صُورَة
أيمن عويضة / غزة - فلسطين
نام الأولادُ أخيراً وأنا أحسدهم، وإلهام بدأت في اعداد الشاي لكن مهمتها ستكون صعبة،كيف مضى أحد عشر يوماً دون أن أرى شارع عمر المختار.. وألعن شرطيَّ المرور وعربات الحمير.. وأتشاجر كل ربع ساعة مع راكب يرفض دفع نصف شيكل إضافي..؟ كانت أياماً جميلة بالرغم من قسوتها، فبجميع الأحوال كنت سأعود نهاية كل يوم، دون أن أكون مضطراً للنوم أنا وزجتي مع أولادي الأربعة في غرفة واحدة، بعد أن أخرجت منها الكراسي البلاستيكية كي تستطيع استيعابنا كل ليلة.. إلى متى سيطول هذا الحال ؟ لقد مللتٌ النظر إلى السقف، وعدَّ الورود التي اكتشفتها قبل يومين فقط في الستارة البُنية، حتى أنني صِرتُ خبيراً في تحديد أنواع الطائرات والصواريخ والقذائف فقط من خلال صوتها، والشبابيك.. لم يخطر ببالي يوماً أن أفتحها في "عِز الأربعينية" كي لا تتكسر على رؤوسنا، هل تأخرت إلهام ؟ أم أنني أصبحت أيضاً ماهراً هذه الأيام في التفكيرِ بأشياءٍ كثيرة في عدة دقائق..؟!
أحمِدُ الله كثيراً أنَّ رائد قد أحضرَ هذا "البابور" غريب الشكل قبل الأزمة، وإلا فَلَم أكن هنا، أُعد له "الشاي بالمرَمية"، والذي يُصر كلَّ شتاءٍ على ألا يشربه إلا بها، حتى أن المجنون ذهب خصيصاً إلى سوق الزاوية قبل ثلاثة أيام ليشتريها، لكن المسكين عاد خائباً، وجُنَّ جنونه عندما اكتشف أنني أحضرتها من "أُم سالم" بعد عشر دقائق فقط، وصاح في وجهي: "ليش ما رحتي من أول ووفرتي علي قَطعِة القلب..!!"، فأجبته أن السبب هو اصراره على شرب الشاي فقط "بمرمية أبو ناهض"، لكن هذه المرة لم "تُسَيِّب" صيحته رُكَبي. عندما طلب مني الشاي قبل قليل، كان صوته منخفضاً، ولا ينظر إليَّ ولا لأي شيء.. أتساءل إن كان مذهولاً حتى الآن بصديقه الذي استُشهد الأسبوع الماضي، لكنه قبل شهرين فقط، دخل باب المنزل وقميصه ملطخ بالدماء، وهو يدخن ويبتسم قائلا: " ابن عمي حاتم استَشهد قبل شوي بحضني، ادعيله بالرحمة الجنة طلبته.." !!، آه.. اللعنة ! لقد كسرتُ كوبه المفضل، تباً لهذه الشمعة الغبية، وتباً لي أيضاً، كيف سأقدم له الشاي في كوب آخر..؟ الطف بي يا ربي !
دَخَلَت إلهام ، والشمعة التي ذاب أكثر من نصفها تتمايل في يدها اليسرى، والصينية ترتجف في يدها اليمنى، وضعَتها ببطىء على الأرض، وجلست أمامي وهي تنظر إلى فخذيها، دون أن تقول كلمة، وعندما سألتها عن حالتها لم ترد، فقط نَظَرَت إلى الصينية، فعرِفتُ، وظَلَّت تنظر إليها وأنا أنظر مبتسماً إلى وجهها الهادىء، لماذا تبدو إلهام أجمل هذه الأيام..؟ شعرها المتجعد الذي كنت أتفننُ في معايرتها به، وأهددها بأن أتزوج في اليوم التالي إن لم تهتم به كل يوم، رأيته بالأمس جميلاً، واليوم أجمل، مع أنها لم تغسله لأكثر من أسبوع. منذ الأزمة وأنا أراها تستيقظ قبلنا كلَّنا، إن كانت قد نامت أصلاً "من حفلة كل ليلة"، تعد الإفطار وتجلي أكوام الصحون والأكواب بأقل من نصف "جردل" من الماء، وتجلس أمام "البابور" لساعات، تعبىء الهواء في قِربَته، ويَهِبُّ في وجهها مرة، وينطفىء تماماً مرةً أخرى، ويُلَطِخ يديها بالسخام، كي تُعِدُّ لنا أخيراً وجبة غداءٍ كنا نسخر من أكلها في الماضي.. وحتى بعد العصر وفي آخر الليل، كانت على استعداد لِتُلَبي طلبَ أيَّ أحد منا مهما كان. فإذا كان باستطاعتها أن تفعل كلَّ ذلك في هذه الأيام السوداء، فماذا كانت تفعل في الماضي..؟!
