وصلت إلى بر السلامة

يحيى بشير حاج يحيى

عضو رابطة أدباء الشام

حاولت أن أجد تفسيرا للسبب الذي يجعل رجلا لم ألتق به من قبل يديم النظر إلي ، وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة !

قلت في نفسي : لعلي ذكّرتُهُ بإنسان يعرفه ، فوجدت من المناسب أن أبادله التحية بهزة رأس ، وابتسامة كما فعل ، ونحن متجهان إلى سلم الطائرة .

تواردت خواطر كثيرة ، ثم بدأت تنصرف واحدة بعد أخرى ، لأفاجأ في الطائرة أن المقعد المخصص لي بجانب مقعده!

عدنا إلى التحية بابتسامة وهزة رأس ،وصمت كل منا، ولم يقطع هذا الصمت سوى وقوف المضيفة وهي تقدم لنا إحدى الوجبات، مددت يدي إلى الطعام قائلا : بسم الله .

فرأيت شفتيه تتحركان هل يقول شيئا؟ هل يقلدني ؟ هل يجاملني؟

انتهينا من الأكل وحمدت الله ،ثم مسحت يدي بالمنديل المعطر ،نظرت إلى الرجل فوجدته يحدق بي .فقلت في نفسي لعله استغرب من كلماتي التي رددتها قبل الطعام وبعده ؟!

قال لي بإنجليزية واضحة : أنت مسلم ؟

قلت : نعم والحمد لله.

قال: وأبواك ؟

قلت: مسلمان  أيضا .

صمت قليلا وارتسمت على شفتيه ابتسامة رضية وقال: و أنا مسلم أيضا.

قلت مندهشا وفرحا :مسلم ما شاء الله! وأضفت من أي البلاد ؟

لم يجب ولكن مد يده إلى محفظة صغيرة وأخرج منها كتابا وقال باعتزاز: هذا أنا.

نظرت إلى غلاف الكتاب فوجدت عليه حروفا قريبة من اللاتينية فقال وقبل أن أسأله: إنه بالروسية و أضاف وهو يبتسم عنوانه ( وصلت إلى بر السلامة))

قلت : إذا أنت روسي!

قال نعم ….. ثم سكت قليلا وقال: ما اسمك؟ قلت: محمد!

قال : ياله من اسم جميل! ولاسيما بعد ما عرفت معناه . تناول قلما وكتب في صفحة ما بعد الغلاف كلمات ونظر إلي قائلا: كتبت لك إهداء خاصا .

شكرته وأنا أحس بفرح كبير وقلت: إن عنوانه جميل ويجعلني أتفاءل بمرافقة السلامة لنا في رحلتنا الطويلة فهل تحدثني كيف أسلمت؟

هز رأسه متلطفا وقال :أنا روسي الأصل يهودي الديانة أُدعى الآن أحمد المهتدي، فتحت عيني على النظام الشيوعي في روسيا، وانخرطت كغيري في الحزب ،ووصلت إلى الجامعة ،كنت كثير التفكير في التناقض بين ما يرفع من شعارات وما أجده في الواقع !؟ كل شيء مقنن في حياتنا وكل شيء محظور …والشيء المسموح به أن تمجد أفكار الحزب وأشخاص القادة  ….  لم أشعر يوما بالانتماء لما يقولون ولا سيما إنكارهم وجود الله وشتم الأنبياء والقدسيين .

توقف عن الكلام ونظر من النافدة وكأنه يستعيد شيئا من شريط الذكريات وقال: فكرت بالهجرة إلى مكان أشعر فيه بذاتي واحترام فكري وقدسية حريتي ، حدثت بعض زملائي فوجدت لديهم الشعور ذاته ؛ولكنهم كانوا حذرين من الاسترسال معي بهذا الحديث إلا واحدا كان يشجعني على الهجرة إلى الولايات المتحدة

لأنعم بالديمقراطية الغريبة ؟!!

