عندما يصنع الموت حياة

عندما يصنع الموت حياة

جوتيار تمر

صباح تشريني آخر...بهذه الكلمات بدأت يومي ذاك..توجهت إلى النافذة..رفعت ستارها..كانت السماء قد لبست منذ الساعات الأولى من ذلك الصباح ثوبا رماديا..مرقعا ببقع بيضاء خفيفة..وأخرى سوداء داكنة.. وكأنها معي كانت على موعد مع رحلة كنت أجدها ضرورة..لإنسان يؤمن بالألم كوجه حقيقي للحياة.. لأن الذي يتبنى الألم كشريعة له عليه أن يعيشه في الناس ومعهم .. يعاني معاناتهم ..يلامس أنينهم.. حيث لا يكفي مجرد الشعور . . لأن حتى الذي يقتل وينهب قد يصيبه لحظات شفقة فيشعر عكس ما يفعل .

أخرجت أدوات الحلاقة الخاصة بي ..وقفت أمام المرآة..نظرت إلى وجهي كان شاحبا ..تعبا..همست إنها ملامح مابعد النوم..حاولت أن أنسى وجهي..وبدأت أغرقه بصابون يستعمل عند الحلاقة..نجحت في إخفائه..لكني لم أنجح في نسيانه..أنهيت ما كنت قد بدأته..أخذت بعدها حماما حارا..ارتاح جسدي حتى كدت أنسى أمر رحلتي..انتبهت للزمن..خرجت..أعددت حقيبتي ..كان الوقت لم يزل مبكرا..لكن كان علي أعمال يجب القيام بها في الطرف الآخر من المدينة قبل أن أتوجه إلى محطة القطار التي قررت السفر من خلالها..خرجت من غرفتي.. وبدأت رحلتي منذ أن حملت الحقيبة على ظهري..ربع ساعة فقط احتجتها لأصل للطرف الآخر من المدينة..وكأنه كان زمنا قياسيا وبشارة خير ليومي ذاك..فخروجي بوقت مبكر جعلني أتجتنب الازدحامات التي تغرق المدينة فيها مع الساعات المبكرة من كل يوم ولو لا ذلك لكان وصولي قد يأخذ مني أكثر من ثلاثة أرباع الساعة...أنهيت أعمالي في تمام الواحدة والنصف..شعرت بجوع شديد..توجهت إلى مطعم قريب..وصادفت فيه موقفا غريبا جدا..حيث قمت بتغيير طبقي خمس مرات متتالية..فكل مرة كان عامل المطعم يجلب لي طبقا لم أطلبه..حتى إن صاحب المطعم جاء بنفسه واعتذر مني وقام بجلب طبقي بنفسه..أنهيت الأكل ..وتوجهت إلى المحطة في تمام الثانية وخمس وأربعين دقيقة تقريبا...وما أن حطت قدماي المدخل الرئيسي للمحطة حتى بدأت السماء ترسل أحزانها لنا..فقد أخفقت البقع البيضاء من إنهاء سطوة السوداء منها.وهزمت أمام قوتها..لذا لبست السماء السواد مع تركها لبضع بقع رمادية على بعض أطرافها..كان المطر يتساقط بغزارة..فقطراته ما أن كانت تلامس الأرض حتى ترتد منها وكأنها كانت تعلم مسبقا بأن هذه الأرض بعد لحظات ستغرق بآثام الإنسانية؟؟وأنين الطفولة..ثوني قليلة حتى تجمعت المياه في أنحاء المحطة وحديقتها الهرمة التي أصبحت لاتحوي سوى على بضع أشجار صنوبر بأغصانها المكسورة..كان المطر أحيانا يقذف وحلا أسود عندما يرتد من الأرض على حافات أقدام المارة..أسرعت واجتزت تلك الحديقة حتى وصلت إلى داخل المحطة..!

المحطة قديمة تملك بناية كبيرة لكنها أصبحت كشجرة جفت بعض أغصانها حيث يراها المرء وقد تآكلت بعض أطراف جدرانها , وقد غطى أرضيتها في أماكن كثيرة العشب الذي ينبت بين المساحات التي تركتها أرضية البناية بسبب كسر أصابها أو مياه تعفنت بجوارها , ولعل المظهر من الداخل ليس بأفضل من ما هو في الخارج .. حيث هناك العشرات من الغرف المهجورة التي أغرقتها الغبار لعدم وجود عناية ولقلة الموظفين وقلة الاهتمام , وهناك في الطرف الآخر من المحطة قسم بيع التذاكر وبقربها مباشرة قسم الانتظار ، حيث تجد كراسي مصفوفة متلاصقة وهي لا تستند على أرجل كما هو الأمر في الكراسي العادية ، إنما كلها مسندة على قطعة حديد كبيرة طويلة وهذه القطعة مسندة على رجلين في كل طرف وقد الصقت الكراسي على وسطها بواسطة مادة لاصقة (اللحيم) التي يستخدمها الحدادون في أعمالهم ، الكراسي بذلك تصبح متينة من الوسط حيث يقع مركز ثقل الإنسان لكنها من الطرف الأمامي معرضة دائماً للكسر , ويجد المرء العديد منها بهذه الصورة في المحطة ، ولست أقول بأنها كسرت لعدم متانتها فقط ، لأن الكثير منها كسرت بسبب قيام شخص ما بإفراغ غضبه عليها ، وما أكثر ما يحدث ذلك . . بل وما أكثر الأسباب التي تدفع الناس .. بعضهم .. للقيام بذلك .. فالإنسان في مجتمعنا يعاني كبتاً فظيعاً جراء شرائع وأنظمة جعلته يخشى ويخاف حتى من رفض الواقع في نفسه .. مع نفسه , فلا يجد في لحظة غضبه بالطبع ليس أمام أعين الآخرين إنما يقتنص فرصة ما ليفرغ غضبه على كرسي ما .. أو شجرة ما .. أو قذف شيء ما على شارع ما . . !

