من يوميات حكيم بيطري
أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر
-1-
عادت للتو من سفرها، فلما علمت بالأمر، اتصلت تبكي بحرارة:(لا أستطيع أن أعيش بدونه، ولا أتصور كيف ستنتظم أمور حياتي إذا غاب عني"). وتابعت:("إنني لم آكل منذ أيام لأنه لا يأكل.. إنني أحبه، وعاش معي فارتبطت به كثيرا، لكن زوجي لا يشعر بما أشعر به نحو "بيللي"). إن مشاعره كمشاعر كثيرين.. لا ولم تختلف عنهم". تابعت تقول: "إن الناس والنقود تذهب وتعود ولكن إذا ذهب "بيللي" فلن يعود مثله، سأعاني كثيرا بفقدانه. افعل كل ما في وسعك عمله، وإذا ما كان هناك من أمل فالأفضل أن ..... وتوقفت وأجهشت في البكاء، وعلا صوت نحيبها عبر الهاتف.
عاني "بيللي" لعدة أيام من مشكلة حادة بجهازه البولي، منعته الأكل والشرب إلا لماماً، مع وجود مغص كلوي ناتج عن انسداد جزئي في مجري البول. مما ترتب عليه احتباسا للبول في مثانته، استلزمت ـ مؤقتا ـإجراء " قسطرة"،دورية كي لا تنفجر المثانة، أو يحدث تسمم بوليني، بيد أنها ـ أي القسطرة ـ ليست الحل النهائي الذي يتطلب تدخلا جراحيا لتغيير مجري البول، وأجراء فتحة بديلة يتم التبول من خلالها. لقد كان "بيللي" يعاني شأنه شأن كثير من ذكور القطط من مشكلة بجهازه البولي، والتي لها مضاعفات خطيرة علي حياته، وقد كان، فبعد أن عاش ما يقرب من تسع سنوات "كطفل مدلل" لا يوجد غيره، لدي سيدة لم تنجب أطفالاً، (أو ممن فاتهم قطار الزواج)، فكان هو "طفلها البديل الوحيد" Only Child Substitute كما كانت تذكر كثيرا، وتعبر وتؤكد عن ذلك مرارا وتكراراً. لعلها "شراكة/ تبادل" من نوع خاص، كانت تمنحه الحب والاهتمام والرعاية، ويعطيها شعوراً نسبياً "بالأمومة" المفقودة، جوهر كيانها، والمتميزة به علي زوجها المشغول في عمله وأعماله، لذا كانت تحبه أكثر منه.
-2-
جاء.. لاهثا ومستنجداً!.. جذبني بهيئته، وحالته التي هو عليها، مجموعة من تناقضات، وما أكثر التناقضات الطاغية علي مجتمعاتنا، رث الهيئة، ما ينكشف من جسده اكثر مما يستتر، غريب تضاريس الوجه والجسم، عيناه غائرتان في جمجمته، ومع ذلك فنظراته قوية وحادة، انفه الطويل المدبب ..اجمل ما في وجهه، ولعله ورثه عن أحد آبائه أو أجداده، فمه الضخم المتهدل المتدلدل، ومع ذلك يحمل ابتسامة تنم ـ إن أنت عشت في معناهاـ عن أشياء كثيرة أهمها الرضا. الرضا عن كل شيء، والرضا حتى عن لا شيء، فهو راضي، واسمه أيضا "راضي"، يعمل قائداً، ليس لطائرة أو قطار أو حافلة،.. بل هو يعمل بالكراء، وله رفيق، يصفه راضي بقوله:"هو كل ما لدي في الحياة، اعز صاحب وافضل أنيس، رفيق الصباح والمساء، ننام معا، ونستيقظ معا نأكل، معا ويشربان معا، لم نختلف يوما من الأيام، أعرف ما يريد، وهو يعرفني حق المعرفة، فقد لا يعرفني الناس، وكفي معرفته لي، نتفاهم بلغة لا يعرفها الآخرون، لذ احبه حبا لا حدود له"، ولا أدري، يا سعادة البيه الدكتور، هكذا يخاطبني. لماذا رفيقي هذا مظلوم مع الناس ومن الناس، مع أنني احبه، وأنا.. ألست واحدا من الناس؟، و لماذا يحتقرونه، مع انه يقدرهم ويحبهم، ولماذا يلوثون اسمه ويقحمونه عندما يذمون مخطئا". سمعته ـ إذ أن جل مهمتنا أن نسمع ونستمع لشكوى الجميع، فلما فرغ من "شجونه" تلك، أدركت إن له عقلا، وحكمة تختفي خلف هذه الهيئة الرثة، وسألته: ما هي المشكلة إذن؟.
