين .. سائقين .. هذه لخبطة .. الدنيا ساحت على بعضها .. معقول ؟

صحا مخ عبد العال الغائب على مناكفة كل منهما للآخر وادعاءه بالكفاءة : 

- أنا أسوق أحسن منك .. أنا بسوق من زمان .

- أنا أسوق أحسن لأن رخصة السواقة التي معي أصلية ونلتها بجدارة .

حاول السائق الأيمن أن يسوق بسرعة ، لكن السائق الأيسر فرمل فجأة ، وفاحت رائحة كريهة لاحتكاك الكاوتشوك بالأسفلت .. والشمس مسلطة عبر الزجاج جحيمها على عبد العال ، تذيبه وتشوي بدنه حتى غرق في عرقه ، فراح يفك ربطة العنق ، وخلع القميص الذي يلبسه على اللحم ، عصر القميص من العرق وعلقه جانبا في علاقة بالسقف ، فصار جلده المكشوف أحمر مثل صبغة مخلل اللفت ، وقد برزت به بعض البثور وامتلأ بالطفح حتى بقبش .

استعرت حمى المناكفة والمماحكة بين السائقين من جديد :

- إلى اليمين يوجد شجرة كينيا ضخمة يا مغفل .

- شجرة الكينيا إلى اليسار يا غبي .

نظر عبد العال يمنه ويسره .. تدفقت الدهشة إلى نفسه واستبد العجب بوجهه المسربل بالعبوس ، لا يوجد أي شجرة في المكان .. شعر أنهما يقصدان السخرية لاستفزازه .. فراح يصرخ بهما :

- لا يوجد هنا أي شجرة !

 سألا في وقت واحد :   

- إذن أين الشجرة ؟

و على الفور قال أحد السائقين للآخر مؤكدا :

- أكيد كلامه صحيح .. فهو مبصر .. ومفتح .

تجهم وجه عبد العال مرة أخرى حتى تلبد بالتكشير وسأل مغتاظا :

- هل أنتما عميان ؟!

أجابا سوية :

- نعم

راح عبد العال يلطم حاله بعنف ، بكف يلطم خده وبالكف الآخر يلطم صلعته المبللة بالعرق .. يا خراب بيتك وبيت أهلك يا عبد العال .. يا نهار أسود منيل بألف نيلة .. يا عم أنا ناقص مصائب ، حسبي الله ونعم الوكيل عليكم .. وأنا طول الوقت أفكر لماذا كل منكما رأسه يميل إلى جهة أخرى .. المبصر رأسه لا يميل .. يا نهار أسود ملغمط بالزفت ، بل هو يوم منقوع بالزفت المغلي .. معقول يا ناس عميان يسوقوا سيارة تاكسي .. مصيبة .. مليون مصيبة .. مليار مصيبة .. هل أرواح الناس لعبة بين أيديكم ؟ ألا يوجد شعور بالمسؤولية ؟ خافوا الله يا ناس .. حرام عليكم والله حرام .. وديني وما اعبد حرام يا ناس .. هذا لا يرضي ربنا والله لا يرضيه .

أخذ كلاهما بالتناوب يصوب كلماته إلى عبد العال :

- لماذا أنت خائف وغاضب ؟ كل مصائب الدنيا من وراء المبصرين !

- أرأيت قي حياتك أعمى وقع في حفرة أو دهسته سيارة ؟

لوى أحدهما رقبته نحو عبد العال قائلا :

- ضع عينك في عيني كلامنا صحيح أم لا .. بذمتك أليس كلامنا صحيحا ؟

ثم أضافا معا بعد لحظة صمت بصوت واحد كأنه صادر عن لسان واحد لفم واحد: لماذا أنت مستعجل إلى هذه الدرجة والشارع مكسور ؟

