ربح البيع

سعيدة ح بوطاهر

[email protected]

-1-

لا حقا سأتصل بك، يفعل الله خيرا

حسنا إلى اللقاء!

هكذا رد عليه في الهاتف مفعما بالأمل، لقد بدا من خلال عباراته الرقيقة، أنه سيقرضه المال دون تردد أو شك،لأنه الصديق الوحيد الذي عثر عليه أخيرا  بين وجوه عدة وكأنه يبحث عن إبرة في كومات من قش.. سرعان ما انسجما معا وكأنهما يتعارفان منذ زمن قديم.. ويلتقيان في الأفكار والأحلام..  إنه المرآة التي  تعكسه في الرأي والفكرة....

كل الذين يأمل فيهم السداد والخير..هبت رياح الهجرة فعصفت ببعض وأرهقت البعض الآخر .. من سيقارعه الآراء إذن٬ أو سيشاركه همومه؟؟.. لاح له هشام في الأفق فتلقفه كما يتلقف الجائع اللقمة أو الظمآن جرعة  ماء في فيافي الصحراء..وعلى اختلاف الانتماء القبلي والعرقي فقد استطاعا معا أن يشكلا توأما منسجما .

اليوم؛ الصديق محمد في ضائقة مالية، حار كيف يخرج منها!! ..ومع أن       هشام أقرب الناس إليه يفضي إليه بدقائق الأمور إلا أنه تردد كثيرا في التعبير عما             

يحتاج إليه لأنه يعرف سلفا أن موضوع السلف في بلدتنا شبه مسكوت عنه ،فلجأ       

إليه لأنه الوحيد الذي يقرأه مثل ما يقرأ كتابا واضح المعالم كي يسانده في محنته،   

فأقنعه في الهاتف أنه لن يتأخر عنه أبدا في تسديد الدين.

هو من أعز أصدقائه - كما يردد هشام في كثير من اللقاءات- ،عندما يتذكره أو يستحضره تذرف عيناه فجأة،حبا صادقا ووفاء، فيدافع عنه بقوة يدهش لها الحاضرون فيزكون هذه الألفة، وعلى قصر المدة الزمنية التي تم فيها التعارف، فقد امتلأت بما يكفي من اللحظات الحاسمة من التعامل والتفاعل والتواصل والتواد والثقة، جعلت كلا منهما يشكل تصورا خاصا على الآخر، ويعترفان معا أن أجمل ما جمع بينهما ، هذا التميز المتفرد ، وهذا التفاعل مع الأشخاص والأشياء متوجا بالقيم الجميلة التي تشبعا بها في الساحة الطلابية ، وعلى الرغم من أن هناك اختلاف طفيف اتجاه قضايا معاصرة ،لم يكن ذلك ليؤثر على الإطلاق..بل يزيد الحوار والنقاش إغناء..

أخبره محمد في آخر اتصال هاتفي به أنه باع سيارته لينخرط في مشروع خاص ، مناصفة مع أحد الشركاء..فرح صديقه هشام الموظف كثيرا لسماع ذلك بل شجعه لأنه يعرف جيدا أنه يكابد من أجل أن يجد لنفسه موقعا.. فقد عانى ما بعد التخرج ما يعانيه كل حاصل على شهادة عليا في وطن عربي..

لم يتلق محمد جوابا واضحا من صديقه ، كل ما هناك أنه تركه يعيش للغد على بصيص من أمل .. فقصد أقرباء آخرين كل منهم كان يتلكأ في تقديم المبلغ ويبسط حججا دامغة حتى لا يقلق ، مع أن من بين هؤلاء من أسدى إليهم خدمات جليلة - باعتراف منهم - هناك من كان عذره مقبولا وهناك من كان يتهرب خوفا عن ماله ليس إلا...

لا أحد كان يشك في محمد فهو أمين وصادق في القول ..ندرت عملته ، ولهذا  يحسده الكثير على نعمة القبول التي وهب إياها.. وعلى الخير الذي يتدفق عليه فهو كريم محب للكرم .. وعلى يديه تقضى حوائج كثيرة.. دون أن يرد طلب أحد: المسكين والمعوز..الفقير والغني .. سعادته في ذلك لا تتصور لأنه يؤمن إيمانا قاطعا أن الله قيض ناسا وصفهم باللآليء تقضى حوائج الناس على أيديهم .. فطمع في ذلك..

كانت سيارته تلك، ملكا للآخرين وليست ملكه هو، هي للرائح والغادي، فالقرية بعيدة عن كثير من المرافق وكل من صادفه متجها إلى المدينة حمله دون تردد حتى إذا طلب منه أن يقوم بعمل إضافي انشرح وكتم غيظه في تؤدة ودون تلكأ...وقد اعتاد الجيران أن يسألوه عن مقصده بل ويتحلقون حوله به،و يمطرونه بطلباتهم.. منهم من يقسم عليه بأخذ الدريهمات  ومنهم من كان يردد:

اعذر الحال

إلى المرة المقبلة ....                      

-2-

أخيرا رن جرس الهاتف.......

السلام عليكم أخي محمد

وعليكم السلام يا هشام

لم تعاود الاتصال مجددا أريدك أن تمر علي في البيت أنتظرك

من أجل المبلغ؟؟

طبعا!