بعد أن ظلَّ صامتاً لدقائق، رفعتُ وجهي أخيراً لأرى في وجهه ملامحَ لم أرَها من قبل، وكأنَّ موضوعَ كوبهِ المكسور بعد سؤالهِ لا يعنيه، ثم عاد لينظر إلى لا شيء، وظِلُّ رأسهِ ويَدِه التي تَسنِدهُ وتحملُ السيجارة معاً، يرتجف على الحائط، بفعل الهواء الذي يحرك ضوءَ مصباح الكاز كلَّ لحظة، كانت عيناهُ شاردتين، لا أعرف منهما إن كان يشعر بنعاسٍ أم لا. لا أتذكر أنني رأيتُه نائماً أصلاً طيلة الأيام التي مضت، كان يفكر طويلاً أثناء الليل، ويسمع بعض الأحيان الأخبار من الراديو الصغير، ثم يُطفئهُ وهو يُتَمتم، ويعود ليفكر، وفي الصباح يجلس مع أبو سالم خلفَ منزله الملاصق لمنزلنا، ويعود بعد الظهر مباشرة، لأراه لأولِ مرةً يتحدث مع الأولاد ويمازحهم، ويلعب معهم ال "دريس" التي يحبونها، وإذا هدأ القصف صباحاً، كان يقطع مسافة طويلة عدة مرات ليحضر الماءَ على ظهره من الدكان الوحيدة في المنطقة التي تَبَّقى فيها ماء، وعندما تأخر قبل أربعة أيام لِبَعد العِشاء، بقيتُ أنتظره على باب المنزل كالمجنونة، حتى عاد أخيراً وفي يده "ربطة الخبز"، التي انتظرها في طابور بطول شارعين منذ العَصر، ورفض أن يعود بدونها، لا زلت أتذكر لحظة انتظاري تلك كل دقيقة، لم أشعر أبداً بلهفةٍ تجاهه كما شعرت بها وقتها.. كيف كان يخرج ويعود في الماضي، دون أن أشعر بشيء تجاهه هكذا..؟
اكتشفتُ أنني لم أشرب الشاي بعد، فأشعلتُ سيجارةً أخرى، وشربتُ نصف الكوب مرةً واحدة، كانت إلهام قد بدأت تنظرَ إليَّ وقتها، وأنا أحرك رأسي يميناً ويساراً في كل أنحاء الغرفة، والتفتُ إلى يميني مرة أخرى، فسقطت عيناي عليها مجدداً، لم أعرف وقتها لماذا لم أستطع النظر إليها طويلاً، رفعتُ رأسي بسرعة فوقها باتجاه الستائر التي كانت لا تتوقف عن الاهتزاز، بسبب الهواء أو ضغط الانفجارات في الخارج، ومن خلف الشباك لَمَعَت السماء أكثرَ من مرة، لا أدري بسبب برق أم بسبب أحد الصورايخ الساقطة.. كان شتاءاً يشبه هذا الشتاء في إزعاجه، عندما عدت بعد المغرب، واستقبلني كعادته بالأسئلة والشتائم..: "بقَديش اشتغلت اليوم ؟"، "إذا تأخرت بكرا زي اليوم ما ترجع عالدار"، "ليش صوتك واطي زي النسوان ؟"، وبالطبع لم يكن لدي أي رد، وإذا كان، كنت أكتِمُه في داخلي، لأن الرد معناه وقاحة و"علقة نصها موت"، هو فقط من كان يُسمح له بطرح الأسئلة والإجابة عليها، ومنذ ذلك اليوم، نسيت كلَّ الأسئلة حتى مع نفسي، أصبحت أفكر فقط "بالشغل والمصاري"، حفظت عدد البلاطات في رصيف "صلاح الدين"، ولون أبواب الورشات في "عَسقوله والفَواخير والسِدره"، كي أتقي شره، وأدخر ما استطعت اخفاءه عنه من الأجر، لأتزوج في النهاية وأتخلصُ منه، وأثبت له ولغيره أنني رجل، و"ما فيه حد بيمشي عليَّ كلمته"، أتذكر كيف كنت "ملهوف" لأتزوج حتى في أيام مراهقتي، كنت أحلم ببيت أكون سَيَّدُه، ويخضع الجميع لي فيه دون مناقشة، وكم كنت سعيداً لأن هذا ما حصل فعلاً..
