غَنَيتُ لَكَ

سامح عودة/ فلسطين

[email protected]

غائمة تلك الليلة، هكذا أنا مغرم بتقلبات الجو، أعشق الخروج عن المألوف..كلما اقترب المطر؛ أجهزُ أشرعتي للتحليق في فضاءاته، أعشق الهطول، وأصغي لحبات المطر وهي تنقُر على زجاج نافذي، أشعرُ بأنها تحاول اختراقي، فتجتاحني فوضى أحاول ترتيب ذاتي بعدها ..

أعيد ترتيب الوقت، وأمسحُ كل ما علقَ في ذاكرتي من الأمس، ليس لأنني بشرٌ مختلف عن البشر بل لأن روحي تهوى المجون، والجنون، والسفر إلى عوالم بعيدة يصعب العودة منها، هكذا أنا أحمل عشقي منذ الصغر، منذ أن تفتحت مداركي، فرأيت الكون بهيئة ملاك يتجلى في أيام الشتاء، كأن رحمة الرب التي تغرق الكون سروراً، وتنثرُ النعمةَ في كل الأمكنة أراني الوحيد الذي يتماهى معها، يدندنُ لها، يشكر، ويشكر، وأستمرُ على هذه الحال حتى أفقد توازني من التوهتيه في تلك المدارات المتعرجة .

نعم … ها أنا ذا بلغت من الحكمة الكثير، ولي من الحضور أكثر، أشياء تعطي الآخرين انطباعاً بأن الروحانيات لا تستهويني، مخطئون هم، في اعتقادهم، ومع ذلك لم أتجمل، كل ما لدي طفل صغير يسكنني، وروحٌ ما زالت خضراء، كلون العشب الذي أراه هناك في الحديقة المجاورة ..

لم أبالِ بالوقت إذ مر سريعاً، عدتُ إلى منزلي بعد أيام من السفر، وكان سفري الأخير لقضاء أجازة رأس السنة، وبرغم سعادتي بالسفر لم أشعر برحيق الفرحة التي تتملكني لحظة هطول المطر، فطول فترة السفر التي جاوزت الأسبوعين لم تهطل قطرة ماء، فكانت أيامي عادية لم تَخلد في روحي، والسنة التي لا تبدأ بالمطر أراها سنة عادية، لا تحتسب من العمر ..

آآآآه .. نسيت أن أخبركم بأنها ليست حالة نفسية، بقدر ما هي حالة حب للحياة، بعد موت الأرض أياماً؛ بعد صيف حارق، يحرق كل شيء ويبعثُ في الروح التصحر، نعم هو التصحر الذي يذكرني بخريف العمر، فالطفل الذي يسكنني ما يلبثُ أن يهرم خلال الصيف،

لذا .. بدأت الليلة مشحونة، هربت من نظرة للسماء، بعثت في نفسي الطمأنينة، كنتُ أهوى التسكع في الشوارع، والذهاب إلى المقاهي، أو إحدى المطاعم لتناول وجبة سريعة، فأنا وحيد وإرهاصات العمل لا تجعلني أفكرُ فيما سأعدُ للغداء ، لكن هذا المساء عدتُ إلى منزلي مبكراً، وقبل أن أفتح الباب قطفت ورود جوري من حديقة المنزل، كأنني على موعدٍ مع وليمةٍ ليلية ..

لم يخطر ببالي شيء سوى رغبتي في كسر الروتين، دخلت المنزل غيرت ملابسي واستلقيت على الأريكة الخشبية مقابل التلفاز، أقفلَ النعاس علي ستائره، فذهبتُ في نوم عميق، استيقظت ورعشة برد قد سرت في شرا يني، فقلت :

- يا الله ، كيف استطعتُ أن أغفو مدة ساعتين ؟

-لم أفعل شيئاً في المنزل ولم أتناول وجبة الغداء

صوت الريح يطرق النوافذ .. أسرعت إلى المطبخ .. جهزتُ الغداء، وأربكت نفسي في تدبير شؤون المنزل، ولم أبالِ بما يحدث خارجاً مرَّ الوقتُ كسكين جارح، أعددت القهوة وذهبتُ إلى الشرفة الزجاجية التي تطل على أحد البساتين المجاورة، جلستُ وأعددتُ لفافة التبغ، أشعلتُ سيجارتي وقلبت مجلة كانت بجانبي، وفي لحظة ظهر البرق في السماء، وبدأ رذاذ المطر يتطاير، رأيته يعانقُ زجاج الشرفة، فيسكرها، ويخف ثم يعلو صوت المطر فيندمجُ في قبلةٍ مع ذلك الزجاج، رميتُ المجلة، وأشعلتُ سيجارة أخرى وبدأت أتابع التفاصيل، شعرت وكأن الطفل الذي يسكنني قد يولد في أية لحظة وعندما اشتد الهطول، استيقظت روحي من غفوتها، فسبحت في فضاء ٍ فسيح، ومع أن ستائر الليل قد أطبقت على الكون وصارَ الوقت متأخراً إلا أنني شعرتُ بنورٍ أضاء السماء .