دخلت قسم الانتظار حيث كنت قد قطعت التذكرة مسبقاً..كانت الساعة قد اقتربت من الرابعة إلا ربع..فقد علقت في ازدحامات المدينة..وواجهت لأكثر من مرة طرقا مسدودة وضعت عليها حواجز وأسلاك شائكة..وبالطبع من يدخل مدننا سيجد هذه الأمور أصبحت جزءا من تراثها الممتد من عمق التاريخ إلى زمننا هذا.. جلست على كرسي حاولت أن أجده لا مكسوراً .. حتى لا أتهم بكسره .. وضعت حقيبتي ما بين قدمي , وحاولت أن أستريح قليلاً .. منتظرا وصول القطار لبدء رحلتي حيث لا يغادر القطار الآخر إلا بعد وصول الأول ... وأنا جالس بدأت الهواجس تتقاذف في فكري، التفت حولي كان هناك الكثير من الناس .. ولعل من يسأل لماذا يسافر المرء بالقطار مادام هناك وسائل أخرى أكثر راحة كأن يذهب للمطار ويسافر عن طريقها أو هناك المئات من الكراجات التي تمتلك سيارات مريحة .. وهنا يكمن أهمية الرحلة وضرورتها .. حيث عندما تريد أن تعرف معاناة أحدهم .. الألم .. عليك .. أن تبحث عمّا يؤلم .. هؤلاء أغلبهم هم من يريدون أن يوفروا لأنفسهم .. لعوائلهم  . بعض ما يمكن أن يؤخر جوعهم ليوم أولاثنين .. ما قد يخفف ألمهم لساعات أو للحظات بشراء دواء .. ما قد يدفئهم للحظات بشراء وقود .. و . . ! 

السفر بالطائرة يعني دفع أكثر من ضعف المبلغ ، والسفر عن طريق سيارات الأجرة يعني دفع أكثر من نصف المبلغ .. أما السفر بالقطار فيعني توفير نصف المبلغ أو الضعف في أحيان أخرى .. لهذا السبب يقصد هؤلاء المساكين القطارات .. والجلوس في هذا البرد هنا منتظرين القطار الذي أصابه الصدأ .. والذي أصبح هرماً .. للسنوات الطويلة التي خدم فيها .. فصوته أصبح كصوت مولد كهربائي لا يغادر أذن الراكب . . !

كان معي .. بل كنت مع .. هؤلاء المسافرين أنتظر .. حيث في الطرف الأيسر مني عائلة يظهر من وجوههم بأنها بائسة .. رجل تعدى الخمسين وقد أغرق الشيب رأسه وامرأة أظنها لم تتعد الخامسة والثلاثين ومعهم أربعة أطفال , فتاة مع ثلاثة فتيان . . يلاحظ المرء بأن كل واحد منهم يكبر الآخر بسنة وذلك لقرب أعمارهم فأصغرهم أظنه تعدى عامه الثاني بقليل وذلك لمشيته المتعوجة .. وهذا يعني على أقل تقدير أن أكبرهم وهي الفتاة عمرها لم يتجاوز الخمس سنوات أو ست سنوات .. كانت تلك المرأة المسكينة التي تصغر زوجها أكثر من خمسة عشر عاماً حسب تقديري تحاول جهدها أن لا يبتعد أطفالها عنها خوفاً من برد قد يصيبهم أو ضياع وتية قد يداهمهم .. أما الرجل فكأنه كان غارقاً في تفكير جاد بالمال الذي تم توفيره .. وماذا سيفعل به..وأظنهما كانا متقاربين متفاهمين بالرغم من الفارق العمري بينهما..لأن مثل هذا الزواج بين رجل معمر وفتاة تصغره بسنوات طويلة..ليست غريبة في مجتمعنا فأغلب الفتيات أصبحن ينظرن إلى المال كشرط أساسي لقبول فارس الأحلام , ولكن هذه المرأة المسكينة لا أظنها قد قبلت عن طمع .. لأن حال زوجها لا يظهر ذلك .. قد تكون هنالك أسباب أخرى قد تداخلت في الموضوع .. لأنه مازال هناك موضوع القرابة والإكراه شريعة معمولة بها في مجتمعنا..كان بجانبهم امرأة عجوزة مع ابنها حيث كان الابن مضطربا جداً وكأنها كانت والدته .. واضطرابه هذا يظهر قلقه عليها .. أن تمرض .. بل أن تموت بين يديه لأنها كانت مريضة بالفعل حيث صوت سعالها الجاف كان يجعلني ألتفت إليها بين الحين والآخر وعلى يميني كان هناك ثلاثة شبان أظنهم كانوا طلاباً .. واستنتجت ذلك من أغراضهم التي بدت وكأنها .. خبز جاف وعدة كيلوات من الأرز .. وأخرى برغل .. وأغراض أخرى .. وكان أحدهم يمسك في يديه كتاباً يقرأ فيه .. وبجانبهم مباشرة كان هناك شاب مع زوجته والتي كانت تحضن طفلاً .. أظنها كانت ترضعه لأنه كان قبل أن التفت إليهم يبكي بصوت مرتفع جداً.. وكان الشاب يحاول أن يصنع حاجزاً بجسده حتى تستطيع الزوجة إرضاعه .. وهناك غير من ذكرتهم آخرون جالسون على حافة الرصيف المؤدي إلى مكان وقوف القطار , وأظن بأني لمحت ما بين عشرة إلى خمسة عشر شخصا يقفون متراصفين أمام مكان بيع التذاكر وأثناء هذا الانغماس في التفكير بهذه التفاصيل تناهى لسمعي نداء من مكبرة صوت مخصصة لتبليغ المسافرين بما يتعلق بأمور سفرهم وهي تعلن أن على المسافرين الانتظار عشر دقائق بعد وصول القطار الأول لعطب أصاب إحدى مقطوراتها وذلك لتجنب التدافع والازدحام . . ولم تمض سوى خمس عشرة دقيقة أو أكثر بقليل حتى وصل القطار الأول علمنا ذلك أولاً للضجيج الذي يحدثه عندما يقترب فكيف وهو قد دخل المحطة , وجاء صوت من ذلك المكبر وهو يهنىء المسافرين بسلامة وصولهم , وما أنهى حديثه حتى ارتفع دوي صوت انفجار رهيب هز المحطة من أساسها , حينها نظرت حولي وإذا بالرجل الجالس مع عائلته بجانبي وقد ضم أطفاله وزوجته وكأنه يريد إخفاءهم بين أضلاعه لكي لا يمسهم سوء .. غير مبال بنفسه , ارتفعت الأصوات وغمرت الصيحات المكان بين مستغيث وباك ومفزع وراكض .. قبل أن أهرع إلى مكان الانفجار التفت إلى الشبان الثلاثة حيث كان أحدهم قد أغمي عليه بينما أحد أصحابه كان ممسكاً به لكي لا يقع على الأرض , والآخر هرع إلى مكان الانفجار ليقتصي الأخبار, وذلك الشاب المتزوج   كان يحضن زوجته  التي كانت تريد صهر طفلها في روحها  حتى تبعده  عن الموت  الذي خيم على ذلك المكان ...!

