لكل باب مفتاح
م. محمد حسن فقيه
كان وقع الخبر عليه شديدا كالصاعقة ، لقد كان بالنسبة إليه نبأ مفاجئا وغير متوقع البتة وخارج دائرة الإحتمالات ، لقد كان آخر ما يتوقعه أن يرفض له مثل هذا الطلب ، ولم يرفض ؟ !
أصابه هم ثقيل أغلق عليه منافذ تفكيره وشلّ إرادته ، إكفهرت الدنيا أمام عينيه وأسودت في ناظريه ، وأصبحت الحياة الدنيا بالنسبة إليه كما هائلا لا تساوي قشة ، فما قيمتها وقد سلبه هذا الخبر أحلامه الوردية التي سمح لخياله الجامح أن يحلق بها بعيدا ، ويرفرف بأجنحة من حرير ، ويطوف بها آفاق الدنيا السبع ، ويتقلب بأحضان السعادة والهناء ، ثم ليخطف منه أروع أنواع الفرح والبهجة ، ويكتشف بعدها أخيرا بأنها مجرد أحلام واهية .
إنه لا يكاد يصدق ما يسمعه ، أن يرفض طلبه ، ما العيب فيه حتى لا تقبل مصاهرته ؟ .
الأستاذ عادل مدرس لمادة الرياضيات في ثانوية الكرامة ، وهو مدرس ناجح وجاد ، كفوء ومتمكن من مادته ، وقد استلم رسائل الشكر والتقدير من الوزارة أكثر من مرة ، نظرا لتفوق طلابه الذين يدرّسهم في الشهادة الثانوية وتميزهم على باقي المدارس .
نجمه محبوب بين الطلاب ، ويتمتع بشعبية قوية داخل المدرسة وخارجها ، لما يتصف به من خلق عال ، وأدب رفيع ، ودين قويم ، وحسن تعامل ومعشر، وطيبة ولين جانب ، وحياء جم ، وكل هذا مع شباب نضر ، وبهاء ساطع ، وحسن بشر، ومحيا طلق ظاهر البشاشة ، ووسامة وقسامة تحلم بها بنات الذوات والسادة ، وفوق كل هذا فهو من عائلة كريمة المحتد ، لها اسمها ومركزها المرموق بين جميع العائلات في مدينته .
أما فتاة الأحلام التي شغف بها قلبه ، وشغلت باله ، وسلبت تفكيره ، فهي الأستاذة أمل ، مدرسة اللغة العربية في ثانوية البنات المجاورة لثانوية الكرامة ، مدرسة موهوبة ، قديرة ومتمكنة في مادتها ، تسحر طالباتها بطريقة إلقائها ، وقوة شخصيتها ، وجمال أسلوبها ، ورخامة صوتها ، وعذوبة ألفاظها .
وهي فتاة فيها كل المواصفات التي يفكر بها الشاب الطموح لتكون عروسه وفتاة أحلامه ، لما فيها من أدب ودين ، وخلق حسن ، وحشمة وحياء ، أما جمالها الأخاذ من قوام منتصب ، وصدر كاعب ، وعينان خضراوان ، وثغر نضيد ، ووضاءة وملاحة ، فهوسبب آخر من سر الانجذاب الداخلي من الأستاذ عادل إليها .
إنه يعلم حق المعرفة بأن الأستاذة أمل تقابله هذا الإعجاب بإعجاب لا يقل عنه ، كان يقرأ ذلك في نظراتها العجلى الخجولة عندما يلتقي بها كل يوم تقريبا وهما في طريقهما إلى المدرسة ، فهو قد عرف مواعيد وصولها بالسيارة ونزولها منها كل صباح - قادمة من قريتها المجاورة - عند رأس الشارع الذي يتجه إلى مدرستيهما ، فيسير قريبا منها أو يتجاوزها أحيانا ليشعرها بوجوده ، وهو
يرمقها بنظرات الرضا والإعجاب ، وما إن تلتقي نظراتهما العطشى حتى يشعر كليهما برعشة عذبة في داخله ، ينتفض لها قلبه ، ويهتز لها كيانه ، يكتمها الحياء والشعور بالخجل ، فيعطف كل منهما وجهه إلى الجهة الأخرى ، ويسرع في سيره خشية من نظرات الطلاب والطالبات أن تكشف هذا الإعجاب الداخلي والذي يصل إلى حد الإكبار والإنبهار لكل منهما بالآخر .
كما أنه على يقين تام من موافقتها على خطبته ، فلقد أرسل أخته الصغرى مها الأسبوع الماضي والتي تعمل مدرسة معها في نفس المدرسة لمادة العلوم ، تسألها عن رأيها صراحة في أخيها عادل لو تقدم لها بشكل رسمي ، فاعتراها الخجل ، وجللها الحياء ، واحمرت وجنتاها المتوردتان وهي تهمس بصوت خافت : الأمر بيد والدي .
