ويطول الدوار

ويطول الدوار..!!

محاسن الحمصي

[email protected]

"يا لائمي في الهوى العذري معذرة مني إليك ولو أنصفت لم تلمِ"

(البوصيري)

 يجلس على حافة السرير ممسكا يدي الباردة يجس نبضي ،  يغلق فمي بميزان الحرارة ، يراقب بصمت وجهي الشاحب الممزوج بسيل من الدمع وتصببِ العرق ، يضع السماعة على صدري متضارب الدقات ، يضرب بأصابعه على ظهري، يقلبني ذات اليمين وذات اليسار ..

يدخل قطعة خشب في فمي ويشعل الضوء ، يخلط زجاجات صغيرة في إبرة توخز شراييني ..

 " الحمدلله، لم يرَ اسما على لساني ، لم يجد وجها مرسوما على صفحة قلبي ، لم يسمع خطوات أقدام تركض في نبضي ، لم يخرج جسد مع القيء ..!!" .

 - مجرد التهاب رئوي حاد من تعرضك للبرد ، قلة النوم والأكل ، التدخين وأهمها تعرضك لصدمة عصبية.. من الذي تجرأ وأغضب هذا المحيا الجميل وجرح الفؤاد ؟

أنظر بعيون زائغة نحو الوجوه الخائفة المحيطة بي :" ترى على من أضع اللوم ومن الذي تقع عليه القرعة ، ومن أعرض عليه لائحة الاتهام ؟" .

- لا أحد .. فقط دعني أناااااااااااام قليلا ..

- سأبقي المصل معلقا لتعويض السوائل المفقودة، حاولي الابتعاد عن التفكير ، لا شيء يستحق (الزعل) ، ممنوع الموبايل ، التلفزيون ، الصحف ، الكومبيوتر ، ابتعدي عن العالم الخارجي قليلا ، للتعافي سريعا ..!!

 يركبُ الدواء موجة التخدير في دمي ، ويدور بجسدي النحيل  ،أغمض عينان متورمتان  ، لكن  القلب  صاح ٍ ..!!

 يغادرني، ككل صباح، يتركني معلقة في الساعة حتى المساء ، ألاحقه ب(الموبايل)، بهمسات الشوق ويغازلني بالرسائل القصيرة حتى نلتقي ونرخي شال الحب على أمسياتنا الجميلة .

به ثورة الشباب وفورة الغرور ..لا يفقه من الشاعرية والرومانسية سوى حروف ينمقها حين يشاء ، ومتى شاء ... وأحبه ..!!

قال: انتظريني ، بعد ساعة أكون بين يديك .

 تزينت ، تجملت ،  سكبت العطور ، اخترت أغنية يحبها .. تجولت بين أوراقه وملفاته أعيد ترتيبها..  لا توجد بيننا أسرار ولا محظورات، أوراقنا كشفناها.. الماضي  انتهى بمناقشات إيجابية . بدأنا من جديد ..

الصراحة تجمعنا، الوضوح يربط علاقتنا، والإخلاص جوهر حياتنا المشتركة ..!

 ملف جديد ، أراه لأول مرة، تعبث يدي به عن غير قصد ، يغلي التوتر في أعصابي ، ويتسلل إلى صدري الخوف .. إنه ( حدس ) المرأة !

صور ..

صور ..

 صور نساء ماضِيهِ ، وبأوضاع حديثة ..  السمراء والشقراء ، الجميلة

والقبيحة ، النحيلة والبدينة ، جمعها في ملف وأخفاها عن عيني؟؟

 لم تمض أسابيع على آخر نزوة ..!!

 - تخبرني أنك دفعت ثمن ساعة مع ( ....) تلامس اللحم الحرام لتثبت وفاءَك ؟

- لا أخفي عنكِ حقيقة ، أجل حاولت .. وعدت الى عشنا الهاديء أكثر حبا واقتناعا أنك الأطهر ،الأنقى ، والأجمل ..

