بدأت ليلة الزفاف
مجدي السماك
[email protected]
ألآن بدأت ليلة الزفاف . صار فواز
عريسا ، قد لا يعرفه من يراه بشعره المصفف النظيف اللامع والمدهون بالكريم ، وبدلة
الفرح السوداء التي اشتراها من البالة ، رغم أنها مستعملة لكنها تبدو جديدة وقد
غيرت شكله وقلبته رأسا على عقب ، وإن كان في جيبها الجانبي ثقب صغير لا يظهر لأحد ،
ثقب ابتلع قطعة نقود صغيرة إلى جوف البدلة ويئس فواز من التقاطه بعد محاولات عديدة
، فأحال أمره إلى وقت آخر ريثما ينتهي من مراسيم الفرح وطقوس ليلة الدخلة ، هذه
الليلة التي انتظرها من سنين طوال ، وكاد قلبه أن يتوّرم من أجلها .. فهو متشوق إلى
درجة أنه فكر بصرف المدعوين وتقديم عقارب الساعة ، كي يختصر الساعات ويصل بسرعة
إلى ليلة عمره .
ما أن أصبح فواز وعروسه سهير داخل بيت
الزوجية الضيق كعلبة السجائر ، حتى حملها بين ذراعية القويين والرفيعين كساقي خروف
، وبقدمه اليمنى بدأ خطاه متجها بها إلى غرفة النوم النظيفة والمرتبة بعناية ،
مبتسما ، وقد لاحت في عينيه نظرات لها بريق أخاذ .. بريق به دفقات من خفايا قلبه
ووراءه رعشة حياة ، وهي نظرات تقول كلاما فصيحا بلا أي كلمات ، وقد فهمتها سهير
وسبرت أغوارها .. من المؤكد أنها فهمتها .. فهي من الراسخات في معاني الصمت ، بل
ليس بمقدورها ألا تفهمها ، رغم ما غشيها من توتر ، وما حل بها من حياء .. فألذ
أنواع الكلام إلى قلبها وأفصحه إلى عقلها هو ذلك الذي لا يقال .. بل هي على يقين أن
للقلوب السنة لا تسمعها الآذان .
وضع كفا أسفل خاصرتها فوق عظمة الحوض ،
وكفا على كتفها ، وأمال رأسه إلى الأمام لينال قبلة ساخنة من فمها المنتظر بشوق ،
والملسوع بالرغبة ، لكنها رفعت رأسها قليلا بلا شعور منها ، فسقط فمه على أحد ثقبي
أنفها الصغير، فغرقت بالخجل الذي تلبد به وجهها الأسمر والمدّور كقرص البيتزا ،
وبالكاد ظهر على وجهها ابتسامة مكسوفة ، فطأطأت رأسها وقد أمالته قليلا إلى اليسار
، ليرتفع كتفها الأيسر قليلا عن كتفها الأيمن في محاولة منها لإخفاء الحياء وكتم
الخجل ، وراح هو بالضحك الواني ، المتبوع بابتسامات عريضات ملأت كل أصقاع وجهه
الطويل من أوله إلى آخره ، فبرز كل ما به من هضاب وتلال .. طبيعي أن يضحك الآن ،
فهو الذي كان يتمنى أن يصاب بعاهة العمى أو الطرش ، أو حتى أي عاهة ، في سبيل أن
يصبح عريسا لابنة حلال جميلة و طيبة مثل سهير .. ها هو الآن معها عريس لها بلا أي
عاهة ، وإن كان جسمه نحيلا كالمّسلة ، ورغم ما قاساه من شقاء عندما كان يجمع النقود
قليلها إلى أقلها حتى وصل إلى غايته ، ونال هذه الليلة المبتغاة .. فهو مثل بقية
شبان الحارة ، بالعادة يتزوجون ، وبالعادة ينجبون ، وبقوة إرادة الحياة يعيشون ..
هكذا هم .. يأخذون الدنيا غلابا .
دخل فواز إلى الحمّام ، ثم تخلص بسرعة
ولهفة من كل شيء يستر جسده النحيل ، لم يبق سوى ساعة يده المقاومة للماء ، التي
اشتراها من يومين بخمسة دولارات ، وأخذ بشدة يفرك أسنانه المتباعدة بالفرشاة
المغطاة بمعجون له طعم النعناع ، فأنعش فمه ورطب حلقه حتى أطراف بلعومه ، فأزال من
فمه رائحة دخان السجائر الساطعة كرائحة ألفنيك ، فصارت أسنانه تلمع مثل الزجاج
المغسول ، ثم مدّ يده و فتح صنبور الماء لينعم بحمّام ساخن ولذيذ ، كي يزيل ما علق
بجلدة الخشن كورق الصنفرة من عرق ، ويخفف ما يسري بجسده المنهنه من تعب .. بهمّة
أخذ يدعك جسمه بقطعة ليف جديدة محاطة بالقماش ، اشتراها خصيصا من أجل ليلة العمر
هذه ، فتغطى جسده برغوة الصابون وفقاعاته ، حتى بدا كأنه وسط كومة من القطن الأبيض
المندوف المستعمل في العيادات ، ثم راح يفرك رأسه بشامبو له رائحة الفراولة ومخلوط
بالفيتامين ، فخرجت الرغوة من بين أصابع كفيه كالعجين .. في هذه الأثناء على غفلة
منه بسبب تسرعه وقلة صبره ، تزحلق ووقع أرضا فارتطم رأسه بالحائط ، لكنه وقف ثانية
ميتا من الخوف كالملدوغ من عقرب ، ومقطوعة أنفاسه من الفزع والهلع ..