وعندما ألحت عليها الأستاذة مها بأنها تريد أن تسمع رأيها صراحة لنقله لشقيقها قبل أن يتم أي تحرك رسمي في هذا الإتجاه ، فهزت رأسها علامة الموافقة وانسحبت مسرعة تواري خجلها .
وحقيقة يعود الفضل إلى أخته الأستاذة مها في لفت نظره إلى الإهتمام بالأستاذة أمل مما ذكرت أمامه عن شخصيتها وأدبها وأخلاقها ، وجدارتها في تدريس مادتها ، وإعجاب الإدارة بها ، وانبهار الطالبات بطريقة تدريسها وإلقائها وشرحها ، فضلا عن حبهم لها وتعلقهم بها لسعة صدرها وطيب معاملتها ودماثة أخلاقها .
وبالمقابل كان للأستاذة مها أيضا الدور للفت نظر الأستاذة أمل للتفكير بالأستاذ عادل والشغف به مما كانت تتكلم أمامها عن أخيها : شخصيته وجديته وأخلاقه واتزانه و....
ولم تكن الأستادة أمل بالحاجة لأن تسمع الكثير عنه ، فهو يدرّس بالثانوية من أكثر من ست سنوات ، وسيرته معروفة عند جميع الطلاب والمدرسين ، بل وعلى مستوى مديرية التربية والوزارة ، بالإضافة إلى كونه من نفس المدينة وينتمي إلى أشهر عائلاتها .
من هنا بدأ الإعجاب المتبادل بين الطرفين ، ثم بدأ ينمو ويتطور حتى تعلق وغرم كل منهما بالآخر ، ولم يعد أحدهما يظن أنه يستطيع أن يستغني عن الآخر ، بل ورسخ شعور داخلي في نفسيهما ، بأن كل منهما قد خلقه الله للطرف الآخر ! .
بعد أن وصلت الأمور إلى هذا المستوى بالأستاذ عادل من الإعجاب ، بل من الحب والذوبان ، فاتح عائلته بالأمر وأفصح عن نيته لخطبة تلك الفتاة ، ومع أن أخته مها كانت الساعد اليمين له في ذلك ، وكانت السبب المباشر في تذليل كثير من الأمور والصعاب ، وتسهيل العقبات ، إلا أنه لقي بادئ الأمر معارضة شديدة في ذلك من والدته - الشبه أمية - متذرعة بعدم التكافؤ الطبقي
والإجتماعي ، فتلك الفتاة لا تعدو بحسب نظرها أنها إبنة فلاح مزارع فقير من قرية صغيرة .
وأما والده فقد التزم الصمت ولم يعلق كثيرا وإن كان يظهر عليه عدم الرضا والموافقة ، رغم
ما قاله له أخيرا : إن كان هذا الذي ترتاح له وتراه مناسبا فافعل ما تريد يا بني ، فأنا في النهاية لا يهمني غير سعادتك .
من ثلاثة أيام يوم الخميس الفائت ذهبت إلى منزل الأستاذة أمل ، كل من أخته الأستاذة مها ووالدته بعد أن ضغطت هذه الأخيرة على مشاعرها ، ضاربة برأيها عرض الحائط ، نزولا عند رغبة إبنها عادل بل وإلحاحه الشديد ، وذلك لتمهيد الأجواء وشرب فنجان القهوة كما يقال بحسب العادة والأعراف ، وحتى ترى حبيبة القلب عن قرب وتأنس بها ، ومن ثم عرض الأمر على والدة الأستاذة أمل وطلب يدها قبل خطبتها رسميا وإرسال" الجاهة " .
رحبت الأم والدة الأستاذة أمل بوالدته وأخته ترحيبا شديدا ، واستقبلتهما بحفاوة في بيتهم المتواضع ، وبالغت في تقديرهما واحترامهما ، ولم تقصر في ضيافتهما وإكرامهما ، وقد كانت والدة الأستاذة أمل إمرأة فطرية طيبة ، دمثة الخلق ، سهلة الشمائل ، لينة العريكة ، وقد ربت إبنتها أمل على هذه الشمائل والصفات الحسنة ، من الكرم والأخلاق واحترام الأخرين وتقديرهم ، فشعرت والدة الأستاذ عادل بارتياح كبير وانقلبت الآية عندها من النفوروالضيق إلى الرضا والإنشراح ، وتحمست للأمر وطلبت يد الأستاذة أمل لإبنها الغالي عادل ، ورحبت والدة الأستاذة أمل وأبدت موافقتها ، وكذلك كانت موافقة العروس أمل واضحة جلية ، وإن كانت حقيقة قد طارت بهذا الخبر ، وكانت أسعد كلمة سمعتها في حياتها ، إلا أنها ضبطت من نفسها وكتمت بعض مشاعرها ، وتظاهرت برباطة الجأش حتى لا تفضح نفسها أمام والدتها ووالدة الأستاذ عادل ، وانصرفت بعد ذلك والدة الأستاذ عادل وأخته مطمئنتين بعد أن أخذتا موافقة الأستاذة أمل وأمها ، ولم يبق غير موافقة والدها كما بينت لهم والدة الأستاذة أمل ، وأنهم سيعرضون عليه الأمر ويستشيرونه ليلا ، ثم يردون عليهم الخبر يوم الغد أوبعده .