بدأ الدخان يملأ الغرفة كالغيوم، وظلَّ يفكر كما كان، لا مبالياً بوجودي، كان يسحب النَفَس بقوةٍ غريبة كل عدة ثواني، فيضيء وجههُ أكثر، ويغمض عينه اليسرى، في نفس الوقت.. كان أبي على هيئةٍ مشابهة، عندما ناداني بصوت لم أتعودهُ منه، وظلَّ يتأمل وجهي وجسدي للحظات، قبل أن يبتسم ويقول..: "صرتي عروسة يا بنتي، والخُطَّاب بيجوكي لباب الدار، ما رح نلاقي أحسن من إبن عمتك يُستر عليكي، ألف مبروك.." وبهذه الكلمات فقط أصبحتُ عروسة، على أي حال لم يكن لدي خَيار، فهناك خمسةُ "ولايا" أصغر مني في البيت، يحتجن لأكلٍ وشربٍ وتعليم، ويحتجن أيضاً لأن يَكُّنَ عروسات مثلي، فتخليتُ عن مرحلة الثانوية التي كنت أحلم بها كل يوم، ونسيتُ كل شيءٍ في لحظة، وأصبحت أُمَّاً في أقل من سنة، كانت أُمي توصيني دائماً أن أكون مطيعةً لزوجي، حتى لو اضطرَ يوماً لشتمي وضربي، فالرجال كما تقول كلُّهم عصبيون، و"يطفحون الدم" لأجلنا كل يوم، وعلينا تَحَمُلَهم، حتى صديقتي الوحيدة ماجِدة، التي كنتُ أراها كلَّ شهر، كانت تقول أنَّ الرجل بدون "هيبة" في البيت لا يكون رجلاً، لكنني أتساءل الآن.. هل هذا الرجل أمامي هو نفس الرجل الذي كنَّ يتحدثن عنه..؟
دوَّى انفجارٌ هائل في مكانٍ قريب، فاستيقَظتُ من ذكرياتي، وبعد أن هدأتُ، شربت ما تبقى من الشاي، كانت الصغرى حنان لا تزال تصرخ لشدة الانفجار، ورَفَعَت رأسها لتبحث عن أمّها، التي وجدتها تحتضنها من الخلف بقوة، وتُمَسِد شعرها بلطف، وتقرب شفتيها من أذنها، وتهمس فيها كأنها "فتَّاحة"، وتقول أن الانفجار كان بعيداً، وتكرر "بعيد" مرة أخرى، وتٌشدد لفظها على حرف الياء، لتُشعِرها أنه بعيدٌ حقاً، وتختفي حنان في حضن أمّها، وجفنيها يغمضان بالتدريج، لتنام وهي لا تزال تنادي أمّها باسمها كما اعتادت..: "إلهام.. إلهام..."، يا إلهي..! ما أجمل اسمها..!! منذ متى لم أناديها به ؟ لا أتذكر نهائياً..، ففي الخارج اعتدت أن أدعوها بـ "عيالي" أو "المَرَه" كما يقول باقي الأصدقاء عن زوجاتهم، وعندما أُناديها في البيت أقول " يا بِنِت" أو "ولِك".. هل كنت أخجل أن أذكر اسمها في الخارج..؟ وإذا كنت كذلك لماذا أخجل أصلاً ؟ وإذا خجِلت في الخارج ما الذي كان يمنعني من ذكر اسمها في البيت..؟ هل التي أمامي الآن هي نفس المرأة التي كنت أشتمها وأضربها لأتفه الأسباب..؟ وما الذي تغير.؟ ومن الذي تغير..؟ هل أصدق ماضيَّ وأُكَذّبُ كلَّ الذي رأيته خلال أحد عشر يوما..؟ وإذا كذَّبتُ كلَّ ذلك، هل أُكذّب ما حصل قبل ثواني أمام عينيّ بكل تفاصيله..؟ تفاصيل..؟! لا أتذكر أنني نطقت هذه الكلمة من قبل.. ما الذي يحصل لي..؟ أرجوك يا ربي قل لي..! من أنا في هذه الليلة اللعينة..؟ ومن سأكون غداً، وهل أضمن أن يطلعَ عليَّ النهار أصلاً..! وهل ما تبقى لي من عمرٍ سيمنحني ما أريد أن أكونه الآن..؟!
