وشم على الجبل
سعيدة ح بوطاهر
-1-
على ذقنها وشم نحتت معه أتعاب الأيام الخوالي التي قضتها تسوق القطيع .. وعلى وجهها تجاعيد الجبل الذي كان يأويها من حر الشمس حين كانت تخرج للرعي..
الكل يحييها هنا في الأطلس والكل يعرف أنها أرملة فقدت زوجها في حادثة سير مروعة ،إذ كان يصفف التبن على الشاحنة الكبيرة المتوجهة إلى البيضاء فإذا بها تعود أدراجها إلى الوراء ليلقى حتفه على التو...
مات العم عيسى وترك خلفه ولدين في عمر الزهور حميد ومحمد.. بعد حزن دفين حفر أخاديد الأسى في النفس، قررت السيدة خديجة أخيرا مواجهة الحياة مستضيئة بشمعتين هما طفلاها..
أرسلت السيدة خديجة حميد ليكمل دراسته في القرية المجاورة، حتى لا يذوب بين ثنايا الجهل والفقر وربما سيعيل الأسرة عندما يكبر٬ أما محمد فقد كلفته برعي الأغنام بتناوب معه٬ وفي كثير من الأحيان تشفق عليه في حنو تحميه من لفح الزمن.. كانت تسعى جاهدة لتبديد الأسى المترامي بين أطرافها، فتستمد من هذه القمم الشامخة أنفة فلا تتودد لأحد كي يمطرعليها بمؤن من هنا أو هناك أو حتى تبدي تذمرا فبلسمها الوحيد هو الطفلان اللذان ترى في أعينهما الأمل والحياة بل تستنشق عبير الرضا بقدر كاف حتى تقاوم المستقبل..
اليوم يوم الجمعة أعلن شيخ القبيلة في الناس من كان يعرف السيدة خديجة فليخبرها أن المقدم يريدها في أسرع وقت ممكن لأمر هام..
- رباه! ماذا يريد هذا الرجل؟ لقد أعيتني نداءاته٬ كلما وقفت أمامه أدار عينيه الجاحظتين ثم ضرب يدا في يد وهو يقول:
- إيه يا خدوج ستصلك الدية قريبا ها ها......ها ها لا تنسي القبيلة عليك أن تعدي وليمة لائقة بأعيانها فهؤلاء هم من أرسلوا في طلب الشرطة يوم الحادث أليس كذلك؟؟ لا تتنكري للخير ٬ وكوني امرأة سخية..
كانت واقفة تتأمل ما يقوله هذا الرجل في استغراب تعودته منذ أن علم الجميع أنها ستتوصل بمبلغ كبير في الدية٬ لأن الحادث المؤلم كان خطأ السائق الأرعن..
نعم ينتظرون ما ستفعله خديجة الأرملة بالنقود..!!
عادت إلى بيتها تجر رجليها المتعبتين من فرط الرعي في الجبل بعد أن همس في أذنها قائلا: " أريدك زوجة لي فكري في الأمر وإلا !!؟؟" زلزل صمتها فاهتزت مذعورة مليون سؤال ينهال عليها : ماذا سيفعل لو لم أرضخ لطلباته؟ هل سيأخذ مالي؟ من يدري لقد فعلها مرات عدة ولم يتدخل أحد .. الكل ينتقد الوضع في السر ولا أحد يستطيع الاعتراض مخافة تعثر مصالحه .. غارقة في تفكير عميق وعقيم كيف تستطيع إقناع شيخ القبيلة برفضها له زوجة وهي ما تزال تعيش على ذكرى زوجها عيسى ..عيسى الذي كان يحلم ببيت في المدينة رفقة أسرته الصغيرة بعيدا
عن أحقاد القرية الملفوفة في تراب الأرض الندية، تتطاول أعناقها كلما جرت ليالي السهاد حديثا عن الإرث والأملاك...
-2-
قررت السيدة خديجة أن تواصل المسير لكن دون زوجها هذه المرة..تمكنت من تسلم الدية أخيرا وعزمت أن تغادر القرية ضاربة بعرض الحائط إغراءات شيخ القبيلة الذي هددها مرارا وتكرارا بتحويل المبلغ لحسابه مستغلا أميتها .. إلا أنها ضاقت بكلامه ذرعا فلم تعد تهتم لذلك .