و صلت مكان الانفجار  حيث أشلاء  القتلى  قد تناثرت  في كل أرجاء المحطة , وكأن أحدهم  وضع مادة متفجرة  في المقصورة  الرئيسية  للقطار  و قام بتوقيتها  لتنفجر  بعد عشر إلى خمس عشرة  دقيقة  بعد وصولها للمحطة .. حيث الركاب  في القطار الأول  سينزلون و يبدأ ركاب القطار الثاني  المجاور  له بالركوب  وبذلك  سيوقع أكبر عدد   من الضحايا , أما كيف   استنتجت بأنه هناك  مادة تفجير فمن خلال  شدة الانفجار  أولا وثانيا هذه الأمور أصبحت  شبه عادية  في مجتمعنا  حيث لا يمضي يوم دون أن تسمع انفجارا  قضى على عدد من الأبرياء ... و ما أكد  صحة  نظريتي هذه هو سماعي لرجال شرطة يقولون إنها مادة متفجرة  مؤقتة , كان ذاك الشاب  الذي ذهب ليقتصي الأخبار واقفا أمام المقصورة  مذهولا ... شاحب الوجه , رأيته بينما كنت  أساعد آخرين  على إخراج المصابين من القطار , ولحظات حتى  رأيته بجانبي  يساعد على إخلائهم ... أخرجنا أكثر من خمسة و عشرين  جريحا .. و كانت صفارات سيارات  الإسعاف التي وصلت  مع سيارات الحريق   تعم المكان..  و حسب ما سمعناه  أن الحصيلة  الأولية  للقتلى  كان ثلاثة وعشرين قتيلا  وإذا أضفنا  إليها الخمسة و العشرين  جريحا  تكون الحصيلة  ثمانية وأربعين  مصابا , هذا دون إضافة أصحاب الإصابات  والجراح البسيطة  الذين تمت  معالجتهم  في المحطة,  كان ذلك الشاب  يبلى حسنا ... قابلته  بعد ذلك  و قد عاد لصديقيه  و قد شحب وجهه تماما  اقتربت منه  و قلت  له  لقد أبليت  حسنا ... لكنه لم يسمعني و كأن شيئا ما ... أخرسه.. نظر إلي.. أعدت ما قلته .. هز رأسه .. وهو يتمتم  لقد اخرجت جثة طفلين .. نعم طفلين  لم يكونا قد بلغا عامهما  الأول ..  لقد مزق الانفجار  جسدهما .. كانوا أطفالا .. نعم مجرد أطفال .. رضع.. صغار ... لقد ماتوا .. مزق جسدهم ... أليس  هناك  ما يثير  الاستغراب  إنهم أطفال  .. فلماذا  مزقت  أجسادهم .. أطفال  صغار لا ذنب لهم .. نعم أطفال .. ثم توقف  لبرهة وعاد يقول .. إذا كان مصيرهم  الموت ... بل أن تمزق  أجسادهم  فلماذا ولدوا أصلا.. لماذا مزقتهم  الأقدار  و هم ما زالوا  رضعا  لا يعرفون  شيئا  من حقد   البشرية  و غبائهم .. لماذا ولدوا  إذا كانوا  لن يعيشوا  سوى أشهرا..؟

كان مصدوما .. قلت  لصاحبيه  أن يأخذاه  إلى بيته .. وكان الذي  قد أغمى  عليه  قد استعاد  رشده .. وقال الآخر  الذي  كان يمسك  بالكتاب ... علينا  أن نسافر بأي  شكل فغدا لدينا امتحان .

