فهمت معنى الدنيا
عبير الطنطاوي
كان بالنسبة إليها كل شيء .. الأب والأخ والصديق والأم .. منذ أن غادرت أمها الحياة وهي في مطلع الطفولة ، تعلقت بتلابيب أب رحيم تعلقاً غريباً .. كانت ترافقه إلى مكتبه ، وكان يصحبها معه في زياراته لأصدقائه .. لم يكن ليدعها عند أي امرأة ترعاها ، أو أي أسرة تعينه على تربيتها ، فهي أيضاً غدت بالنسبة إليه قضيته الأولى والأخيرة ، فإما أن ينجح ويظفر ، وإما أن يفشل . لكنه ما استساغ يوماً طعم الفشل ، وما شعر به ، فلابد له إذن من النجاح ..
وكبرت (دنيا) وهي لا تعرف في الدنيا صديق روح سواه .. كان أول ما ترى عيناها في صباحها .. وكانت تغمضها عليه هو .. فهو كل شيء ، والصورة الوحيدة التي تتشبث بها نهاراً وتحلم بها ليلاً ..
كم كانت تكره المدرسة لأنها تبعدها عن شقيق روحها .. وعندما تعود منها كانت لا تتركه يغادرها أبداً .. بل إنها كانت تحمل كتبها إذا أراد أن يزور أحداً ، وتذهب بها معه ، لتدرس هناك بقربه ، فهو عقلها وروحها ومالئ دنياها .. حين اقتربت من الحياة الجامعية زادت محبتها له .. إنه ترك دنياه طوال ثلاث عشرة سنة من أجلها هي .. كانت تنظر في عينيه الكستناويتين الجميلتين ، وتبحر في صفائهما وتتساءل :
ـ ألم ترغب هاتان العينان بأن تريا وجهاً جميلاً آخر غير وجهي الطفولي ؟ ألم يفكر هذا الدماغ النقي بأن تكون له امرأة تعينه على مشكلات الحياة وهمومها وتعقيداتها ؟
تساؤلات كثيرة كانت تخطر على بالها ، وتجد إجابة واحدة عليها :
ـ إنه مخلص لأمك التي رحلت ، محبّ لك ..
وتلك الإجابة تجعلها تود لو تمرّغ أنفها في التراب الذي يمشي عليه .. وكان أبوها يشعر بما يدور بخلدها ، فينتشلها برقة من تساؤلاتها إلى عالم الثقافة والجمال .. وكان يعرض عليها رغبة الراغبين في الزواج منها لكنها كانت تتحين مثل هذه الفرص لتقول محتجة :
ـ الكبير أولاً .. أنت ثم أنا ..
فتجيب شفتاه بقبلة باكية ويقول :
ـ لو أردت ذلك لفعلته منذ زمن بعيد .. همّي أنت وسعادتي في أن أراك سعيدة في عشّ الزوجية ..
ويغادرها دون أن يزيد .. كل أفعاله كانت تزيده بهاءً وشموخاً في نظرها .. تدخل غرفتها فتجد أجمل الملابس ، وأطيب العطور ، وأغلى المجوهرات ، وأنفع الكتب .. تجد التلفاز والستلايت والكمبيوتر وكل شيء حديث مريح ..
لقد تعلم الطبخ ، وحين كبرت علمها الطبخ .. وكانت أجمل الدعابات تحدث وهو يعلمها هذا الفن العسير كما كان يسميه .. كانت تراه وهو يعلمها فن الطبخ والتنظيف أجمل أم في الدنيا وأنظف وأرق من أنظف وأرق امرأة يمكن أن تخلق على وجه الأرض .. وتتساءل:
ـ إلى هذا الحد يمكن أن يصبح رجل الأعمال الحاد الملامح ، العنيف التصرفات والصوت ، رقيقاً مع من يحب ؟! ..
كبر والدها في نفسها وفي عالمها الصغير حتى حسبته الدنيا وما فيها من مباهج .. وملأت رأسها فكرة خلوده .. لن يموت .. نعم إنه سيعيش أبداً .. الم تمت أمها ؟! فلابد أن يبقى لها والدها ، وإلا فالضياع حليفها ، والتشرد طريقها .. أمضت أياماً مهمومة تفكر في أمر مغادرته الدنيا ، إلى أن اهتدت إلى هذا الجواب ، وارتاحت له ، واطمأنت .. كانت تضيق من سماع مدرسة الدين وهي تتحدث عن الموت ، وأنه حق ، ولا مجال للهروب منه .. تحدق في وجهها كالمستغيثة ، راجية منها الكف عن هذا الحديث ، لكنها لم تصمت ، حين عادت إلى البيت كانت مكفهرة الوجه ، كئيبة المبسم ، لم تحدث والدها وهما في طريقهما إلى البيت كالعادة .. كانت العبرات تتصاعد لتنفر من العيون المحبة ، لكنها كانت تخنقها شفقة على والدها .. حاول الوالد مداعبتها والحديث معها ، إلا أنها صدّته ببسمة واهية ، فهم منها أنها لا تريد الحديث الآن .. وحين وصلت إلى البيت ، مزقت الكتاب إرباً إرباً ، وألقت به من النافذة ، وانهارت باكية ..
مرضت واشتد بها المرض ، ووالدها لا يترك طبيباً إلا ويستدعيه ليعالج له دنياه التي غدت طريحة الفراش ..
