رحمة

رحمة

محمد الخليلي

[email protected]

 حاولت أم أحمد أن توقظ ابنتها الصغيرة مرارا كي تستعد للذهاب إلى المدرسة ولكن البنت لم تستجب على غير عادتها فهي دائما ترد على أول تنبيه من والدتها قائلة : (يالله يمَّا هسَّا  بقوم) ،وفجأة جمدت الأم في مكانها فقد قفزت فكرة غريبة إلى مخيلتها فلعل رحمة قد ماتت . بدأت تتصارع الأفكار في ذهنها وانتابتها قشعريرة مربكة وعلا وجهها الشحوب المصفر وشعرت بدوار ظنت فيه أن الأرض تميد بها .

وخلال ثوان استطاعت أم أحمد أن تسترجع اتزانها ففركت عينيها ثم استعاذت بالله من الشيطان الرجيم قائلة (الله يخزيك ياشيطان) ، ثم سألت نفسها لماذا لا أتأكد من ذلك فلعل الله أخذ وديعته التي وهبها إياي عشر سنين فهي عارية عندي ولكل معير الحق في أن يسترجع عاريته ،هذا بين البشر ، فما بالك بمالك الملك فهو أحق في أن يسترجع عراياه متى يشاء وكيف يشاء ،أضيفي إلى ذلك أن البنت مريضة منذ أشهر بالمرض الخبيث والمريض بهكذا مرض معرض أن يودع الحياة في أية لحظة . ياالله ماأصعبها من مفاجأة هل يمكن لرحمة أن تفارقنا بهذه السرعة المذهلة ،وهي التي كانت تشاطرنا الحديث ليلة أمس وتتناول شطائر الجبنة وتقول لوالدها المريض ياأبت أنا شطورة أكثر منك فأنا مريضة ولكنني لاأمتنع عن معظم الطعام مثلك ثم تضيف ممازحة إياه كل ياوالدي  فيه الشفاء إن شاء الله وأنا سأدعو لك الله أن يشفيك وأن لايؤذيك الطعام البتة ، فقد علمتنا المدرِّسة دعاءً مأثورا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقله عند كل طعام (بسم الله الذي لايضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ) ولن يضرك الطعام بإذن الله رغم التقرحات التي في أمعائك . وقتها تناول الأب شطيرة الجبنة والدموع تصبب من عينيه الواهنتين قائلا : الله يمد في عمري حتى أراك ياحبيبتي  وقد شفيت تماما من السرطان ،لابل أريدك أن تتخرجي في الجامعة ، وأن تتزوجي أيضا ، أريد أن أراك عروسا وقد لبست البدلة البيضاء قبل أن أموت وانتحب الأب بصوت عال . يومها تدخلت الأم قائلة : الله يجعل يومي قبل يوميكما . وفجأة انتفضت الأم انتفاضة الذبيح وقالت بصوت مسموع لعن الله وساوس الشيطان  ، فلأتاكد بنفسي من البُنيَّة . جست نبضها فوجدته طبيعيا ، ثم راقبت تنفسها فرأته طبيعيا أيضا فقالت للبنت قومي أيتها البنت الكسول فقد جعلتني أشرِّق وأغرِّب في أفكار عجيبة غريبة .

جذبت البنت تلابيب اللحاف إلى أعلى رأسها ودفنت جسمها كاملاً تحته قائلة لأمها : لن أذهب إلى المدرسة .

سألتها أمها : هل أنت تعبة اليوم ياابنتي ؟

أردفت البنت : بل كل يوم .

الأم في دهشة : وعلام ياابنتي فأنت تحبين المدرسة وأحسبك من الأوليات بين أترابك من الطالبات .

البنت : لم أعد أحب المدرسة البتة .

الأم  : وهل طرأ شيء ياحبيبتي ؟

البنت : بل أشياء كثيرة .

الأم في فزع : وماذا قد حصل قولي لي بالله عليك .

البنت : قلت لك لن أذهب إلى المدرسة بعد اليوم وكفى .

الأم : أليس من حقي أن أعرف السبب ؟

البنت  : بلى ولكن ... وأجهشت بالبكاء ...

حاولت الأم شد اللحاف من على ابنتها ولكن البنت كانت تجذبه إليها ، وهما بين شد وجذب وإذ باللحاف يتمزق ... عندها بدأت البنت بصراخ جنوني  تقول : لن أذهب إلى المدرسة أبداً .. ألم أقل لك  ذلك ؟ بل أريد أن أموت .. أجل أريد أن أموت .. دعوني ألاقي حتفي سريعاً .. لاأرغب أن آخذ العلاج الكيمياوي فلعلي ألفظ أنفاسي الأخيرة سراعاً .. وجعلت تعول عويلا شديدا مالبثت بعده أن دخلت في غيبوبة .

أسرعت الأم لإحضار قليل من الماء لتنضح به وجه ابنتها علها تصحو . وخلال أقل من دقيقتين أفاقت البنت وهي تتمتم : لاأريد أن أ ُحقن بالعلاج الكيمياوي فقد جعل شعري كله يتساقط  فأصبحت أضحوكة بين الطالبات في المدرسة .

أدركت الأم بفطرتها الذكية وعاطفة الأمومة لديها أن سرا عميقا يكمن وراء عناد ابنتها في عدم الذهاب إلى المدرسة فقالت لها دعينا من ذكر المدرسة ولنتناول طعام الفطور الآن ، مارأيك بقليل من الجبنة المقلية فأنا أعلم أنك تحبينها ؟ فارتمت البنت في حضن أمها وهي تنتحب قائلة : أنا آسفة ياأماه فقد أزعجتك أيما إزعاج ... فضمتها الأم بحدب إلى صدرها وأودعت قبلتين على خديها المتوردين مردفة : بل أنا التي أزعجتك ياحبيبة ماما ، دعينا نأكل الجبنة ونتتجاذب أطراف الحديث على المائدة .