عدت ثانية  إلى مكان  الانفجار و علمت أن من بين القتلى  سبعة أطفال  قضوا مع عوائلهم .. كان هناك بعض الجرحى  يعالجون  في المحطة .. ذهبت  لرؤيتهم .. التقيت برجل فقد زوجته وأمه.. وآخر فقد أحد أقربائه..الذي جاء معه لزيارتهم .. و شاب كسرت ذراعه .. وأغرب ما التقيت فتاة في الخامسة  والعشرين من العمر .. أتت بصحبة  أربع  فتيات  أخريات و معهن   رجل   يتاجر  بأجسادهمن .. حيث قضت الأربع  الأخريات  مع الرجل  ولم يبق  سواها .. كانت تبكي بشراهة و هي  تتمتم مع نفسها  إنها  ذنوبنا .. جحودنا .. إنها آثامنا  .. ورأيت  شرطيا  عجوزا  يحاول  أن يهدأ من روعها .. لكنها لم تكن تتمالك نفسها .. طلب رجال الإسعاف أن نساعدهم  في نقل الجرحى إلى سيارات  الإسعاف .. حيث هي المرحلة الثانية  بعد إخراجهم  من تحت حطام  القطار.. نقلناهم  إلى سيارة الإسعاف .. وصادف ذلك أن طلب  مني ذلك الشرطي  الكبير  بأن أعتني بتلك الفتاة .. التي أصيبت  بحرق في  ذراعها .. لكنه كان حرقا  سطحيا بسيطا وجرح كان ينزف من رأسها .. أما كيف قضى  الآخرون  و سلمت هي .. فلأنها  كانت قد تمددت  وسط تلك الغرفة التي استأجرها  الرجل الذي..و قد غطت نفسها  ببطانية .. حيث إن القطار هذا يحتوي   في مقصورته الرئيسية  غرفا يقوم باستئجارها  العوائل أغلب الأحيان .. ولعل لا يخفى على أحد لماذا تباع  بطاقات السفر  بسعرين  مختلفين  حيث هناك  بطاقات للدرجة الأولى و هي للمقصورة  وبطاقات الدرجة الثانية و هي للمقطورة ... المهم البطانية وقتها  من زجاج  النافذة  والتي كانت السبب في مقتل  أغلب  الركاب الآخرين لكنها لم تسلم من الحرق وذلك الجرح..أخذت كمية من القطن وطلبت منها أن تضعه على جرحها وتضغط عليه..ثم قلت لها اركبي  هذه السيارة  لنأخذك إلى المستشفى .. قالت  لكن ليس لدي أحد هنا ... فماذا أفعل بعد أن  أنتهي من المستشفى .. قلت لها لا تفكري بذلك الآن واصعدي ليتم علاجك .. وبعدها  ستجدين حلا ً .. المهم  أوصلناهم في سيارات الإسعاف  للمستشفى.. و تم معالجة أغلب الجرحى .. وبعدها طلب  من بعضهم مغادرتها .. لعدم وجود أماكن شاغرة... والبقاء كان للحالات الخطرة والمستعصية فقط.. عندما بدأنا بالعودة إلى المحطة لأخذ  حقائبنا .. وجدتها تقف  أمامي  تنظر إليّ و كأني أنا الذي لم ألتقها سوى لحظات  كل أهلها  قالت .. ماذا بعد .. ليس لي أحد ... فكرت أن أساعدها .. قلت أستطيع أن اعطيك مالا .. قالت ماذا أفعل به ... وأنا لا أعرف حتى أين أنا .. وجدت نفسي مضطرا  لأن أصحبها معي .. عدنا إلى المحطة  وأخذت حقيبتي و توجهت  إلى كراج للسيارات .. لأكمل رحلتي .. في الطريق  .. وأثناء استراحة قصيرة سردت لي قصتها ... ومنها عرفت بأنها ذات خمس و عشرين سنة وإنها صاحبت الأخريات  لأن ذلك الرجل و جد لهن عملا في  المدينة  التي تفجر  فيها القطار .. قصتها كانت لا تقل موتا من الموت  الذي شاهدته في محطة القطار .