 يومها اهتزت جدران البيت من زلزال صرخاتي .. فاحتواني بدموع الندم ، مسح  حزني  بمنديل اللهفة ، بسط دربي بمرادفات التوبة .. فصفحت !

وهاهو اليوم يجمع عشيقاته في ملف ..!

 يدخل بعد تعب نهار، أتماسك، أستقبله  بابتسامة مرسومة ، أضمه إلى صدري ، أقبل كفيه، وبركان الغضب يفور في دمي، يكاد يأخذ كل قوة  استمديتها بالدعاء ، أترك الكلام له .. يحكي.. ويحكي.. يثرثر.. يضحك.. أتابع حركات أصابعه ، يديه ..

يتوقف برهة ، مشدوها: ( فتحتَ ملفا جديدا ؟).

يداري ارتباكه:

- أجل فتحته بالأمس ، أين المشكلة ..؟

- والصور ..؟

- يا الله  !كم أنت حساسة وغيورة! هي صور من ماضٍ فات .. مات .. انتهى ..

- لكن الصور حديثة، لمَ أضفتها ؟ هل عدت إلى الحنين ؟

لا... لم أحــنّ.. لكني أمارسُ هواية البصق الجنسي على هولاء العاهرات ..وأحمد الله على كنز ثمين يجالسني ، يحبني ، يخاف علي ، يحفظ اسمي ، ويتسع قلبه  لجنوني ونزواتي .. وأنتِ؟ أليس لك أصحاب في كل مكان، تتلقين اتصالاتهم عبر الهاتف أو البريد  الإلكتروني ، وأسمح لك ؟..

 - الفرق أنهم أصحاب  لم أشاركهم نبضا ، حبا أو حياة . أنت سمحت لي بالصداقات لأنك تدرك أني لا أملك ماضيا (مسموما ) وتعرفهم جميعا.. لم أخفِ عنك علاقاتٍ أخوية ، عاطفية ، زمالة ، قدمتُ بثوب ناصع ليس فيه ثقوبا .. وأنت تتابعــني بعيون مخابراتك وعملائك وعسسك، كيفما استدرت ..!

-  أغلقي الموضوع ، وتعالي لأحبك أكثر .. وأنسى ..!

 "حبيبي، أحلم أني وأنت تحت بقعة سماء صافية اللون، أحتمي في صدرك الحنون ، وأغزل حشائش الأرض لك عشقا ".. أرفقتها مع قبلة في ماسيج .

 " وأنا  أحبك ، لا تشغلي بالك ، لولا الشرك بالله لعبدتك ، اكتبي كلما اشتقت إلي .. أنت في دمي يا ابتسامة أيامي .

 صباحك ورد ، عسل ، فراشات وعصافير ، كلماتي لا تسعفني للتعبير عن مشاعري..

(على فكرة ).. غيرتك رائعة لكن غيرتي (دون حد ) تحمليها ، تعرفين كم أحبك ، حتى لو كنت أتفوه وأتصرف معك  - أحيانا- بمنتهى القذارة .

أحبك يا نور العين .."

ويمضي اليوم بيننا..  صبي وصبية غافـَــلا الزمان والمكان ، يسرقان الفرح من سواد عين الحياة المُرْهِق ، يسورا الحب بعناقيد مرح ، وينهلا من نبع المودة ..

 مساء السبت الأخير..!

 ليلة نهرب فيها ، نختبيء في كهف اكتشفناه على ضفاف نهر الحب، نوقد نار الكلمة ، ننقش على الصخر وجه الأمل ، نركب بساط العنفوان ، نلاحق النجوم ونعبر التخوم ، ننام تحت ظل القمر ..

صحوت على  يد خشنة  تجذبني ، تسكب على رأسي دلو ماء ، تلقيني ، يتبعها صوت صارخ:(ابعتدي عني ) ..أكرهك ، دمرت حياتي  مذ ارتبطت بك.. كلكن (عاهرات قذرات) تركضن وراء (...) ومعسول الكلام .. دعيني أيتها (الزانية ) المخادعة ، الكاذبة ...