- بنبرة أسى وحزن دفين أجابني: رفيقي مريض منذ مدة، وجئتك لتعالجه.
- ماذا شاهدت عليه من تغير؟.
- لم يشتك بأي عضو من أعضائه، غير أنه لم يعد يأكل بشهية مفتوحة كما كانت عادته دوما، فاصبح هزيلا شاحبا، لا يقوي علي الوقوف، وقد كان يسير بالساعات دون كلل أو ملل!.
- وأين هو، ولماذا لم تحضره معك كي أعاينه؟.
- خفت عليه طول المشوار، يا دكتور، جئت أتأكد من مرضه أولا، ثم أحضره إليك؟.
- وكيف لي أن أقوم بتشخيص مرض لم أعاين صاحبة، فضلاً عن أن أصف له دواء؟.
- يا دكتور اصل مرضه غريب، يا تري ـ يا حبيبي ـ عندك إيه؟.
- أحكي لي يا "راضي" عن الأيام الماضية قبل انقطاعه عن تناول الطعام؟.
- لا شيء غير ما ذكرته لحضرتك، لا يتناول سوي الماء، انقطع عيشنا، وتوقفت مصالحنا، منذ مرضه، فهو يرقد، ليس لديه رغبة أو قدرة علي العمل.
- هل أهانته، أو ضربته، أو أثقلت عليه في العمل؟.
- لا.. أبدا "سعادتك"، عمر يدي ما امتدت عليه، كنت قطعتها، لو فعلت ذلك!!.
- حتى أنني زوجته، وأحضرت له "أنيسة"، لظني أن عدم زواجه هو السبب في علته؟.
- وماذا حدث بعد زواجه؟.
- كما هو، بل ازدادت المشكلة سوءً!.
- نسيت أن اذكر لسيادتك أنني كنت اشتريت "مسجل"، يسليه ويسليني طوال عملنا، وكدنا اليومي، ونستمع من خلاله لـ"شرائط الكاسيت" الكثيرة المنتشرة هذه الأيام، اللي حضرتك عارفها.
- صحت قائلاَ: أكيد هذا هو السبب، فلا يوجد سبب عضوي يجعل حمارك يضرب عن الطعام إلا هذا. فهذا هو التغيير القاسي/ المُزلزل الذي طرأ علي حياتكما، أنت و"جلجل".
ورجعت إلي نفسي: "هذه حاله غريبة ونادرة"، علي كثرة مما مر بي من حالات،وخبرة تلك الأعوام الطوال.. لم تتناولها مراجعنا الطبية المختصة، لذا فبادرته: يا عم "راضي" أترك لي عنوانك، ولسوف أمر عليك باكرا، بإذن الله، كي أعاين "جلجل"، وأعالجه. رايته "جلدا يكسو عظماً"، راقدا يئن علي الأرض، و"لو كان يدري ما المحاورة.. لأشتكي"، فأسرعت بإعطائه فيتامينات ومقويات وأملاح ومحاليل عبر الوريد، لتعويضه عما فقده، وأخذت بيد "راضي": وربت علي كتفه.. علاج "جلجل" الوحيد هو انك تبيع المسجل الجديد!
- اندهش الرجل وقال مستغربا: يا دكتور هو ده العلاج؟، أنا عملت كل هذا من أجله!. حتى أنني لما لم يجدّ جديد، ولضيق ذات اليد اضطررت لبيع زوجته "جلجلة".