قررت أخيرا أن تشتري بقعة أرضية في أقرب مدينة للقرية محافظة لطفليها على نصيبهما لأنهما لم يصلا بعد إلى السن القانوني لتسلم المبلغ..
كبر حميد ومحمد تخرج الأول من الجامعة حاملا معه شهادة الإجازة في الدراسات الإسلامية ..أما حميد فقد أفنى شبابه في الرعي دون أن يذوق حلاوة العلم ولو مرة واحدة وهو يفكر جادا في أن يفتح مصبنة مشروعا مناسبا في الحي المناسب..
نفضت السيدة خديجة عنها غبار الجبال التي كانت تتجول فيها رفقة قطيعها واستدفأت بجدران المدينة بعدما لسعها برد الثلوج المكللة للسفوح والقمم، ترسم لابنيها مستقبلا زاهرا وتتوج رحلتيهما بزواج سعيد فاقترحت عليهما فتاتين مناسبتين لهما دينا و خلقا وجمالا لكن الرفض كان العـــلامة الأولى في تغـير منعطــف الحيــاة و أي تغيير...!
- اسمعي يا أمي عليك أن تعلمي أني سأستقر في الطابق الأول من البيت
و الأفضل أن تغيري حجرتك المجاورة لي ف....قد...........
- قاطعته بقوة وقد استشاط غضبها لماذا؟؟؟
ردد في صوت متلعثم
- لا لا فقط ينبغي أن أهيأ نفسي للمرحلة الجديدة ٬أنت تعرفين بنات اليوم يردن التحرر من القديم
- القديم هل أصبحت خرقة بالية غير صالحة ؟؟؟
كان كلام حميد ينزل كالصاعقة على صدر هذه الأم الحنون التي أوقدت أصابعها شموعا من أجل تعليم حميد ..هاهو الآن ينسج العبارات وينضم الكلام المنثور في تلعثم ووقاحة بادية... وهي تتفرس ملامح وجهه أهو ابنها الذي لفته في ولادته الأولى تحتضنه !أهو الصغير الذي كان يركب الحمار ويردد على مسامعها عندما أكبر أشتري سيارة وأجول بك المغرب ....!!
أهو الذي يقول دائما متى يا أمي نرحل إلى المدينة لأتمم دراستى وأطمئن على محمد الذي ضحى بتعلمه من أجل تعلمي أنا؟؟؟
كبر الآن حميد ولم يعد يرى في مساره الجديد إلا الفتاة التي تعرف عليها في الفندق الذي كان يعمل فيه، تاه بحبها ولم يعد يتحدث إلا عنها وبشروطها هي...وبأحلامها هي أما محمد فلم ينبس ببنت شفة كان لا يجرؤ الحديث في الموضوع كل ما كان يردده " حتى ˚لتما ربي ˚;تما".
-3-
تنبأت السيدة خديجة أن خطرا ما يهدد الأسرة كيف لحميد الخجول الذي لم يكن يستطيع النظر في وجه الضيوف هاهو الآن يجابه أمه شيئا فشيئا...
تظاهرت أن الكلام لم يعنيها في شيء.. حملقت بعيدا ثم انزوت إلى ركن الحجرة تمسك بعقد التسبيح تستغفر ربها .. الألم يعصر قلبها والهواجس بدأت تراودها شيئا فشيئا..
- ماذا يريد بقوله غيري حجرتك ؟؟ماذا يعني أن بنات اليوم ترغبن في الاستقلالية ؟؟ألا يعني هذا أنني سأصبح خارج البيت ؟؟ لا لا لن يفعلها حميد هو ابني الأكبر وقد ربيته أحسن تربية وعلمته هو الآن حاصل على الإجازة يعرف الله لا لن يتخل عني ؟ وإذا تجرأ وفعل فمحمد لن يتخل عني سأعيش معه ..........
نجواها لم تتوقف ..لم ترغب في إشراك أحد حتى الجيران الذين يمطرون عليها بالسؤالات : متى ستزوجين حميد ومحمد ؟؟ بنات الناس كثيرات ..
لم تعلم النسوة أن القرار ليس بيدهما وأن فرحة أم ستصبح - ربما- نقمة عليها..