انفجر عبد العال يزعق بهما مؤكدا أن الشارع ليس مكسورا ، وأنه يمشي عليه بقدميه كل يوم ويتبختر .. الشارع لم يكسره دبابة الميركفاه بثقلها المهول ، أنتما من يكسر الشارع الطويل الممدود من عشرات السنين .. وراح يؤكد بصوت عال اقرب إلى الرعد منه إلى الزعق : الشارع ممتاز ولا يوجد به أي مشكلة . طلب منهما أن يتفقا بسرعة لأن وقته ووقتهما يضيع هدرا ، الدقائق تضيع والساعات ، وإن لم يتفقا سيضيع العمر كله ، وسيخرب التاكسي إن ظل واقفا ، وأنهما لا يصلحان لهذه المهنة .. ثم أمال عبد العال جسده إلى الأمام وقرب رأسه إلى المسافة بينهما وارتفعت نبرة صوته كالرعد :

أنتما تختلفان على التاكسي وتتفقان ضدي .. كلاكما يعمل لمصلحته وأنا ضائع بينكما وتحت أقدامكما.. أنتما لا تنفعان لأي عمل .. انتم من لخبط الدنيا ، الدنيا ساحت بسببكما ، لقد شويتا جلدي  . أريد أن انزل ، أخرجوني من هذا التاكسي ، لا أريد الأجرة التي دفعت بها إليكما .. أنتم ظلمة ، وسأشهد على ظلمكما لي أمام الله يوم القيامة .

لم يكترثا لكلامه .. لوى كلاهما رقبته نحوه بالتناوب مناكفا :

- تعال للشهادة علينا يوم القيامة الساعة الثامنة صباحا .

- هذا الموعد لا يناسبني . تعال للشهادة علينا يوم القيامة الساعة السادسة مساء .

طلب منهما عبد العال النظر إلى الأمام كما يفعل أي سائق ، لكنه استدرك على الفور أن لا فرق إلى أين ينظر الأعمى .. حتى على موعد الشهادة يوم القيامة تختلفان .. ستقوم القيامة وأنتما في عراك .

لم يعجبهما كلام عبد العال ، فراح احدهما يخاطبه بصوت منفعل قوي :

- صحيح أنني أعمى ولكن الناس حين تساعدني في المشي تمسك يدي ولا تمسك مخي . قد يكون المبصر أعمى والأعمى مبصر ، والمبصر الذي لا يرى إلا ما يريد أن يرى ثم يتعامى عما يرى هو أعمى .. والأعمى الذي يعرف كيف يرى كل ما لا يُرى ويفكر به هو مبصر .. لا يوجد فارق بين الأعمى والمبصر الذي يبصر الخطأ ويسكت يا عبد العال .. كلنا عميان لأننا نتعامى يا عبد العال .. الكل مطنش .. بالذمة أليس كلامي هو الأصح يا عبد العال .. حلفتك بشرفك .. حلفتك بالله .

لم يقتنع عبد العال بالكلام ، لأن كلامهما كلام في كلام ، كأنه موقن أن مخ كل منهما ممسوكا بيد من حديد ، وهو واثق في سريرته أنهما على خطأ ، وأنه لا يجوز للأعمى أن يسوق التاكسي لأي سبب من الأسباب ، فجأة شعر بالرعب حين رأى دخانا يتصاعد من مقدمة التاكسي ، من المحرك ، لكنهما لم يكترثا ، الكل يشم رائحة الدخان ، رائحته تزكم أي أنف مهما كان بليدا في الإحساس .                                                    تذكر عبد العال أن يوم الدوام قد انتهى وأنه فشل في مهمته الموكلة إليه .. وشاهد من بعيد زملاءه في العمل عائدون إلى بيوتهم .. راح عبد العال يفكر إلى متى سيبقى محجوزا في التاكسي .. بينما هو كذلك فاجأه وجه سميرة تطل من الشباك الذي بجانب السائق الأيمن تسأله :

- بالذمة هل خطيبي معه حق أن يفسخ الخطوبة يا عبد العال ؟ 

ما أن رأى وجهها حتى أطل عليه من شباك السائق الأيسر وجه محمود متمتما :

- ممكن بحيات أبوك تعطيني سيجارة يا عبد العال .

ذهبا سوية ونظرات عبد العال تلاحقهما من خلال الدخان المتصاعد من المحرك .. واستمر عبد العال يتطلع حوله زائغ العينين ، ثم ركز بصره في المدى كأنه يحاول رؤية معجزة تسقط عليه فجأة من السماء ، كي تخرجه من هذا التاكسي .. أو يبعث الله إليه بسائق واحد من المبصرين .. أو حتى أعمى .