جعلتني شحاذاً
علي أبو مريحيل
لم تشِ السماء قبل ذلك اليوم بليلة القدر !
وعلى غير عادتي لم أدعُ الله في الصباح لأني لم أصحُ طاهراً بكامل تثاؤبي خرجت إلى وظيفتي المؤقتة ـ معداً ومشرفاً على موقع إلكتروني يضم كافة أعمال محمود درويش الشعرية ـ .
لم أفكر في صباح ذلك النهار بغير العطر الذي يسفلت شفتي بخدر امتد من حلم لم ترق له نظافة ملابسي الداخلية !!
مستلقياً على ظهري كنت أقطع المسافة بين البحر الكامل والبحر الوافر حين هاتفني القدر ممثلاً بصوت أخي الذي لم تلده أمي (ياسر الوقاد) وبحكم مكانتي الأدبية وضآلة الأجر الذي أتقاضاه كنت أستطيع أن أغرد خارج دائرة العمل متى أشاء ولأني لا أستطيع أن أرد لأخي ياسر طلباً , خرجت ملبياً نداء القدر ..
على ذات الرصيف المثقل بالرغبات المؤجلة , حيث لم يسلم طيف أنثوي لا من سهام شهية التملك في رجولة نضجت تحت شمس التأمل وإنما من الحملة التي تشنّها خلاياي بحثاً عن وجه حبيبتي الغائب !
بخطاً لا مبالية كنت أسير منتعلاً ضياعي
بعد أن أنفقت كل ما فيّ من أمل في بئر ثلاث سنوات عجاف !
كنت .. لا لم أكن قبل هذا اليوم , أنا ابن هذه اللحظة المباركة
كيف للمرء أن يولد شاباً على رصيف يضجّ بالمارة
دون طبيب يقطع له الحبل السري , دون نزيف يفضح أمه اللحظة ؟!
دون صراخ يشي بحاجته إلى القليل من الحليب ؟!
ها هي الشمس تشرق على يومي الأمل , ها هي الطبيعة تنتفض ..
أسمعها
تئن أهدابُ السماءْ
يا ليت لي حظَّ الندى
يا ليت لي حظَّ الهواءْ
الشمس تُدلي دَلوَها
والبحر يدميه البكاءْ
الموج يدنو
والجبال تنحني
والأرضُ يَرثيها الثراءْ
يعلو الصفيرْ
كل الروابي أعينٌ
وأنفس تشدو.. تطيرْ
حتى الورود الملحدة
تبكي بمحراب العبيرْ
لا تسألوني عن حروفي
عن جنوني وضيوفي
باختصار بالغ
حبيبتي نحوي .. تسيرْ
ها هي إذن .. بعباءتها السوداء , بمشيتها الارستقراطية
بكل ما أرغب وأحلم , كأنها لم تغب وكأني لم أمت
برفقة امرأة ـ تبدو أمها ـ تسير في مرمى غمزة
كادت أن تسبقني إليها خطاي لولا لمعة الخاتم في كفها الأيمن !
يا إلهي .. كيف لخاتم صغير أن ينوب عن نفخة الصور بلمعة واحدة ؟!
أيعقل أن تكون الكف التي أدميتها قبلاً هي ذات الكف التي تحمل حبل مشنقتي ؟!
تلمع في عيني دمعة وبين اللمعتين أقف حائراً قبل أن يوحدنا الذهول على حافة البكاء
تتمتم بكلمات لا يفهمها أحد سواي , كأن عينيها تعتذران عما سببتا لي من ضياع
أحاول أن استجمع قواي , وأفشل في اجتياز حاجز الصمت !
فيسعفني حرصي الدائم على حمل نسختين من مجموعتي الشعرية التي
ولدت يتيمة بلا أبوين , تحسباً لهذه اللحظة التي ما عادت مباركة !
ولكن كيف لي أن ألكمها بهذه المجموعة, وأمها أقرب لها من ظلها
الذي تحول قداسته دون أن يلامس الرصيف !
تراودني فكرة مجنونة , وعلى الفور افترش الأرض تحت قدميها
مفرغاً ما في جعبتي من ذخيرة !
وبيد مرتبكة خجولة وصوت لا يكاد يُسمعني .. أباغتها
" تفضلي سيدتي .. الكتاب الواحد بخمسة شواقل !!!"
فتنفجر ضاحكة وأنفرج سقوطاً بالضربة القاضية
وقبل أن يعدّ لي القدر ثلاثاً , أرفع الراية البيضاء
بما تسربل من دماء وبكاء فوق أنقاض اللقاء !
و يسدل الستار على موتي الأخير..
ومن خلف الستار تقترب .. تتدارك ردة فعلها القاتلة
تصمت,تنصت,تدنو,ترنو, تنحني .. كادت أن تتواطأ معي
لولا لكزة أمها التي مُنحت بفضل سماحة وجهها
حصانة كافية ضد حقدي وكراهيتي لها !!
يتجمهر المارة حول مكتبتي الصغيرة , يقلبون مشاعري بأكف حافية !
هذا يسأل عن موطن الشاعر, وذاك يدّعي صداقته
وآخر يسأل عن سعر الكتاب
وأنا لا أحد يسأل عني في هذا الضباب !!
ألملم خيبتي بما تبقى من بقاياي على قيد الحياة
وانسحب ـ متكئاً على ظلي ـ إلى رحم آخرتي
بحثاً عن شاهد جديد .. أنقش فيه هذا النص !!!