مر يوم الجمعة على الأستاذ عادل بطيئا متثائبا مملا ، ينتظر الخبر من الصباح قبل الصلاة ، ثم توقع أن يكون الرد بعد صلاة الجمعة ، ثم توقع أن يتم الإتصال ويزف إليه الخبر السعيد ليلا ، إلا أنه لم يصلهم أي اتصال ولم يبلغوا بأي رد حتى آخر الليل فذهب إلى غرفته متعبا ، مهموم النفس ، نكد المزاج ، ساهم النظرات .
تمدد على سريره وأطفأ النور إلا أن الكرى لم يداعب جفنيه ولم يعرف النوم إليه سبيلا ، حتى انفلق الفجر وتنفس الصباح ، ومر اليوم الثاني أكثر بطء ومللا ، وأشد ضيقا وهما ، وداهمته خواطر شتى وفكر أن يرسل بأخته لستقصي له الخبر ، أو حتى أن يذهب بنفسه ويسأل أباها عن موافقته ! .
في اليوم الثالث وبعد أن تجاوز الأمر حده ولاحظت أخته حالته من همّ يطبق عليه ، وشرود
يسيطر على جميع تصرفاته وحركاته ، ومابه من وجد أضناه وبرّحه ، وغرام أسقم هذا الصب المتيم ، وحوله إلى كتلة خامدة ، هامدة وجامدة .
وعدته أخته بأن تأتي له بالخبراليقين من الأستاذة أمل فلا بد أن تراها بالمدرسة اليوم وتفهم منها الأمور ، وليكن أمله بالله كبيرا ، فليصل ركعتين ويستخرالله ، ويؤمن بأن ما سيقدره الله له هو الخير .
لم يكن بحاجة ليسمع النتيجة التي ينتظرها بعد أن تأخر الرد ثلاثة أيام بلياليها الطويلة الموحشة التي لم يعرف فيها طعم النوم ولم يغمض فيها جفنه ، ربط الأمور مع بعضها وأيقن أن العقبة عند والدها ذلك المزارع المزاجي البسيط ! .
وفعلا قد صدق حدسه كما روت له أخته عصر اليوم بعد أن التقت مع الأستاذة أمل وسمعت منها أن المشكلة في والدها ، فهو غير موافق على هذه الخطبة ، وليس هناك من أي سبب ذكره معللا هذا الرفض ، وقد باءت جميع محاولات أمها لإقناعه بالفشل ، حتى صرخ أخيرا بعصبية لقد تم إغلاق هذا الموضوع ، والأمر غير قابل للنقاش ! .
سأل أخته بصوت خفيض ونفس منكسرة هدها الجوى وأرّقها الوجد والهيام : هل انتهى الأمر إذن ؟ ! هل ضاقت الحيل ، وانقطع الرجاء ، وفقد الأمل ، ثم أطلق زفرة آه طويلة حملها كل وجده وآلامه ، ممزوجة بخيبة أمل ويأس كبيرين .
- تماسك .... شد من عزيمتك .... كن رجلا .... وليكن يا أخي إيمانك بالله قويا ، واعلم إن كانت أمل من نصيبك فلن تستطيع الدنيا بأسرها الوقوف بوجهك ومنعها عنك .
- أجابها بعد أن أثرت فيه هذه الكلمات ،ونفثت في نفسه بعض الأمل ، ولامست شغاف قلبه ، فشد من عزيمته قليلا ، وتنحنح ليرفع من وتيرة صوته الخفيض المبحوح قائلا : أترين أن الأمل مازال موجودا ؟ !
إنه مستعد للجري خلف بصيص ضوء ، أوالتعلق بقشة والتمسك بخيط عنكبوت ، وها هي تقول نافذة أمل أو حبل !