لم يكن ضوء البرق، ولم يكن مصباحاً أشعل من الجهة المقابلة للشرفة، كأنه نورٌ رباني ملأ الكون ضياء؛ً رغم جدائل العتمة فجعلني أبصرُ كل شيء، وكأن مصابيح قد تدلت من عنق السماء كعناقيد العنب، أمعنتُ جيداً، ودققت في الأشياء، فوجدتُ أن شيئاً ما بدأ يكبر ويكبر، حتى أطل وجهُ أنثى ، وكل النور قد توهج فيها.

عيناها مرج أخضر، وشعرها ممدود أسفل كتفيها، تلبسُ ثوب ملاك أبيض، فتحت لها شرفتي وأدخلتها إلى المنزل، واندهشت :

-يا الهي ، من أنت ؟هل أنت من البشر ؟ومن أين أتيت ؟ وكيف جئت ؟

همهمت بصوتها وكأنه قيثارة قد فتحت لحناً شجياً في المساء :

- جئتك َ سيدي من هناك من خلف الغيم، من خلف الحدود، من البعيد الذي لا يعرفُ المستحيل، اخترقتُ كل الجدران، وسبحتُ في فضائك نجمةً وهبطت مع هذا الهطول ..

- أنت.. أنت، درة صبحٍ نقية، كنتُ أراككِ طيفاً يأتي إليّ، لكنني أدركتُ أنك حقيقة أبدية، ولستِ كما تهيأت، يااا …. تفضلي في الجلوس .

أجلستها بجانبي، وناولتها فنجان قهوة، فأنا من عادتي كلما أعد القهوة أضعُ فنجاناً آخر، علَّ أحداً يطرق الباب، سكبتُ لها القهوة، وبقي صوتها أنشودة صبحٍ ترن في مسمعي، سرحتُ قليلاً :

يا الله هذا الصوت لا يمكن أن يكون صوت بشر . لم أسمع صوتاً بعذوبته، كل شيء فيها يغويني، ما العمل ؟ أفقت من ذهولي على إيقاع صوتها الفيروزي :

- ما بك ؟ أراكَ لم تعد هنا ؟

- لا سيدتي، أنا هنا، معك، ولكن روحي غادرتني قليلاً إلى حيث تهطلُ حبات المطر .

وبدأت أقلبُ صفحاتي معها، وأري ما لم أروه لأي مخلوق كان ..!!

فتحتُ نوافذ الذاكرة على مصراعيها، وعدت إلى الطفولة، وإلى أيام الصبا، حدثتها عن أحلامي عن عوالمي، كانت لغتها تسمو فوق السمو نفسه، تزهو زهواً، وروحي مغرمةٌ بها، ما نلبث أن ننهي موضوعاً حتى نعبر مجالاً آخر.

وفي غمرة الحديث كنا نصمت معاً، ونتحدث معاً، صار الجو أثيرياً، تفتح المدى رغم الهطول الغزير ، إلا أن أنظارها كانت متجهةً نحو السماء، وفي لحظات كانت تقول :

- أصغِ معي أيها الهائم في هذا الكون، أتسمع صوت المطر ؟

- نعم سيدتي ، أسمعه فهو يعزف ألحانا تخلد مع حبات المطر ، أتعلمين أن صوتك والمطر متشابهان .

- متشابهان ؟

- نعم ؛ كلاكما يمنح الآخر روحي، سأحدثك عن أمنية لازمتني منذ الصغر .

- ما هي ؟

- كنت أحلم بصوت أنثوي رقيق كصوتكِ يمطرني ألحاناً، استمعُ إليه وحدي دون الكون .

- سيدي؛ سأحقق لك ما تمنيت، سأعزف لك من روحي لحناً كما تريد.

- شكراً لك سيدتي، رقتك تغمرني ..

بدأت تدندن أغنيةً بصوتها المخملي، والكون يطربُ، فيتراقص كل شيء فيه، حتى جدائل المطر كانت تهطلُ وكأنها تردد معها أنشودة المطر ..

همست:

- سيدي "غنيتُ لك " وحققت لك ما تمنيت .

أما أنا فقد غرقتُ في سبات عميق، وذهبت هي كطيف نوراني سكب في روحي الأمان، جاورني ساعات، ثم غادر ..