إلى اللقاء

كان موعد تسديد المبلغ قد اقترب وبالأحرى، الليلة هي آخر يوم من الأجل المحدد فما العمل؟؟؟ لا يمكن له أن يعتذر للمرة الثانية أو ينسحب لأنه شريك في الصفقة ..أو يتراجع ..!وإذا أخفق في هذه الصفقة سيعلن إفلاسه الحقيقي في العلاقات الاجتماعية بل في صداقته الحميمة وربما يزيد اقتناعا أن الناس صنفان مستغل مستفيد ومدار متملق.."فعليك السلام أيتها الدنيا إن كان الورى أشباح ورى..."

دخل على زوجته شاحب الوجه مخطوف اللون متوترا ،حاول أن يخفي أحاسيسه فلم يستطع

ماذا دهاك يا رجل؟؟ قل هل من شيء ؟؟

تلعثم قائلا لم أشأ أن أشغل بالك؟ ،فأردفت قائلة

أقرأ أفكارك.. ماذا عن المبلغ هل وجدته؟؟

ابتسم ابتسامة خفيفة، فربت على كتفها من قال لك أني أتوقف على....المب...

المهم، إذا أردت أن أستلف من البنك غدا إن شاء الله نذهب.....

لا لا داعي إنك علمتني أن فوائد البنك ربوية لن نفعل أرجوك، فالصباح رباح.

اهتز لما سمع فوائد البنك ..وعلى الرغم أن زوجته حاولت إقناعه أن ذلك ضرورة، فقد رفض بإصرار..ثم قال:

- لقد كلمني أعز صديق يا عزيزتي، فطلبني في بيته، ظننته الأول والأخير الذي سيساعدني للخروج من المأزق ..لكنه فاجأني عندما قال لي في صوت خافت :

خفت أن ينصرف المبلغ و يضيع مني ولا ولاولا..............وأنا أنوي شراء قطعة أرضية وإذا تأخرت ستضيع مصالحي ووو.. قلت له مقاطعا

لن يضيع منك يا صديقي  ما دام مالك في جيبك  ولم أتسلمه بعد، ولن يضيع صدقني لن يضيع، ما دام صورت لي أنك ستمد لي العون فغلبت وساو يس الشيطان إذ رميت بصفاء نيتي عرض الحائط.. لكن لا تقلق لن يؤثر ذلك على علاقتنا أبدا، لا بأس إلى اللقاء

احمرت وجنتا هشام ..طأطأ رأسه إلى الأسفل يفتش عن طريقة للهروب من المأزق، ثم انسل شيئا فشيئا فتوارى لا يعلم أثره..

عاد محمد إلى البيت بخفي حنين.. اعتقد جازما أن العالم لو تأخر عن إنقاذه فهشام لن يفعل، فصاح في وجه زوجته يدور غي فناء البيت وعلامات الاستفهام تلوح بعيدا...وكأنه مجنون تائه:

إنه يعرفني جيدا لماذا تردد كل هذا التردد ؟، لماذا أسعى إلى إسعاد الآخرين بما أملك ؟ولماذا أحرص على أن أتوج فرحته بالعيد بهذه السيارة.؟ آه !!لماذا الفلوس هي المعضلة التي تفسد الأشياء والعلاقات والحياة لا لا علي ألا أقول ذلك فما أفعله فمن صميم قناعاتي، وقد ثبت عبر التاريخ أن المال يفعل الأفاعيل في ابن آدم.. لماذا يغير الناس جلدهم  عندما يتعلق الأمر بالمال.. أو يتنكرون تماما كما لو لم نحي حياة طيبة ... بئس المال الذي يفسد عنصر الثقة يا هشام.. كنت أعتقد أنها البلسم والكنز الذي يتوج صلتي بك لكن.. الحمد لله الحمد لله على كل حال.

 كلام كثير اعتمل صدره، عجيب!! من سيفهم ضائقته غير ربه الذي لا مهرب منه إلا إليه........سبحانه.

لأول مرة رأته يتنفس الصعداء بقوة..استجمع قواه ثم توضأ فصلى ركعتين في خشوع مبتهلا إلى خالقه يفرج كربته.. سلم  أخيرا.. فإذا بطرقات على الباب.

 -3-

- من الطارق؟؟؟

- ضيوف في الليل

- مرحبا

فتح الباب كعادته فرحا مبتسما..فقد غسلت الركعتان ما علق به من غيظ وقنوط.. استقبل ضيفيه في الحجرة المخصصة طالبا إحضار الشاي ومرفقاته.. فطال الحديث بينهم إلى منتصف الليل حتى انتاب الزوجة خوف شديد وراودتها أسئلة شتى لم تجد جوابا لها حتى انصرف الضيفان.

لقد كان الرجل الأول مشتر السيارة والرجل الثاني الوسيط الذي دله لشراء السيارة ..استطاع  محمد أن يحسم أمر البيع في منتصف الليل وبالثمن الذي أراد وفي أخر يوم له أجلا مقدرا..

عاد مبتسما مسرورا لم يصدق ما وقع في ساعات قليلة تحول فيها كل شيء إلى سعادة كبيرة عجز أن يفهم لغزها..نسي معها أن صديقه هشام خيب ظنه وأنه كان عند حسن ظن الله به...

نعم أغناه الله عن كل صديق أو أخ أو قريب أو بعيد بل أغناه عن ذل السؤال وقهر الربا بل كفا عبده وانتشله من هم الليل

فما أكثر الإخوان حين تعدهم       وهم في النائبات قليل!!!