بوح
رشيد طلال
أدمنت مسامعنا الطرية احتضان نبرات صوته الأجش الدافئ، أحكمت تمكنها منا حكاياته بألفة ساذجة، زائدة الحجم والأثر، حتى خلناه في صقل مرآتها كائنا لا يشبه باقي الكائنات في شيء، ماعدا جسده الهزيل الشائخ، و المتصلب مثل لوح خشبي، هو لا يخفى عناده لتركات زمن ولى، ولا يحتمل أن يبرح سوى الوهن والضعف، نستغرب حركته الدؤوبة، وتجواله الذي لا تني هدأة مرحه عن الانسياب.
نحوم حول مسكنه كل صباح، دون كلل، نحاول التحقق من عودته أو غيابه، يغمرنا الفرح إذا عاد، وينتابنا الأسى والحزن إذا رحل أو غاب عن القرية، وكأن عالمنا ذاك يعدم الوجود من دون شرط حضوره، لا ندري أية ثقة وأي شغف استحود على كياناتنا الصغيرة، حتى أمسى حضوره بهجتنا، ينمو فينا دغله بسرعة كنبات مداري، هل لأنه كان ظلا يحمي نزق شقاوتنا، أم لأنه كان يواجه دون هوادة وتراخ أهل القرية، يصدهم عنا حتى لا ينالنا منهم، أو من آبائنا، عقاب أو توبيخ. توقظ حكاويه مردة خيالاتنا كي تجوب أكوان مستحيلة، فلا نعبأ بأكف السهو وهي تشطب من حسنا بيسر تلك الحياة الهازعة من حولنا.
توقف هذه المرة جريان الكلام على لسانه؟ حسبناها في البدء خدعة ذكية من خدعه في التشويق والاثارة، أراد بها أن يشحد زند سهونا أكثر من اللازم، جال ببصره في وجوهنا المترقبة، تلكأ في صمت، ربما مؤجلا استئناف حكيه، لكن سرعان ما اعتلت وجهه ألوان دهشة غريبة، أبدت براءة انفعاله، أثارنا مشهده ذاك، تقاسيم وجهه وتعابيره لاتخفي عسر مخاض الحروف من بين شفتيه، هل نفذ جراب حكاياته أم أن بوحه تمنع قاسيا هذه المرة، عاودنا الشعور بأن هذا المقام ليس كغيره، مختلف النبرة تماما، ومستبد الإرتباك، تولد فيه الكلمات الأولى متقطعة مشوهة، لم ندرك شيئا منها، لكننا لمسنا خلف ارتباكه صدقا فادح الإجمات، وعلى التو أيقنا أن حكيه سوف لن يكون أطياف مستسلمة لقدرية أبدعها نساج ماهر، ملم بمسالك الخيال وحبكها.
كانت صورتها لا تفارقني، انبجست هذه الكلمات متحصنة بصفاء أدهشنا، إنه بوح مرق من دواليب الغياب، ومن نياط حياة عاشها حقا ولا نعرف عنها شيئا، ثم أعقب حتى في أحلك الأوقات، كانت صورتها لا تفارقني، تتفتت اللحظات بين أناملي، تغذو خالصة من شوائبها، ولا جلال إلا لصورتها، تشدبني من كل شيء إلا من سحرها، تعيد في تركيب الكون مرة أخرى، وإن كنت لم أتبين تلك البداية التي على العاشق أن يبدأ منها بمدح من يهوى، و في أماسي المدثرة بالتعب والوحدة والشجن، حين كنت أختلي بنفسي في أمكنة شديدة القفر والنأي، تتسلل عذبة متعة شفيفة النسغ، من قبو وحدتي، تحررني من أثقالي بصوفيتها الخارقة، لحظتها تعيد في نبظا انكتم فيه سقوط الحب في يدي، فالتمست ممشاه في أوصالي كلها كما الحياة، كان يداهمني الشعور بأنني في اندلاق غامر حي متوثب مثل دفقة ماء تزحف على الأرض بتصاب عاشق، تهيم نحو قرارها المكين بين تجاعيد الحصى والرمل، وكأنها صارت مني النخاع، و في جوف التيبس الممتد أمامي، كانت امرأة تهزم بداخلي أهوال اليباب والموت، وبها كانت تتمترس خطواتي نحو أرض همت بها، وظننت أني سأبلغ منها المدى، بعد أن طوح بي تيه المشي وراء شيء لا أعرفه تمام المعرفة، لم يتقمص مظهره بعد، ولكن كنت استشعر هزاته القوية بداخلي في زهو ودهشة، ثم يمضي عجلا كأثر لمسة ناعمة، كان كما ذكرت وما لم أذكر، وفي غمري كانت صورتها لا تكف عن أن تخايلني.
أذكر وقفاتي على باب بيتها المعزول عن سائر بيوت القرية، وفي كل مرة تتملكني رعشة تبقي احساسي متيقظا، يتهيأ حركتها خلف الباب الواطئ، لم أنسى صريره الحزين. تفتح و ينفلت وجهها وديعا، تتغلغل فيه ملاحة مكنونة نادرة. وكانت كلما أرادت إخباري بشيئ عن حياتها تبدي ارتباكا في حركات يديها و قسمات وجهها المدور الأسمر، قالت لي مرة، أنها بقيت وحيدة بعد زواج ابنتها الوحيدة، وحكت لي عن زوجها الذي قضمته الحرب، حرب لم تكن حربه.
ساد الصمت قليلا، ثم استأنف قائلا: أظنكم ستستغربون كيف شدتني هذه المرأة وصارت محطة مثيرة فاتنة، امتصتني جاذبيتها إلى نقطة في الكون الفسيح، وما كان لي أن أأنس بسعادة عرفت أنها الحب دون حاجة للحب أبدا، ولم ننسج خديعة أخرى لرجل وامرأة، كنت واثقا من أننا حبيبان. وسحر هذه الحكاية غامر مستفحل، "والبقية ما تزال في القلــب " هذه المرأة أنستني رعونة قشرة الأرض الصلبة، التي نصبت نفسي محاربها، ليس بما كانت تحكيه لي عن ظروفها، بل لا أكاد أوافيكم بسبب واحد مقنع، إنها ليست محطة آسرة بددت متاع المشي الذي ادخرته خلال سنين طويلة، ربما تحسسنا معا هشاشة كيانينا في لحظات نادرة متحررة.
بقينا ننتظر لحظة، لم ينبس بكلمة، وفي حركة طائشة انطلقنا مهرولين من أمامه نحو خلفية المنزل، وكأنه أودعنا سرا خطيرا وثمينا لا تؤتمن عليه عقول الصغار، قد يظن أنه هوى في جب خطيئته القاتلة، أو المجازفة. أما نحن فألفينا ذلك بوحا يبعثر الجهات.