لقاء مع فنان

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

ظهر الفنان  النجم والمبدع - سابقا - على الشاشة  في لقاء مباشر وحي مع مقدمة البرنامج الشابة ، فبدت ملامحه وقد أثر فيها الزمن وفعل فعله فيها ، ونالت منه الأيام والسنون منالها ، فطار شعره بعد مشيبه ، واتسعت صلعته متسلقة تغزو شعره الأشيب في جميع الاتجاهات ، وقد ضعف بصره ، ونحل جسده ، ورقّ عوده ، واهتزت أعضاؤه مرتجفة وفق متوالية منتظمة ، حتى صوته الذي كان يقرع  الآذان مدويّا ، ويهز المسرح من أركانه الأربعة بدا ضعيفا خافتا .... ولكن الأهم من كل ذلك أنك تقرأ وتتحسس الذل والانكسار في صوته الخفيض ونظراته المنطفئة ونفسه المحطمة الكسيرة ، فلقد أثر فيه الزمن وأكمل ذلك الأحباب والأصحاب من زملائه بل وتلاميذه في الفن ، والذين كان له الفضل الأكبر في اكتشافهم  وتدريبهم أو حتى  برمجتهم  وصناعتهم ! .

سألته المقدمة الشابة عن أصدقائه ومن بقي منهم على اتصال وتزاور معه ، فكان جوابه ليس له حاليا إلا صديقان يزورانه بين الحين والآخر يتفقدانه ويواسيانه ، وأن جلّ وقته أكثر من - تسعين بالمائة منه -  يقضيه في البيت وحيدا .

كان السؤال الثاني عن رأيه وتقييمه لأفلامه ومسرحياته والتي مثلها وقام ببطولتها وألهب مشاعر الجماهير بمتابعتها ، فكان جوابه أنه لا يعجبه من أفلامه كلها والتي لم يحصها ولا يعرف عددها  إلا اثنان فقط ، تذكر اسم أحدها ونسي اسم الثاني ، لكنه تذكر اسم كاتب الفيلم ومن شاركه البطولة في ذلك الفيلم .

السؤال الثالث : كيف كان الفن في تلك الأيام يوم نجوميته وألقه ؟  وكيف هو اليوم ؟

 فكان الجواب مختصرا وعاما يشمل الفن السابق واللاحق موجزا بكلمة واحدة فقط  قائلا : الفن هابط ، ثم أضاف بعد قليل : لا يوجد فن .

ولما أرادت المقدمة استثارته سألته بطريقة استفزازيه : فلم كنت تمثل إذن ؟

فكانت إجابته بصراحة أكثر : ما كان يمثله من أفلام أو مسرحيات " ليحصل على قرشين " .

سالته مرة أخرى : وهل يعرض عليك  اليوم أدوارا للتمثيل أو المشاركة في الوقت الحاضر ؟

 فكان الجواب بلا مواربة : لا أحد يعرض علي عملا في الوقت الحاضر ولا يطلب مني مشاركة ولا يقدم لي دورا في مسرحية أو فيلم ، ولو حصل ذلك لكتبت العقد وباشرت العمل فورا .

إنه يشعر من جراء هذا التنكر له ولماضيه الفني بالخيبة من هؤلاء الأصدقاء والزملاء ، وكلما جال ذلك في ذهنه وراوده ذاك الحال يحس بغصة في صدره  وحزنا في قلبه وانكسارا في نفسه  ، ولكنه لا يحاول التفكير في ذلك كثيرا حتى لا يؤثر على صحته بعد أن أصابته أمراض الشيخوخة من الضغط والسكري  والقلب .... وخلافه .

من كانوا شركاءه وأعزّ أصحابه ،  وكانوا يشاركونه في أعماله ، أو يعملون عنده ويلتمسون رضاه ، إنهم اليوم ينافسونه في بعض أدواره التي قام بتمثيلها ، لقد سرقوها منه وادعوها لأنفسهم بدون إذن ولا اعتذار !    

لا يرى شركاءه السابقين من جوقته وزملائه إلا في المناسبات البعيدة او الصدفة ، حتى زوجته الأخيرة والتي تلقفها من الشارع لتعمل  " كورسا " في فرقته ، فدربها على يديه وصنعها على عينيه وقدم لها أدوار البطولة التي لا يحلم بها في حينها  ممثلون قديرون وأبطال جديرون  .... حتى هذه قد تنكرت له  بعد أن كبر وامتصت رحيقه وقطفت خيره ولم يعد ينفع للنساء ، غيرتّه وبدلتّه بفنان صاعد وسيم ، بعد أن طلقته !

أضاف أخيرا بحسرة وألم يعتصر نفسه على وضعه وما آل إليه من جهة أصحاب الماضي ورفقاء الدرب وزملاء المهنة : " يختشوا على أنفسهم ويضعوا في أعينهم حصوة ملح " .... يتصلوا بي .... يبعثوا لي  .... يعرضوا علي أدوارا مهما كانت .... حتى لو رفضت .... المهم أن يتذكّروني ... أن  " يعبّروني " ! .

كان يظهرمن عباراته وحسراته وآهات صوته  أن الجرح في نفسه غائرا عميقا ، والغصة في صدره شائكة  مؤلمة لا يستطيع إخفاءها أو التورية بها ، كان كطفل صغير مكبوت وقد أتيح له المجال لينطلق من عزلته وينفس عن كبته ويعبر عن مشاعره ، فيشكو همّه ويبث حزنه للمشاهدين كما يفضي الطفل الصغير بمشاعره لأمه .

سرحت مع نفسي بعد أن انتهى اللقاء مع هذا الفنان وأنا أستحضر في خيالي بعض مشاهده ولقطاته يوم كان قي قمة فنه  ويجلس على سدّة عرشه  ويتسنم ذروة مجده ، وبين حاله وما آل إليه الآن .

هذا الفنان الذي كان يقطع أنفاس الجمهور من الضحك المتواصل بصوته وحركاته ومقالبه .

هذا الفنان الذي كان يجب على المشاهدين حجز تذاكرهم  مسبقا حتى يضمنوا موطئ قدم  وكرسي فارغ في بهو المسرح لمشاهدته ومتابعة مسرحياته .

هذا الفنان الذي كان يعتبرالشباب  الصاعدون والموهوبون من هواة الفنانين والفنانات ،  مجرد التمثيل معه حلما صعب المنال .

 هذا الفنان الذي كان يعتبرمن نال الحظوة بتحقيق التمثيل معه فقد نال الشرف العالي ، وحقق نصرا فنيا مميزا ، يفخر به في مسيرته الفنية وسيرته الذاتية ، ويعتبره ضربة حظ ونقطة انطلاق

نحو النجومية وتعبيد طريقها الوعر الطويل ، وارتقاء أول درجة من سلم المجد والشهرة .

لقد أهان فنه وتعامل معه على أساس اللهو والضحك والتخريف لإضحاك الناس ، فأهانوه .

لقد باع فنه بثمن بخس عندما اعتبره سلعة تجارية الهدف منها الكسب المادي بغض النظر عن ماهية هذا الفن وأهدافه ورسالته ، فنسيه الناس ونسوا فنه  وباعوهما معا .

 لقد أضاع  فنه فأضاعوه ، وأذل فنه فأذلوه .   

كان كصقر جريح  كسر نابه ، وخفض جناحه ، وقلّمت مخالبه ، فاستنسرت عليه البوم والغربان ، واستأسدت عليه الأرانب والفئران !

لقد رثيت من أعماق نفسي لحاله ، ورجوت أن يكون عبرة لغيره من أمثاله .