وبعد فترة ، استردت وعيها ، وعادت كما هي من قبل ، لكن بريق الخوف لا يخبو في عينيها المذعورتين .. لابد أن الشبح المخيف زاحف يوماً إلى أبيها لتتعلق عيناه الجميلتان به ، وتصعد روحه ، وتبقيها وحيدة ..
كرهت المدرسة ، ولولا أن هذه السنة هي السنة التي تحدد مصيرها ومستقبلها لتركتها وتعلقت بتلابيب باعث النشاط فيها .. وأدركت معلمتها علّتها ، فاستدعتها إليها ، وحين دخلت (دنيا) إلى غرفة مدرسة الدين ، استقبلتها ببسمة ودّ ، وقبلة أمومة ، وأجلستها بقربها ، وأخذت تسألها :
ـ إنني أراك شديدة الحب لبيتك ، وهذا شيء جميل جدا للبنت ، لكنه في الوقت ذاته مخيف .. لأن العزلة تخلق أفكاراً غريبة ، تبعد بالإنسان عن الواقع ، وتجعله في برج عاجي أو زجاجي ، يظنّ أنه مع الناس ، وهو بعيد عن كل الناس ..
فأجابت :
ـ ولكني أقضي وقتي كله حتى وأنا أدرس مع والدي ..
ـ والدك إنسان عظيم ، لكنه ليس كل شيء ..
ـ لكني أنا بالنسبة إليه الدنيا كلها ، لذلك أسماني (دنيا) .
ـ والدنيا مصيرها الزوال .. إنه موقن أنك لابدّ يوماً من مغادرته ، إما بالزواج أو السفر أو .. أو .. أو الموت ..
صرخت بعنف :
ـ لا
ضحكت مدرستها وقالت :
ـ لي ثلاثة أولاد وبنت .. سأقص عليك قصة ابنتي .. تصوري أنها تتصورني خالدة للأبد .. نعم لا تعجبي ..
وضحكت قليلاً وهي تتأمل (دنيا) ثم بدا الاهتمام في عينيها وقال :
ـ لكني رفضت ذلك بعنف .. إذ كيف أكون خالدة للأبد ؟ أنا بشر ، ولابد للبشر أن يموت يوماً ، فالخالد الذي لا يعرف الموت هو الله وحده ، وحتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد مات وحتى ملك الموت نفسه سيموت بعد يوم القيامة .. لا خلود في الدنيا .. الخلود في الآخرة ، فإما سعادة ؛ وإما شقاء .. وأخبرتها أن المرء في الجنة يكون مع من يحب ، وبما انها تحبني ، فلابدّ ، إن شاء الله ، أن نجتمع معاً في جنة الخلد إن شاء الله . ثم سألتها عمّا إذا كانت تحبني أم لا !! نعم هكذا سألتها ، فأجابت : طبعاً ، لكني لم أقتنع بذلك الجواب وأخبرتها أنها تبغضني وتتمنى لي العذاب .. فإن كنت خالدة فهي ستموت يوماً ، ثم أبقى وحيدة أعاني من فراقها ، ثم أرتد إلى آخر العمر ، فأهرم وأصبح لا أعلم شيئاً ، وتكثر ذنوبي ، وتتعاقب الأجيال ، وأنا غريبة أتجرع الآلام والهموم ، وأنا أرى من أحبّ قد غادروني .. سأصبح مأساة لو كنت خالدة .. وساعتها سأغضب عليها وأمقتها كما مقتتني .. مالك لماذا تبكين ؟
أجابت :
ـ لقد تخيلت ذلك إنه مؤثر ..
ـ نعم يا ابنتي لقد أفهمتها وأفهمك أنت كذلك أنه لا خلود لبشر ولا لأي شيء . الشجر والحيوان والإنسان يموت .. حتى المادة تموت ، ويبطل استعمالها .. إنما الخلود هو خلود الذكرى الطيبة .. هو الخلود الحقيقي ، وإنني وكذلك والدك ، لن نموت إن كان لدينا أولاد مثلكم .. فافتحي ذراعيك للحياة ، وادخلي الجامعة راضية مرضية ، وتزوجي وأنجبي ، وعيشي كما يعيش الناس ، وافتحي باب منزلك ، وانطلقي للعالم الرحب ، وإذا جاءت المنية لأي عزيز عليك فاهربي من الدموع ، ولا تهربي من العالم ..
حين سمعت ذلك أجهشت بالبكاء ، وركضت مغادرة الحجرة ، بل المدرسة كلها .. وبقيت طريحة الفراش عشرة أيام ، وكلام معلمتها يصكّ آذانها بإصرار ..
وفي يوم السبت قامت مبكرة وارتدت ملابسها ، ووضعت غطاء رأسها راضية محبة ، وطرقت باب حجرة والدها ، وأيقظته بقبلة حنان .. وعندما رآها أبوها على هذه الحال ، كان كأنما وجد كنزاً ، فقد قامت من فراشها سليمة معافاة ، وقبل أن ينطلق قالت :
ـ لقد خلق لي ربي قدمين للمشي ، وها هي ذي المدرسة قريبة فلا تزعج نفسك ..
وغادرت داعية الله ألا يحرمها عيون ذلك الوالد العظيم الحبيب للأبد .. وإن كانت من داخلها تعلم أن الساعة الحزينة قد تأتي في أي وقت لها أو له ..