لعلي أحدثكم  عنها  بعدما أتحدث عن تلك الهواجس  التي داهمت  ذهني والصور  التي جعلتني أعيش حالة من اللاوعي في أكثر  أوقات الطريق .. حيث أمطرتني الهواجس بأفكار كانت تتلاطم في ذهني وكأنها طلاسم لاحل لها .. بل لا نهاية لها .. صوت ذلك الشاب و هو يقول  مفزوعا .. مصدوما.. لقد مزق الانفجار جسد الطفلين.. وأسئلته .. تلك ظلت  توخز عقلي  كأنها دبابيس  تغرس في جسد  بوذي يؤدي صلاته العقلية  في لحظات  انقطاع  الحس بالموجودات  من حوله.. تذكرت  في خضم ذلك  الصراع  قولا دائما  أردده على مسامع الآخرين "إذا كان تألم  الأطفال  مفيدا  لاستكمال  مجموع  الآلام اللازمة للحصول على الحقيقة  فإنني أأكد  سلفا  أن هذه الحقيقة  لا تساوي مثل هذا الثمن .." فكيف إذاً وهؤلاء الأطفال قد مزقت أجسادهم . . وتلاشت أعضاؤهم .. بل تناثرت .. إن الأمر ليدعو إلى موقف جدي .. لا تهاون فيه .. إذاً .. كان محقاً هو عندما أكد سلفاً بأنها لا تساوي هذا الثمن .. ومعه .. أؤكد .. بأن سخطنا سيظل باقياً حتى لو كنت أنا معه على خطأ .. وبينما أن أتصارع في ذاتي مع هذه الحقائق . . إذا بصور تلك الأشلاء والجثث .. والجرحى .. تتقاذف في ذهني.. وأمام عيني وكأنها شريط سينمائي .. تدور أحداثه على موت البراءة من أجل .. من أجل ماذا .. ؟

لم أشعر بالوقت إلا ونحن وصلنا وجهتنا .. كانت الساعة قد قاربت الثانية بعد منتصف الليل .. نزلنا في منطقة بعيدة عن بيت تلك الفتاة .. ولعل الوقت قد آن لأحدثكم عنها .. اسمها دنيا .. بالطبع ليس الحقيقي إنما كانت تعمل بهذا الاسم .. وهذه أيضاً ظاهرة فريدة أن لا تعمل الفتاة باسمها الحقيقي حتى تتجنب ملاحقة أهلها أو أي شخص يرفض عملها .. اسمها الحقيقي كان زمن .. طويلة .. لها قوام معتدل.. شفتان مغريتان .. ووجه مائل إلى الحمرة منه إلى الأبيض .. عيناها كبيرتان .. عسليتان .. تملك صوت ناعماً .. وعندما تلفظ حرف الراء تشدد عليها بحيث يشعر المرء بأن لها مع هذا الحرف مالا يفرح .. قالت سأطلب منك أن توصلني إلى البيت لأني .. لم أدعها تكمل حديثها أنتظرنا سيارة أجرة تُقلّنا إلى بيتها .. ولكن كأنها انعدمت .. فسرنا قليلاً .. وعلى بعد أمتار.. سمعت صوت سيارة التفت وإذا بها سيارة أجرة .. أوقفتها .. وسرنا حيث تسكن وصلنا بحدود الثالثة إلا ربع .. أوصلتها للبيت .. ! وقفنا أمام باب البيت أكثر من عشر دقائق .. حيث كان الجميع نائماً ولم يتوقعوا أن يزورهم أحد في مثل هذا الوقت . . خاصة إذا ما عرفنا بأنها لم تكن تعمل أبداً في البيت حتى لا تجرح إحساس أختيها وولديها وأمها . . . . !

خرجت الأم .. بملامحها البيضاء وقد غطت رأسها بغطاء أبيض .. بل ناصع البياض .. فأضاف لوجهها هيبة غريبة .. وعندما وجدت ابنتها بتلك الصورة لطمت وجهها وبكت .. فارتمت الابنة في حضنها وبدأ مأتم نسائي في تلك الساعة المتأخرة يعقد وبدأت بسرد القصة من أولها .. لحظات قليلة حتى انتبهت الأم لوجودي .. قالت الأم لي تفضل بني بالدخول .. حينها استفاقت زمن وقالت لأمها إنه من اعتنى بي بعد الحادثة .. فكررت طلبها لي . . لكني اعتذرت وقلت سأحاول الوصول إلى فندق . . لكن الأم وزمن.. معاً أصرا .. على أن أبيت عندهم في تلك الليلة .. كان صوت الأم يخرق سمعي وكأنه أنين امرأة ناسكة .. فأخضعتني .. لبيت طلبها.. دخلنا البيت .. وعادت دنيا مع أمها للبكاء .. وأيقظتا كل من في البيت .. سمر .. صاحبة الواحد والعشرين من السنوات طالبة في كلية المعلمين المرحلة الثالثة.. قسم الرياضيات .. جميلة بكل مقاييس الجمال .. تملك براءة غير عادية .. وابتسامة أشبه بابتسامة ملاك .. وجهها صورة حية من وجه أمها.. سحر .. صاحبة التسعة عشرة سنة .. طالبة في المرحلة الأولى في كلية الأداب قسم اللغة الإنكليزية..يعرفها المرء من النظرة الأولى بأنها مرحة من ضحكتها الشفافة .. جميلة لا تقل عن الأخرى براءة .. لؤي .. أصغرهم .. طالب في المرحلة الرابعة من الإعدادية .. عمره لم يتجاوز السادسة عشرة بعد .. هادىء .. يلبس نظارة طبية .. وجهه .. بل نظراته تفصح عن ذكاء حاد له .. وبشرته البيضاء .. مع تسريحته..تظهرانه وكأنه يساير المودة . . !