اتفق الجميع على موعد العرس ..الزغاريد تملأ أرجاء البيت بدت الدنيا في أبهى حلة ..عطور وبخور وورود متناثرة هنا وهناك ..والأم خديجة تحيى لأعظم ليلة تمنتها منذ أن احتضنت ولديها وحيدة في أعالي جبال الأطلس..ذرفت دموعا حرى تلك الليلة وهي تقبل جبين العروسين في تؤدة ..استجمعت قواها راسمة ابتسامة تخفي وراءها ألف سؤال وسؤال....
مرت أيام العسل أحلى من العسل نفسه ويا ليتها ما تعدت طعم الحلاوة فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده..
-4-
- لو علمنا أن الزواج هكذا متعة ونشوة لتزوجنا منذ أمد طويل ها ها ها يقول محمد
- ما رأيك الآن ؟ ما يضايقني اليوم أمي التي لا تفهم أننا دخلنا في مرحلة جديدة فتجلس لمشاهدة التلفاز دون حياء،أينما حللت تجدها في كل ركن من هذا البيت أف ! ..رد حميد:
- اسكت هي الآن ترمقنا بنظراتها نكمل الحديث فيما بعد
كان حميد يشتغل ليلا ويقضي النهار في البيت خاصة وقد تزوج فهو حريص على أن يكون رفقة زوجته يغازلها ويداعبها، إلا أن ذلك لا يتأتى له دائما بحضور والدته..فهو يحس بحرج كبير ..طلب منها أن تنقل حجرتها إلى الطابق العلوي عند محمد لكن هذا الأخير رفض رفضا بحجة أن الوالدة تشعل الضوء في الصبح وذلك يؤذي زوجته ..
شرعت "النسوان" في البحث عن الأسباب الواهية للتخلص من السيدة خديجة، فقد تمكنتا من انتزاع الضوء الأخضر من زوجيهن متناسيين أنهما سيصبحان والدتين يوما ما وأنه كما تدين تدان .. ودون هوادة اخترعن حججا ولفقن لها تهما تساقطت معها آخر أوراق البنوة والبرور ...وهي المرأة البدوية التي تحمل بين طياتها لمسات السذاجة جملتها بما تعلمته في محاربة الأمية من دروس دينية ومواعظ في الإرشاد الديني ، تحافظ على صلواتها ولا تفتر من ذكر الله بل تحرص على توجيه ابنيها خاصة محمد الذي حرم من الدراسة لأسباب موضوعية قاهرة ..
أغير قلب حميد وأظلمت الدنيا أمامه متخفيا وراء ستار اسمه النصيب الأوفر من الدية.. صرخ حميد ليلتها في وجه أمه وكانت الأولى من نوعها وقد انتفخت أوداجه :
- لقد آن الأوان لتبحثي لك عن مكان آخر نريد أن نعيش سعداء في حرية ٬البيت الذي نيناه هو لنا ليس لك فيه نصيب.. الدية كانت لنا أما نصيبك فقد صرفته على نفسك حتى اليوم ألا تريدين أن تعلمي أن البيت كتبته باسمي يوم توجهنا للكاتب العدل ؟ أنسيت ذلك اليوم لقد آن الأوان لتعرفي أن ما فعلته فمن أجل مصلحتي لأني أنا من سهر الليالي في الفندق لأوفر ما بنيته ...لك ثلاث أيام فرصة للبحث عن......
قاطعته قائلة : لا تكمل فهمت كل السيناريو لا لا.............
أغمي عليها وطالت غيبوبتها في المستشفى ، تمنتها أن تكون أبدية، لكنها عادت وقد نخر السكري جسدها ونزل ضغطها إلى الحضيض ..وتغنت بأغنيتها للرائح والغادي.. تفتت الصخر وتبكي معها الكروان..وها هي تحمل حقيبتها، تتنقل بين البيوت.. ترفع كفيها إلى السماء :" ألا سخطا عليكما ألا سخطا عليكما " .. تبحث عن بلسم لجراح هيهات أن تلتئم ، لأن الوشم الأطلسي ما زال يخبرها ببداية قصة ابتدأت عند قمم جبال الأطلس وانتهت بزواج فلذات كبدها؛ زواج قد رفضته حماية لهما من حر الهجير ولفح العقوق والعصيان والطمع، إلا أنها رضخت بعفوية الأمومة له، ظانة أنها ستيعش جدة بين أحفاد أبرار .. ولكن أنى لها ذلك.!