قبس من نور
علاء سعد حسن حميده
باحث مصري مقيم بالسعودية
رغم سنوات عمره الطويلة لم يعرف أبدا الحب كما عرفه الآن!!
كانت له تجربة رائعة تحدث عنها آلاف من الناس!!
ومع ذلك فهو يشعر أنه عرف الحب الناضج الكامل أخيرا..لم يكن واهما ولا زاعما،ولم يكن يبذل محاولة للتعويض عن التجربة السابقة،وإنما هو يدرك بما لا يدع مجالا من الشك كيف أثر فيه هذا الحب؟
كيف أعاد صياغة شخصيته وشخصه صياغة جديدة..
في تجربته السابقة لم يتغير،ولم يحاول أن يتغير، ربما هو الذي كان يصنع المقاييس ويضعها لتستجيب هي لها..
أما الآن فهو يتغير، يتم تصنيع شخصيته من جديد وفق مقاييس جديدة!!
لأول مرة في حياته كلها يجرب كيف يتخلص من مساوئه، أو من أكثر مساوئه خطورة واستحكاما من أجل إرضائها..
وكان مع كل ذلك يدرك حقيقة واحدة خالدة بالنسبة له، وهي انه مستعد لأن يفقد أي شيء وكل شيء، وغير مستعد لأن يفكر في احتمال فقدها هي!
لقد باتت ابتسامة رضاها عنه تمثل له حياته نفسها..
ربما سابقا كان يتساءل أيحب نفسه أكثر من أي أحد آخر في هذه الحياة؟
كانت الحقيقة التي يحاول أن يهرب منها أنه فعلا يحب نفسه أكثر، ويحب كل احد يحقق لنفسه هذه متعتها واستقرارها وسكونها..
أما اليوم فهو يدرك أنه يحبها أكثر من نفسه، حقيقة واقعة لا مجال للمبالغة فيها..
فهو يحب نفسه في رضاها عنه، ويكره ذاته ويحتقرها في لحظات سخطها، لأول مرة يشعر أن تقويمه هو نفسه لذاته يخضع لمقاييسها ومشاعرها هي!!
ربما كان أولا يعطي لنفسه الحق في أن يرضى أو يسخط، فإذا به اليوم يطلب الرضا الخالص، حتى لو كان متأكدا انه على صواب، كان يعتقد أن هناك ما هو أصوب مما هو عليه ليقدمه لها قربانا لرضاها..
في المرة الأخيرة التي هاتفها فيها شعر بأنها فعلا يمكن أن تضيع منه، رغم تمسكها به، وتضحياتها السابقة من أجله، إلا أن عليه هذه المرة أن يتحرر من قيوده وأن يتقدم ولو خطوة واحدة صغيرة باتت واجبة عليه بلا تأخير أو تلكؤ..
لم يتوقف ولم يتساءل، ولم يبحث عن الحلول المتاحة، بل مضى مباشرة في طريق الهجرة إليها، ولو كانت هجرة سريعة مؤقتة، لكنها بالتأكيد كانت ستترك وراءه مخلفات من أعباء.. لكنه لم يلتفت إلا إلى صوت واحد يناديه: جاء دورك لتتحرك!
ورغم كل ما بذله من جهود، وما قدمه من حلول لسرعة التحرك إليها في الوقت الحاسم، وقفت أمامه عقبة لم تكن بيده، ولكنها كانت بيد رئيس لم يكن يعنيه أن يسافر أولا يسافر، لكنه كان على ما يبدو يريد أن يمارس سلطان المنع والمنح!
وتعقدت الأمور ولم يجد أمامه سوى مولاه يلجأ إليه بتبتل لم يعرف مثيلا له من قبل وهو ينصب إليه قدميه في جوف الليل ويبكي بكاء حارا مريرا ويهتف من أعماق نفسه:
(إلهي يا رب الأرباب وملك الملوك.. يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يا خالق الحب والنوى وفالق الإصباح، اللهم ألِن قلب عبدك فلان.. اللهم يا من تقول للشيء كن فيكون مُرهُ فيستجب لك يا حي قيوم، يا لطيف بعبادك.. يا لطيف.. يا ودود.. إلهي لم أكن بدعائك ربي شقيا، وهل يشقى عبد أنت مولاه ونصيره وظهيره!
اللهم يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض يا من ألقيت في قلبي حبها، أبقها لي في الدنيا والآخرة قبسا ونورا ولباسا..)
وأصبح الصباح وهو يهيم على وجهه في تيه ظلمات النفس والطرقات، وإذا برئيسه هو الذي يتصل به ليسلمه الموافقة على أجازته وسفره!!
ولم يتمالك نفسه، وانهمرت دموعه غزيرة حارة، فيتوقف بسيارته على أحد جانبي الطريق وهو يهتف من سويداء قلبه دون أن ينتبه لنفسه:
(أنا أحبك جدا يا رب.. يا حبيبي يا الله.. يا حبيبي يا الله..أنت رب المستضعفين وأنت ربي.. أنت رب المحبين وأنت ربي.. ما أحلمك وما أعظمك يا ودود يا لطيف..)
في تلك اللحظة الخاطفة وجد نفسه يتغير، يصنع من جديد.. يصنع في معية محبة الله عز وجل، لم يدرِ ما الذي مس قلبه في تلك اللحظات فصاغه شخصا آخر.. لقد تعرض لقبس من نور غمره ليخرجه من ظلمات النفس إلى نور اليقين والمعية واللطف والرحمة..
وأيقن عين اليقين أن الذي يستجيب له هذا الدعاء ويذلل له تلك العوائق، ويلين له مثل تلك القلوب، مُبَلّغه لا محالة إلى مبتغاه من شغاف قلبها..
هي له وهو لها بتقدير مولاه..
ويمضي إليها أياما معدودات لكنها كانت هي أيضا قبس من سكينة!!
حتى إذا عاد إلى حياته السابقة، لم يكن هو الذي عاد، لم يكن منه سوى جسمه وصورته، أما روحه وقلبه ومشاعره وكيانه فقد صيغت كلها صياغة جديدة تحت وهج قبس من نور، وفي ظلال قبس من سكينة..
عاد، ولم يعد، فهو قد ترك نفسه التي بين جنبيه أمانة بين حجرات قلبها.. ثم عاد بنفس جديدة.. عاد أخيرا إلى نفسه ليتوحد مع ذاته في شخصية واحدة، لم يعد شخصين احدهما حارس القيم والمبادئ السامية، والآخر أسير الرغبة والدعة والخمول..
عاد أخيرا إلى نفسه الواحدة، وكيف له ألا يكون وقد مسه قبس من نور وقبس من سكينة!!