أفزعني صوت الانفجار كثيراً، وأنساني الذي كنت أفكر فيه، وشاهدته بعد ذلك يُلصِق وسادتين بالحائط خلفَه، ويُسنِد رأسه وظهره إليهما، ويمَِد رجليه ويغطيهما بلحافهِ المُقَلََّم، قبل أن أُخَفف عن المسكينة حنان، حتى غفت أخيراً وكدتُ أن أغفو معها وعيناي لا تزالان مُغمضتان، لولا دوي انفجارٍ آخر أقل حِدة، فرفعت حاجبيَّ ونظرت تِجاهه، فتوقفَ عن النظر إليّ، ثم نظر إلى الشُّباك وكأنه تمثالٌ يُصَّلي للسماء، وبعد لحظات، رأيتُ خطين من الدموع ينزلان ببطىءٍ من طرفيّ عينيه على جانبيّ خديه، لم أدرِ وقتها كيف صَمَتَ كلُّ شيء، كلُّ شيء.. لا قذائف، ولا صواريخ، حتى صوت "الزنانة" اختفى، وأصبحتٌ لا أرى في الغرفة سوى دموعه.. رائد..! دموع..! رائد يبكي..!! هل أحلُم..؟ وإن لم أكن كذلك.. ترى هل هذا الرجل هو الذي تزوجته منذ أربعة عشر عاماً..؟ وصدَّقتُ أُمّي وماجدة وأحببته رغم كلّ شيء، بأيَّ طريقةٍ سأحِبه بعد اليوم إذا كان باستطاعته أن يكون كما هو الان..؟ وهل كان عليَّ أن أحبه أصلاً فيما مضى..؟ ولماذا يتوه في أفكاره كلّ ليلة..؟ أريد أن أعرف ما يدور في رأسهِ الآن، حتى لو اشتعلت حربٌ أخرى في هذه الغرفة.. حتى لو اضطررت أن "أحرَد" كالمجنونة عند أهلي بعد منتصف الليل، ووسط القذائف التي تسقط في كلّ زاويةٍ في الخارج..!
كان قلبي مثل "ماتور" سيارة لا يصل إليهِ هواءٌ أو ديزل، عجزتُ عن تحريك يديَّ أو رجليَّ، أو عمل أي شيء، فنظرتُ إليها من جديد، وعيوني تملأها مشاعرٌ لم أستطع تفسيرها، فعدَّلت جلستي، والتفتُ إلى زوجتي، وكلُّ ما استطاع أن يَنطق لساني به وقتها..:
"إلهام.. ابتداءاً من هذه الليلة لن تبقى هذه الصورة هنا.."
وقبل أن أسألهُ وأفجرُ حيرتي وجنوني في وجهه.. نطقَ اسمي..!! لا أدري كيف جعلني ذلك أشعر بالشلل، وفُتحت عيناي وفمي معاً دون اراداتي، وارتعش ظهري، وشعرتُ بدفىءٍ غريبٍ في صدري، لماذا لم أسمع اسمي بهذه الطريقة منذ ولادتي..؟!، لماذا سمعت "سامحيني" تخرج من اسمي..؟ نسيتُ كلّ ما كنت أنوي أن أساله عنه، وتمنيتُ أن أرمي رأسي على صدره، ودعوتُ ربي أن أستيقظ صباح الغد فقط، كي أسمعه منه مرةً أخرى، حتى باقي كلماتِه التي قالها بعد اسمي لا اتذكرها، فقط ما أتذكره هو كلمة "صورة".. ولا توجد صورةٌ في هذه الغرفة غيرَ صورةِ أبيه.