- يا سهير .. يا سهير .. أين أنت .
- نعم .. أنا هنا .
- لقد عميت .. لا أرى شيئا .. حتى أصابع كفي لا أراها .
- لا تقلق . الكهرباء .. لقد قطع التيار الكهربي .
- " الله يلعن أبو الكهربة على أبو يومها " .. وبعدين مع هذا الحال ! من سنين وأنا
انتظر هذه الساعة .. أشعلي شمعة !
لكن سهير حديثة العهد في هذا البيت ،
فلا تعرف أماكن الأشياء ، فأخذت تمشي بهدوء متخبطة و تتلمس الأشياء كالعمياء ، تحسس
بيديها في هذه الظلمة الحالكة لليل ساكت ، فشبك طرف فستان الفرح الأبيض الناصع مثل
اللبن الزبادي بطرف مسمار بارز في كرسي خشبي فشقه ، سمعت صوت تمزقه وكأنه شرخ في
قلبها ، فهو فستان مستعار بالأجرة لهذه الليلة المنتظرة من سنين ، فجلست جانبا
مستكينة ، صامتة ، كأنها تحصي أنفاسها اللاهثة المتقطعة ، وتبني على خديها بمناديل
من الورق الناعم سدودا تصد بها تيارات الدموع المتدفقة من عينيها الجميلتين .. على
حين أخذ هو يحاول بعصبية فتح باب الحمام ، الذي تعطّل ولم يفتح أبدا ، فقد خرب
الزرفيل .. وصار مثل الحمار الذي يحرن عن المشي .. ها هو الوقت قد جاوز منتصف الليل
بكثير ، والدنيا نائمة في عتمة داجية ، والنهار بعيد ، والصمت جاثم على الصدور ،
صمت لا يقطعه سوى صمت آخر هو صوت الليل الممطوط المعتم بإصرار عنيد .
وقع في يد سهير قطعة شمع بحجم عقلة
الإصبع ، فأشعلتها واستبدلت الفستان الأبيض بملابس أخرى .. بينما جلس فواز في
الحمام على كرسي بلاستيكي واضعا وركا فوق ورك ، بعد أن اضطر لارتداء نفس ملابسه
المتسخة بالعرق ، وأخذ يخفف عن سهير مصابها بالفستان المشقوق ، ووعدها أن يشتري لها
مثله عند خروجه بالسلامة من الحمّام ، رغم يأسه من امتلاك ثمنه في يوم من الأيام ،
إلا أن كلامه كان لقلبها بلسما ، فهدأت أعصابها بعد أن تأوهت تأويهة طويلة وساخنة
كالصهد .
بينما هو كذلك حثها على الاقتراب من
باب الحمّام ، وأخذ ينقر بطرف سبابته محددا بقعة تضع عليها خدها كي يقبلها من خلال
خشب الباب ، وأخذ يرسل قبلات لها صوت أشبه بزامور دراجة هوائية ، طربت لها سهير حتى
سرت في جسدها رعشة وأغمضت عينيها بوله هائمة كالمخدرة بالبنج ، وهو متيقن أن خدها
وفمها يقعان في المجال الحراري للقبلة .. ثم تسلل كفه إلى جيبه فعثر على حبتين من
الملّبس ، فأرسل إليها واحدة من تحت عقب الباب ، فهّرستها بلين بين فكيها ، أما هو
فوضع الحبة في فمه وأخذ ينقلها من جانب إلى آخر ويطرب لقرقرة اصطدامها بأسنانه ..
وتحفز للكلام فراح يحدثها عن المستقبل ورغبته بإنجاب ولد يعلمه الصحافة ، أو
المحاماة ، وأن يختار له اسما ناعما كالموسيقا الهادئة ، بينما عبرت هي عن رغبتها
بإنجاب بنت تختار لها اسمها وتعلمها المحاسبة ، ثم أخذا يضحكان كثيرا ، نوبات
متتابعة من الضحك الصاخب حتى أمطرت العيون .. لكن الصمت ساد من جديد ، فشعرت سهير
بالوحشة ، مما اضطره إلى مؤانستها بالمزيد من الحديث الجميل عن المستقبل ، وأخذ
يقول لها نكات جعلتها تضحك حتى سالت على خديها قطرات الدموع باردة كحبيبات الثلج ..
لكن ذلك لم يمنعها أن تسأله ..
- إلى متى سنبقى بلا كهرباء ؟
- إلى أن تمدنا إسرائيل بالوقود .
- ومتى ستمدنا إسرائيل بالوقود ؟
- عندما .. لمّا .. الله اعلم !
بدأت الشمس ترسل أولى خيوطها .. نادت
سهير أحد الجيران ليكسر باب الحمام ، فكسره وعاد مسرعا ، فخرج فواز من الحمام
كعصفور فلت من قفصه ، فتمتمت سهير بأرق : حمدا لله على سلامتك ، هيا ننام .. فحملق
بها فواز وضمها إلى صدره بعد أن أخذها بين ذراعيه ، وزعق زعقة قوية مدهشة : ننام ..
أي نوم .. قال نوم .. الآن بدأت ليلة الزفاف .