سامان .. ابن زمن الأكبر .. وقد سماه أبوه تيمنا بابن لصديق له كان قد التقى به في أيام الخدمة العسكرية . . وصديقه هذا كان يسكن شمال البلد.. طفل .. في عامه الخامس .. عندما أيقظته سمر .. كان يسير بخطا مثقلة وكأنه يقول هل من شيء يستحق إيقاظي في مثل هذا الوقت .. لكنه عندما رأى أمه .. فزع .. وهرع لأحضانها وهو يبكي ..غاضباً على من سبب لأمه ذلك الحرق ..سامال وهو ابن الثلاث سنوات ..ولد ولم ير والده.. جميل جداً .. كان بكاؤه عند رؤيته لأمه كافياً لأن يكفر المرء بتلك الشرائع جميعها التي تبيح ألم الأطفال . . !

لعل الأمر أصبح ضرورة الآن أن أوضح بعض التفاصيل عن هذه العائلة البائسة .. لكن سأصف لكم البيت قبل أن أدخل في تلك التفاصيل .. أظن بأن مساحته كانت بحدود المئة والخمسين متراً .. مكون من طابق واحد .. يحوي ثلاث غرف عادية .. مع غرفة صغيرة حولت إلى صالة للاستقبال .. ووضع فيها أريكة كبيرة .. مع بعض الكراسي .. وقد عُنّي بها جيداً .. حيث خيط لكل واحدة منها غطاء جميل .. وجدران الغرفة كانت بيضاء.. هذا ما لاحظته في صباح اليوم التالي .. وكانت الصور هي ما تزين ذلك الجدار .. أما الغرف الأخرى فلم أشأ دخولها حتى لا يعتبر تصرفي أمراً غير لائق .. في تمام الرابعة وخمس دقائق تقريباً .. دخل الجميع غرفهم .. لؤي مع أمه في غرفة .. وسمر وسحر في غرفة ودنيا مع ابنيها في غرفة وقد أعدت الأم لي في الصالة وعلى الأريكة تلك فراشاً لأنام فيه .. وأظن بأن لؤي كان ينام هناك لكنه نام في غرفة والدته ليترك المكان لي .. حاولت أن أخذ قسطاً من الراحة .. لكن لم أستطع فصور الأشلاء المتناثرة .. وصيحات الناس .. بل حتى ذلك الرجل الشايب الذي كان يضم أطفاله بعد الحادثة .. كان كل ذلك يقض عليَّ مضجعي .. فاعتدلت على الأريكة تلك وأصبحت كعمود مغروس غصباً في الأرض بلا حراك .. كنت أقاوم نفسي بأن لا أبكي ..وقد استحضرتني كلمات أحيانا أرددها مع نفسي "ما من شقاء يحل بي إلا تكهنت بوقوعه" وأظن بأن ذلك ما يجعلني دائما أغرق في بحر عاصف من اليأس.. مضى الوقت بسرعة .. حيث في تمام الخامسة .. سمعت حركة في البيت .. كانت الأم تتهيأ للصلاة وأيقظت الباقين أيضاً .. وفي الخامسة والثلث تقريباً عاد الهدوء يخيم على البيت .. لكن فجأة شعرت بيد تفوح منه رائحة أدوية يلامس كتفي العاري .. التفت وإذا بها زمن .. قالت .. ألم تنم لحد الآن .. ؟ قلت لا .. فهناك أنين لا يدعني أستطيع النوم .. قالت  .. أمازلت تفكر بما حدث هناك .. قلت وهل ما حدث قليل .. قالت .. لا .. لا .. !

لا أعلم كيف بادر إلى ذهني سؤال غريب لا علاقة له بما كنا نتحدث عنه لكني سألتها مباشرة دون تردد .. قلت لها زمن ما قصتكم .. أين والدك وزوجك .. وما الذي دفعك لذلك العمل وأنت تملكين هذه العائلة الرائعة..!

