ضباب
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
نهض من فراشه مبكراً مختزلاً أحلامه و كوابيسه. كانت ليلة يشوبها القلق الذي لم يعرف مصدره ، ربما بسبب تحذيرات الراصد الجوي و تنبؤاته بمنخفض جوي عميق مصحوب بأمطار غزيرة يقترب من المنطقة قادماً من قبرص.
أزاح ستائر الغرفة قليلاً...نظر عبر النافذة، كانت الأمطار تنهمر بغزارة و بلا توقف و حبات البرد تضرب أديم الأرض بعنف. البنايات تختفي خلف الضباب الكثيف و المدينة تتلاشى ملامحها. كان يحب الشتاء و يتأمل العناق بين الثرى المتعطش و الخير القادم سيما و أن أمطار الشهر الفائت قد أثمرت بساطاً عشبياً ما زال مرتعاً للخراف تقتات عليه في السفح المقابلة بالإضافة إلى أن السدود قد زادت مستويات التخزين فيها. نظر ثانية عبر النافذة و لم تظهر أمامه أية مؤشرات على قرب انحسار الموجة.
الطريق إلى المطار في هذه الظروف محفوف بالمخاطر و المفاجآت ، فالشوارع في سباق خاسر مع تصريف المياه الغزيرة. يتوكل على الله ويحمل شنطة السفر و ينطلق في سيارة ابنه الذي أصر على توصيله للمطار . يواصل رحلته للمطار بحذر و ترقب و سرعة معتدلة فأمامه حوالي ساعتين للوصول و الانتهاء من إجراءات السفر. في المطار كان هناك حشد من المسافرين إلى وجهات مختلفة. دلف عبر بوابة الدخول للطائرة، لم يكن هناك خرطوم يوصل للطائرة فأخذته الحافلة مع بقية المسافرين إلى حيث تربض طائرة البوينغ ...أسرع بالصعود لسلم الطائرة إلا أنه لم يتفادى البلل فالمطر ما زال ينهمر بوتيرة قوية و لم يكن أحد من الركاب يحمل مظلة يمكن أن يقترب منها !
ألقى جسده المبلل على المقعد المخصص و ما هي إلا دقائق حتى كانت الطائرة تتهادى على المدرج المخصص ثم تزيد سرعتها و ترتفع معانقة السماء وسط الغيوم الكثيفة المثقلة.
بعد خمس عشرة دقيقة يسمع أصواتاً غريبة ناجمة عن اهتزازات متتالية لبدن الطائرة...الفزع يعم المسافرين و تعزز ذلك الخوف عندما طلب المضيف من الجميع ربط الأحزمة لتفادي المطبات الجوية.
- لعله مطب هوائي صعب_ قال صديقه المرعوب محاولاً أن يبعث في قلبه الطمأنينة
- أجل ..أجل _ أجاب بصوت خافت
لم تكن تلك الرحلة الأولى جواً و كان يعرف المطبات و يتعايش معها دون خوف بل أن بعضها كان خفيف الظل و لا تدوم إلا لدقائق معدودة. نظر إلى ميمنته فرآى الركاب متجمدين في مقاعدهم كأنهم ينتظرون قدرهم المكتوب و ألسنتهم تلهج بالدعاء. استمرت الاهتزازات الشديدة إلى حين ، مرت الدقائق ببطء شديد و كأن الزمن توقفت عقاربه عن الدوران. هدأت الأمور فجأة و تنفس الناس الصعداء و حمدوا الله على انقشاع الأزمة.بعد قليل جاء المضيفون و معهم عربات الطعام و بدأوا في توزيع الوجبات و هم في قمة السعادة لانفراج الأزمة . بدأ الجميع في تناول الطعام و ما هي إلا لقيمات حتى بدأ الاهتزاز من جديد و بنفس القوة في مواجهة مطب هوائي آخر . هذه المرة شعر أن الساعة قد أزفت ، نظر من النافذة ، لم تكن الرؤية واضحة فالغيوم جبال متحركة ، كان يحاول أن يتحسس مواقع السقوط ! أصبح الخوف رداءً يحتوي الجميع إلا مسافراً واحداً أثار غيظه و فضوله ، كان يجلس على مبعدة مترين و غارقاً في قراءة رواية بالفرنسية...لم ترتعد فرائصه مما حدث و لم تظهر على وجهه أية معالم من القلق أو التوتر . توقفت الاهتزازات و تجاوزت الطائرة المطبات كافة بسلام و نزل الجميع كل يتابط حقيبته إلا صاحب العينين الزرقاوين فقد كان ممسكاً بروايته المصون.