حين وصلت ورأيت تمثال الحرية ،أحسست بأن ذاتي المفرطة في التصاغر نتيجة الكبت والقهر السابق قد بدأت تنمو وتكبر لتصل إلى حجم هذا التمثال ؟ ووعدت نفسي أنني سأحيا حياة تنسيني ما لقيت خلال سنوات عمري السابقة . وامتدت بي الأيام لأكتشف بعد إقامتي عشرين عاما أن هذه الديمقراطية لم تكن إلا سرابا وأنها ليست أقل سوءا وتزويرا من الشيوعية ؟؟!

فهناك تقتل الدولةُ الفرد وهنا يقتله المجتمعُ ؟؟! فقررت العودة إلى وطني بعد أن سقطت الشيوعية كما كان متوقعا لها؛ لكني أفدت من هجرتي أني اطلعت على تفسير لمعاني القرآن بالإنجليزية .

كنت أتابعه ،وأشاركه في مشاعره المختلفة، ويغمرني إحساس بالسعادة فقد كانت كلماته تنعش في نفسي آمالا ،ويزداد تفاؤلي بمستقبل الإسلام، ولاسيما عندما يتعرف عليه الآخرون بعيدا عن موروثاتهم السابقة .وكانت نظراتي تطلب المزيد .

قال وكأنه يحس بما ينتابني من مشاعر: حين عزمت على الرجوع إلى موطني الأصلي كنت أبيت في نفسي أمرا وهو أن أتصل بأحد المسلمين من زملائي من أبناء الجمهوريات الإسلامية ،فقفز إلى ذهني صورة زميلي إبراهيموف الذي شجعني على الهجرة، ثم انقطعت الصلة بيننا... كنت أعرف أنه وُلد لأبوين مسلمين وأحس من خلال علاقتنا بالجامعة وخارجها أنه ما يزال على دين والديه فهو يعتذر عن شرب

 (( الفودكا )) ويبتعد عن كثير من الممارسات ويحتج دائما بأنه مريض ؟!

ولكن كيف أصل إلى إبراهيموف؟ وأين أجده ؟وكم كانت مفاجأة جميلة عندما رأيته يستقبلني مع أخي الأصغر الذي أخبرني بعد ذلك أن إبراهيموف كان يتسقط أخباري عن طريقه .

رحب بي كثيرا وأسررت في أذنه أنني أحب أن ألقاه بعد أيام على انفراد. طال الحوار مع إبراهيموف، وتعددت اللقاءات وشرح لي كثيرا عن الإسلام .

وفي كل مرة كان يقول لي: لا أحبذ لمن يريد الدخول في الإسلام أن يدخله عن ردة فعل .

وللحقيقة كان إبراهيموف دمثا وصادقا ويحب الخير لي وكان يحثني على القراءة عن الإسلام أكثر مما يحثني على الدخول فيه.

مضت ثلاثة أشهر ،وفي المكان الذي نلتقي فيه دائما ،قلت: قد آن لي أعلن إسلامي لأتخلص من تلك الأوزار والهموم والتجارب المرة .

قال إبراهيموف ، وقد كادت عيناه تدمعان: كنت أشعر قبل أن تهاجر أن مثلك لا يمكن أن يستمر في رحلة ضياعه ،ولكنني لم أكن أجرؤ أن أحدثك بكل شيء أعرفه، ولم أجد سوى أن أشجعك على الهجرة إلى أمريكا لأنني كنت واثقا أنك ستجد هناك نارا من نوع آخر ،وكنت آمل أن تعود وقد جربتَ و رأيت …..

قلت و أنا اشد إبراهيموف إلى صدري :أنت مسلم لأنك ولدت لأبوين مسلمين و أنا أسلمتُ بعد أن ولدت من خلال تجربتين مُرَّتين .

اقتربت الطائرة من المدينة التي سنهبط فيها فقلت ،ونحن نفترق :الحمد لله على سلامتك مَرَّتين: وصولك إلى الإسلام أولا، ووصولك إلى هذه المدينة سالما.

*فكرة القصة اُستمدت من خبر قصير عن إسلام أستاذ جامعي روسي ، نُشر في مجلة النور (الكويتية ) في العدد 275