جلست بجانبي بحيث ألصقت جسدها بجسدي .. وقالت هل أنت مستعد لتزيد من تلك الصور التي لا تدعك تنام في ذهنك .. قلت نعم .. قالت إذاً أستمع .. والدي توفي قبل سبع سنوات .. ولم يترك لنا سوى دكان صغير نقتات من ما يجنيه علينا .. وبمرور الزمن ساءت أحوالنا .. فتركت دراستي.. وبدأت أعمل في بعض البيوت . . أغسل وأكنس .. وكانت أمي تعمل في البيت .. حيث كانت تخيط الملابس.. ولكننا كنا نستطيع بما تجنيه أمي وأنا وما يأتينا من الدكان أن نتدبر أمرنا .. أما متى بدأت أسلك هذا الطريق .. عندما كنت أعمل في بعض البيوت كنت مازلت في مقتبل العمر.. حينها كنت أجد معاملة سيئة من بعضهم .. حيث كان يحاول البعض استغلالي . . كنت أنجح في التخلص من البعض . . لكني وقعت فريسة بيد أكثر من واحد .. لم يكن الأمر يتعدى بعض الملاطفات والقُبل.. لكني بدأت أقلق  على نفسي . . فقلت لأمي بأني سأترك عملي هذا .. في البداية لم تتفهم الأمر .. لكنها بعدما فكرت .. قالت لا بأس .. فقد كبرتِ وأخشى عليك من فاقدي الضمير . . كنت حينها قد اقتربت من العشرين سنة .. ولم تمض سوى أسابيع حتى جاء عمي ليخطبني لابنه تنفيذاً لرغبة والدي الذي لم يكن يقبل أن يُتًّزوج بنات العائلة للغرباء . . وفي الحقيقة فرحت بالأمر لأنني على الأقل سأعيش في كفن رجل يحميني من العمل في بيوت يسكنها ذئاب تهوى اللحوم الضعيفة .. المهم تزوجنا .. وسارت الأمور على أحسن حال حيث اهتم زوجي بعائلتي أيضاً .. لكن سرعان ما استدعي للخدمة الإلزامية فنحن كما تعلم نعيش في حالة حرب .. وبينما هو في الجيش رزقت بابني الأول وعندما عاد كان عمره شهر وأربعة أيام فسماه سامان تيمناً بابن صديقه . . وعاد بعد أسبوع إلى سريته التي كانت تبعدنا بأكثر من أربع ساعات . . وهكذا بدأنا نعيش في قلق دائم خوفاً أن يصيبه شيء . . وبعد سنتين من ولادة سامان رزقت بسامال . . لكن الطفل لم ير والده لأنه كان صغيراً جداً عندما وصلتنا جثة والده ملفوفة بعلم . . كان ريان ضابطاً . . وقد تخرج من كلية الهندسة . . لكن لذكائه فقد منح نجمة على كتفه . . وكان دائماً يقول إنه ليس هناك منتصر في الحرب إلا الموت فهو الوحيد المنتصر . . وكما تعلم بأننا نخرج من حرب لنستعد ونتهيأ لأخرى . . حياتنا كلها لم تكن إلا صورا للموت المتلاحق . . وكأن السماء قد أكسبت وأورثت صفتها لنا . . حيث لا شيء يبرد غلة عطشنا إلا المزيد من الدماء . . وبعد مقتل ريان بأشهر توفي عمي متأثراً بفقدان ابنه الوحيد . . وساءت الأوضاع حيث مرضت زوجة عمي ولم تمضي سوى أشهر حتى لحقت بابنها وزوجها . . فلجأت إلى أمي وأصبحت أسكن عندها . . وأثقل عليهم عبء الحياة الصعبة التي كانوا يعيشونها . . يوماً بعد يوم أضطررت العودة إلى العمل في البيوت وكانت البداية للانخراط في هذا العمل . . حيث سمحت للبعض من استغلالي مقابل أجر زائد . . وبعدها التقيت بفتاة أخرى تعمل في البيوت لكن ليس في أمور الغسل والكنس . . إنما . . . . ! وعرفتني بذلك الرجل الذي قتل في الانفجار . .!