- حبيبي ، مابك ؟ ماهذه الاتهامات الجائرة ؟..

 يدفعني و يغلق من دوني الباب .

أقف في الشرفة. صقيع برد الشتاء يخترق عظامي والهواء يلسع وجهي ، موسيقى   الحزن تصدح في أذني ، فتصطك أسناني وأبكي . أي ذنب ارتكبت؟  أين أخطأت ؟ ماذا فعلت  ؟ (خيانة ) ؟؟ وأنا التي تعيش في محراب الصدق والوفاء ، أفديه بروحي إن قال :آآآآآآه !!

ليس مخمورا ولا يتعاطى حبوبا ، لكنها ( هلوسة ) لا يحتملها  حتى المريض والمختل ..!

كم شارعا عبرت ومنعطفا طويت  ، كم ساعة مشيت ، كم دمعة ذرفت  تحت المطر ، وكم من الوقت استغرقني طريق العودة ..؟

كقطة مشردة أنفض الماء ،  ألعق فروي ، أتسلل نحو دفء خيمتي ، بيتي العتيق ..!

 تمسح  أمي بكفها  الحنون جبيني ، تمسك( المصحف الكريم) تضعه فوق رأسي ، تتمتم بالأدعية ، تداعب خصلات شعري ، يغرقني الحزن فأتعلق بطوق رقبتها ، أسبح نحو صدرها  وعلى شاطيء رقة الأمومة  أستلقي ..

- من أتى بي هنا ؟

- وحدك ..

- لماذا حظي في الحياة عاثر ؟

- قضاء الله وقدره ، المكتوب على الجبين ، وأنت  قصة وحالة  كقصص نسائنا اليومية ..

- لمَ ربيتني على المبادئ ، الطيبة والتسامح، ومن صفعك على وجهك الأيمن أدر له خدك الأيسر ، والدين معاملة ، وووو..؟ أحببته يا أمي من أعماق الأعماق .

- هل أنت نادمة على التمسك بالأخلاق ؟ الحب وحده لا يكفي لرفع سقف بناء ، يحتاج إلى ركائز وأعمدة احترام ، ثقة ، تكافؤ ، ونضج ..؟

- لا.. لكني شقيت .. لبستني الهموم، وعرتني الصراحة، لأجل الأخلاق تزوجت صغيرة ، ولأجلها هُجرت ..

- زواجك كان في مصلحة شرف العائلة .. هل تذكرين ابن العائلة (....) الذي حاول اختطافك من أمام باب المدرسة ..؟

- طوال عمري جمالي، أنوثتي ، أخلاقي  نقمة علي ّ، حتى عندما أكملت دراستي، وتسلحت بالشهادات والعمل .

- طوال عمرك وأنت مرغوبة و محسودة من القريب والبعيد ..

 تدخل أختي  الكبرى تحمل أوراقا بيضاء ، تبتسم بحنو مفتعل ..

- الأميرة استيقظت بعد خمسة أيام .. حمدا لله على سلامة العودة من رحلة  الموت ..

تضع الأوراق ، تسحب أمي بغمزة ، أبقى وحدي .. وأتصفحها، أغوص بين السطور:

 اعتذار بشتى لغات العالم ، أحلام ، آمال ، مستقبل مشرق ، أموت إن ابتعدتِ ، أنتحر إن غبتِ ، أحبك حتى آخر رمق ..!

أكتب نعم في الورقة الثانية ، أشتري كرامتي ، أوقع على حريتي ، أوافق دون قيد أو شرط على كافة البنود المرفقة في قسيمة ( الطلاق ) .. يرتعش جسدي ، أتقيأ أيام عام ، أحضن اكتئابي ،  ويطول الدوار ...!!