- لأول مرة يا "راضي" لم تفهم صاحبك ورفيقك "جلجل"، جرب ما قلت لك أياما، ومُـرّ علي بعد أسبوع، وأخبرني بالنتيجة؟.
- وضع يده علي رقبته قائلاً: "رقبتي فدي حبيبي".
- مضت أيام، وفوجئت بعم "راضي"، مقبلا عليَّ مبتهجاً، بينما حماره "جلجل" يعدو عدوا، ويركض ركضاً، نهاباً الأرض نهباً، وقد دبت الحياة في أوصاله، وتفتحت أوداجه، وبالتالي فقد "رضي راضي" عن الحكيم وعلاجه الفريد، أما أنا فقلت في نفسي: الآن تأكد تشخيصي، وسأفرد "تقريراً عن تلكم الحالة النادرة" في مقالة بإحدى الدوريات الطبية السيارة.
-3-
لبي استدعاء أسرة عريقة مرموقة ذات مكانة، وسطوة. ربت الأبناء، فتسنموا المناصب، والمكانات العالية، وذهبوا في الأرض كل مذهب فمنهم من هاجر، ومنهم من ينتظر، ومنهم من استقر. سمع الشكوى، وتأمل المكان (شقة فخمة فسيحة، أنيقة، بعمارة عريقة)، تجد فها الأثاث الفاخر، والتحف جاذبة، واللوحات بارزة، والإيقونات بادية..سمع، وأنصت، وأجري فحوصه علي هذا الذي أمتنع عن الطعام، وبدا عليه الإعياء والهزال، مصوباً نظره، ورأسه نحو سرير سيدة البيت. "علي مدار نحو ثمانية عشرة عاما، لا يأكل إلا من صنع يدي، وأنا معتلة بعض الشيء لم أقو علي أعداد طعامه، فأضرب عنه، حتى أشفي وأعد له طعامه بنفسي". لم يتصل أي من أبنائي أو بناتي بي ليطمئن علي أو علي والدهم.. وهو كما تري وتشاهد.. استوعبنا إقامته داخل شقتنا ، نظرا لشيخوخته مثلي". أمده بما يلزم من إسعافات، وسوائل لترويتهن وأجرس قسطرة لمثانته.. حركته قليلة وبصعوبة، يعاني من "النقرس" .. داء/ مرض الملوك (لكثرة تناول اللحوم/البروتينات).
رجع بفكره فتذكر ذلك الشيخ الهرم، ذو (الشق الرغامي في قصبته الهوائية، وبيده جهاز يصدر أشارات صوتية يعبر بها عما يريد) وقد صحبه أحد أبنائه، وثلثهما الرفيق المؤنس للشيخ الهرم في وحدته منفردين، "فالأبناء يعيشون حياتهم" ويكفي أنهم لم يضعوه في نزل المسنين. الواقع المعيش بات يفرض عزلة كبيرة على بعض الأفراد، وقد تمثل الحيوانات/ الطيور الأليفة المستأنسة (كلابا وقططاً، خيلاً أو حميراً أو عصفوراً الخ) شخصا/ موضوعا يتم التحدث إليه وعنه والتواصل معه، ممن يعيش وحيدا، أو لمن فقد رعاية أبنائه، أو لمن فقد الصديق والرفيق وشريك العمر أو قد تشكل ذكرى للأرامل والمطلقات والشيوخ.
بعد عدة أيام ـ لا يمكن تذكر عددها تحديدا، ولعلها سبعة ـ استدعته ذات الأسرة العريقة وقد حسمت أمرها، رأفة ورحمة بـ "تيجر" قررت إجراء "قتل الرحمةEuthanasia " وليدفن في "مقابر الكلاب" بحدائق أحد النوادي المرموقة.. وقد كتبت الأسرة علي شاهد القبر .."هنا يرقد من أعز الأصدقاء المخلصين الأوفياء".