كنت أخرج ثلاثة أيام بلياليها أعمل في بيت أستأجره ذلك الرجل مع أربع فتيات أخريات لكل واحدة منهن قصة لا تختلف كثيراً عن قصتي .. فهذه التي قتل زوجها وتلك التي تيتمت لسقوط قذيفة على دارها .. وأخرى سجن زوجها لرفضه وهروبه من الخدمة العسكرية وعُذّب حتى مات والأخرى هربت من أهلها لمعاملة زوجة أبيها السيئة لها .. المهم كنت أقنع والدتي بأنني أعمل في معمل للنسيج حيث يتطلب منا البقاء فيه تلك المدة .. وبدأت أُعيل عائلتي .. وكم كنت أتعذب بل أحترق ألماً كلما عدت من إثمي ذاك وأجد والدتي وهي تركع وتسجد وتدعو ..باكية لأن تحفظنا السماء ..لم أجد إنسانة مثل أمي ..شكورة وراضية من أقدارها.. وكم احتجت من جرأة لأقنعها بأمر سفري هذا . . ولا أنكر بأنني كنت قد بدأت أستمتع قليلاً بعملي ترضية لغريزة أنثوية في أعماقي . . بعكس ما كنت أعانيه في بداية عملي هذا , حيث كنت أبكي ساعات طويلة مستحضرة تلك الليالي التي قضيتها في حضن ريان . . وكنت أتمتم أين أنت يا ريان . . لترى ما آلت إليه زوجتك وأم أولادك . . ها هي تنام كله ليلة في حضن غرباء يذلونها ويذيقونها الأمَرّين . . ! كنت أستمع اليها وأزداد ألماً.. وكانت التساؤلات تزداد في عقلي وفجأة وجدتها وقد خارت قواها وغلبها النُعاس . . فوضعت رأسها على كتفي وكأنها تسترحمني بأن أوقف نزف جراحها الممتدة من أيام تركها للمدرسة إلى لحظاتها تلك . . لم أشأ أن أحرجها . . أنزلت رأسها على حضني . . فنامت . . مررت بحالة غريبة في أعماقي . . حيث ثارت غريزة الرجل فيَّ لتتصارع مع الإنسانية التي تقدم دون ثمن . . كنت أنظر إلى وجهها بل إلى جسدها فأجده يثير كل شيء مني . . وكنت أركن لعقلي فأجده يرفض المقايضة . . وأخيراً استسلمت لعقلي . . وخشيت أن يرانا أحد . . أيقظتها بعد نصف ساعة تقريباً . . نظرت إلي . . ابتسمت . . قالت أول حضن لا يؤلمني بعد حضن ريان . . وكأنها لم تسيطر على نفسها قبلتني . . ودخلت إلى غرفتها . . أستجمعت قواي . . ابتسمت لانتصار الإنسانية فيَّ على الغريزة البشرية .. حاولت النوم فغفوت .. وفي تمام الحادية عشرة .. استيقظت والبيت أشبه بمغارة صامتة . . ليس فيها إلا صدى أنين إنسانية معذبة .. كان لؤي وسمر وسحر قد غادروا البيت لدراستهم .. أما سامان وسامال فكانا نائمين لأنهما عانيا من ليلة قاسية .. ودنيا كانت في المطبخ تعد الغداء .. وأمها .. كأني نسيت أن أذكر اسمها .. إنها فاطمة .. كانت تصلي على بعد أمتار قليلة مني .. وعندما لمحتني ابتسمت .. وقد غمر وجهي حمرة .. لأني كنت قد نزعت قميصي .. فأسرعت ولبسته .. وقالت لا بأس بني .. صباح الخير .. عساك ارتحت قليلاً .. قلت لها شكراً على الاهتمام .. قالت بني في تمام السابعة .. أتيت لرؤيتك ولمعرفة إذا ما كنت تحتاج شيئاً .. فوجدت العرق ينصب من وجهك .. وكنت تتكلم في نومك .. وكأنك كنت تهذي .. أطفال مزقت أجسادهم ..وأشلاء مبعثرة ..ورجل يحضن أطفاله ..وشاب شاحب الوجه..فخشيت عليك.. وقد وضعت منشفة مبللة على رأسك لعلها تخفف حرارتك تلك .. وبقيت هنا أصلي من أجلك..وأتذكر أنك كنت تقول كلاما غريبا لمافهمه..بني أتمنى أن لاتكون ممن يعصون الله لرغبة في أنفسهم..قلت هل تتذكرين ما كنت أقوله..قالت ليس الضبط لكنك كنت تتكلم عن الآلهة وخلود ورؤى الليل وكلاما من هذا القبيل..قلت أ ليس هذا ما قلته"لاريب في أن الآلهة وبحكم طبيعتها بالذات يتمتعون بالخلود في أعمق سكينة..متجنبين أمورنا..منصرفين عنها كل الانصراف..فلننس الآلهة..إذن ولانفكر بها أبدا وحينئذ لن تكدر الصفو هواجس أنهار ولا رؤى الليل"..قالت أظنه ذلك  ما كنت تقوله نعم... بني عساك أفضل الآن .. عساك .. ودمعت عيناها .. لم أستطع أن أقاوم دمعي .. ارتميت بين أحضانها .. وكأني حينها ملكت ما لم يمتلكه بشر .. كانت زمن حينها أمام باب الصالة واقفة .. باكية .. وقاطعت حوارنا ذاك وقالت.. ماما لقد أعددت له طعاماً .. لأنه لم يأكل منذ أن خرجنا من هناك .. التفت إليها .. فوجدتها تمسح دمعها ..أمسكت الأم بيدي وقالت بني عليك أن تأكل شيئا.. لم أشأ أن أرد طلبها .. أكلت قليلاً .. ثم تهيأت للخروج .. للرحيل.. وعندما وصلت لحقيبتي وجدت عليها هدية .. فتحتها .. وإذا بها دمية صغيرة مع ورقة تحمل اسم سمر .. تقول . . لو كانت الأقدار بيدي لجعلتك لا تغادرنا أبداً .. لقد أحببناك .. ليتك لا تنسانا .. تقبل حبي .. وحب سحر ولؤي .. هذه منا لك .. سمر..!

حملت حقيبتي ودعت الأم .. ولم أدعها تخرج معي .. رافقتني زمن للباب .. لكني شعرت بأن هناك شيئاً لم أفعله.. قلت لها لم أودع الطفلين .. ابتسمت وقالت لا بأس .. سآخذك إليهما .. دخلت غرفتهما .. قبلت سامان وكان لم يزل غارقاً في نومه .. وعندما هممت بتقبيل سامال فتح عينيه ولف بذراعيه حول عنقي وقبلني.. فاحتضنته وقبلته .. ثم خرجت .. وعاد هو لنومه .. وأمام الباب الخارجي للبيت .. عادت دنيا لتقبلني .. وأظنني بادلتها القبلة .. قالت في أي فندق ستنزل .. قلت .. لعلك ستكونين أفضل إن لم تعرفي مكان وجودي .. أعادت سؤالها .. قلت في ذلك الفندق الذي يقع في وسط المدينة .. بالقرب من ساحة الفردوس .. ابتسمت . . ثم أصاب وجهها حزن شديد .. قلت ماذا هل قلت ما يؤلم .. قالت فرحت لأني أعرف مكانه .. لكني تألمت لأنني كنت أغري الزبائن هناك .. ثم قالت سأراك .. نعم سأراك .. قلت لندع ذلك للزمن يا زمن .. ابتسمت .. وقالت رافقتك السلامة يا صاحبي .. قلت اهتمي بنفسك .. ووداعاً . . !

عندما ركبت سيارة للأجرة .. داهم فكري هواجس عن الحرب ومايخلفه من دمار .. وانحلال .. فاستحضرتني كلمات ريان عن الحرب بأن لا أحد ينتصر فيها سوى الموت .. وقلت ما بهم هؤلاء البشر لا يكفون عن صناعة الموت .. ألا يعلمون بأنه آت إليهم حتى إن لم يسعوا هم إليه .. ثم ما لبثت أن تساءلت لماذا أنا .... ؟

الموت في محطة القطار صنع الحياة لي عندما التقيت دنيا فقد أهدتني وجوهاً كانت الحياة تنبعث منها برغم بؤسها وتعاستها ...!