خرج الأب من حجرة نومه وقال لقد سمعت بكاء ابنتي الحبيبة ، من عساه أبكاها ؟  ثم لماذا لم تذهب للمدرسة بعد ؟ ألم تأت الحافلة لاصطحابها إلى المدرسة ؟ أسئلة متعددة طرحها الوالد ، لكن الأم غمزته بعينها من طرف خفي كيلا يتكلم في الموضوع الآن .

تحلق الأربعة حول مائدة الطعام المستد يرة فقد لحق بالركب الأخ الأصغر قائلاً : أتريدون أن تأكلوا الجبنة الشهية وحد كم ؟ دعوني أشارككم ، ثم لماذا لم تذهبي أيتها البنت الشقية  إلى مدرستك؟ أراك تعودت بل استمرأت الدلع بسبب تدليل أمك الزائد لك ، أحق أن كل بنت مريضة تستجدي من أهلها حنانا زائدا على حساب أخيها الصغير ؟

قالت الأخت : لم تعد صغيراً ففي السنة القادمة سأصطحبك معي إلى المدرسة حيث ستكون في الصف الأول الابتدائي وسأمسك بيدك الصغيرة كي أقطع بك الشارع خوفا عليك من حوادث السيارات .

الأخ : اسمعي أيتها البنت العطوف أولا أنا لم أعد صغيرا فلا تلقبيني أبدا بكلمة صغير . ثانياً بابا قد علمنا أن نقول إن شاء الله إن نحن تكلمنا عن المستقبل وأنت تكلمت عن السنة القادمة دون أن تعلقي الأمر على المشيئة . رابعا إنني لن أس..

الأم : أيها الفيلسوف الكبير لم تقل لنا ماهو الثالث قبل أن تبدأ بالرابع !

الأخ: آسف فأنا مازلت صغيراً .. إنني لن أس ...

الأخت مقطعة إياه : ألم تقل قبل قليل أنك أصبحت كبيراً ؟

الأخ : إياكم أن يقاطعني منكم أحد فقد نسَّيتموني الثالث ؛ لذا سأبدأ بالرابع فوراً دون أية مقاطعة . رابعاً إنني لن أس..

قاطعه الأب معترضا والبسمة تغمر وجهه المتغضن : هذه آخر مقاطعة أيها الفيلسوف الكبير ، أعدك أني لن أقاطعك بعدها أبداً ‘ ولكن حاول أن تلتزم بآداب الحوار مع أختك فضلا عن  أبويك ، والآن سامحناك بالثالثة فقل الرابعة فورا وأضمن لك عدم المقاطعة ولا..

قاطعه الابن هذه المرة : لقد أنسيتموني الثالثة والرابعة ، سكِّروا على الموضوع .

الأم مخاطبة ابنتها : لقد ندت منك كلمة أثلجت صدري يارحمة ياابنتي

رحمة : وماهي ياأماه ؟

أم أحمد : لقد ذكرت رجوعك إلى المدرسة مصطحبة أخاك محموداً حين يدخل المدرسة إن شاء الله ، فأيقنت أن سبب عزوفك عن الذهاب إلى المدرسة بسبب طارىء ألمَّ بك ، فهلا حدثتنا عنه ؟

رحمة : أجل ياأماه ، البارحة كنت ألعب في ساحة المدرسة مع بعض صويحباتي ، فبينا نحن في سرور بالغ إذ بأحدى الطالبات تقول : هل ترغبون بأن أ ُخرج لكم رحمة من اللعبة ، فقلن كيف ؟ فمرت بسرعة البرق من جانبي  وقد خلعت الحجاب من فوق رأسي وهي تصيح بنشوة جنونية : انظروا إلى ( القـَرْعَة) التي تدللها المعلمة دائما لأنها من أوليات الطالبات في التحصيل الدراسي ، فصفقت إحدى الطالبات وصفرت أخرى وكن قد تآمرن معها قائلتين :(هَيْهَا القرعة   ، شوفوا القرعة ) . هذا والله ياأماه سبب إحجامي عن الذهاب إلى المدرسة . والله ياأبويَّ سأذهب غدا إلى المدرسة وأعدكما أني سأكون الأولى على مدرستي وس..

قاطعها الأخ معترضا :قولي إن شاء الله ياغبية .

رحمة وقد نظرت إليه شذرا : إن شاء الله ، وسأتابع علاجي الكيمياوي ولو اقتضى الأمر غيابي عن المدرسة عدة أيام، وارتمت  في أحضان والديها فضج الثلاثة بالبكاء المرير العذب معا والذي لم يقطعه إلا سؤال الوالدة : أتدرين ياابنتي لماذا أسميناك بهذا الاسم الجميل ؟

رحمة : أخبريني ياأماه فأنا في شوق شديد لمعرفة السبب .

الأم  : لأن ولادتك كانت عسيرة جداً ، وكان من الممكن أن تموتي أثناء الولادة فنذر والدك إن أنت عشت بعدها أن يسميك رحمة .

خرج الأخ الأصغر من الحجرة بعد أن أغلق الباب بعنف شديد وهو يتمتم : ياليت ولادتي كانت عسرة  ، ولكم تمنيت أن أصاب بالسرطان ولو ذهب كل شعري وهزأ بيَ الأولاد حتى أحظى بشطر هذا الدلال الذي تحظي به هذه البنت (الدلوعة) .. وياليت ...  وياليت ... ، ولم يُسمع باقي مافاضت به نفس الأخ المكلومة .