سألها بلهفة : وأين تلك النافذة وذاك الحبل الذي تتكلمين عنه ؟
إن لوالد أمل جارا في قريتهم وهو صديق عمر طويل لوالدها وله دالة عليه ويؤثر فيه ، يدعى أبو سليم ، وهو رجل بسيط مثله ، يجمعهما مغامرات الصيد التي يخرجان إليها سويا في فصل الربيع، إضافة إلى السهرات الطويلة التي يقضيانها معا قرب المدفأة في الشتاء ، وأحاديثهم عن
أيام الصبا والطيش ، فهل لديك الإستعداد لترسل له وتستشيره أو توسطّه لهذا الأمر؟ !
أجاب على الفور بعد أن هزّه الأمل وأوقد في نفسه العزيمة : ولم أرسل له ؟ ومن سأرسل ؟ بل سأذهب إليه بنفسي ! .
خطف العنوان من يد أخته التي دونته لها الأستاذة أمل ، ونهض مسرعا يجهز نفسه لمقابلة المنقذ أبي سليم .
قدم له أبو سليم كأس الشاي المعتق بلون العندم والبخارالساخن يتصاعد منه ببطء ويتلوى كأفعى ويرسم دوائر ومنحيات تتبدد في الأعلى وهو يقول : تفضل يا أستاذ عادل أحلى كأس شاي " أكرك عجم " من يد أبي سليم .
طافت في خياله هذه العبارة وهو يمد يده ليتناول الكأس من يد أبي سليم ، همس في نفسه بل ستكون أحلى .. وأغلى .... وأعز كأس في حياتي كلها ، لو صدقت مشورتك وآتت أكلها .
- وها قد جلسنا منفردين لوحدنا ، فما الأمر الذي تريد أن تستشيرني به يا أستاذ عادل ، والله إنك لتمزح وتسرح بي قليلا إن لم تكن تسخر مني تهزأ بي ! الأستاذ عادل بطوله وعرضه ، وقدره ومقامه ، إبن الناس والأبهة والذوات ، يريد استشارة أبوسليم المزارع ؟ !
إسترد الأستاذ عادل بعض حيويته ودعابته فأجابه ممازحا : بل أريد معونة السيد أبي سليم كبير الصيادين ! ثم قص عليه قصته وطلب منه التدخل عند والد أمل أبي خالد ليقنعه ويثنيه عن رأيه ، بعد أن يعرف منه سبب الرفض أو عدم الموافقة على الأقل .
هز أبو سليم برأسه وقد أطربته تلك المداعبة وكلمات الإطراء والمديح ثم قال : أعرف أنه عنيد ورأسه يابس ، ولكن سأروضه وألينه له ، فإن أصر فسأكسر لك رأسه ! .
- لا يا أبا سليم إلا الكسر ! بل روّضه .... داريه وسايسه بالإقناع والحجة ، وسأكون شاكرا لك وفي غاية الإمتنان ، ولن أنسى لك هذا الجميل أبدا ما حييت .
- لا عليك يا أستاذ ... دع الأمر لي وكن مطمئنا ، ولن يحصل إلا الخير إن شاء الله .
ودّع الأستاذ عادل أبا سليم وانصرف بعد أن أعطاه رقم هاتفه ، وكله أمل أن يفلح أبو سليم في إقناع والد أمل أو ترويضه لتغيير رأيه .
لم ينتظر أبو سليم إلى الغد فخرج على إثر الأستاذ عادل متوجها إلى بيت صديقه أبي خالد والد الأستاذة أمل مع أن الوقت كان متأخرا قليلا لكن ليس بين الأصدقاء والأحباب هذه الرسميات . وبعد أن جلسا وتباسطا وشربا الشاي وتبادلا الضيافة بلفافات التبغ كل منهما للآخر ، وبعد أن تجاذبوا أطراف الحديث وتحدثوا عن الأيام الخوالي ، وخاضوا في مواضيع الصيد ، عن الحجل والسمان ، والأرانب والثعالب ، والفري والزرازير ، وشعر أبو خالد بالسعادة والإنشراح وكادت السهرة أن تنتهي اتجه أبو سليم نحو أبي خالد :
- لقد تكلمنا عن الماضي مافيه الكفاية فما في هذه الدنيا من جديد وآخر أخبارك ؟
- نفث أبو خالد دخان لفافته : تسأل عن الدنيا إنها تسير كما عهدناها شئنا أم أبينا .
- ها هي الدنيا تسير كما كانت ليس بها من جديد ، فما أخبارك أنت ؟
صمت أبو خالد قليلا ثم رفع رأسه وبعد أن سحب نفسا طويلا من لفافته : كنت أفكر أن أستشيرك في أمر .
- خيرا يا أبا خالد .
- لقد تقدم أحد أبناء المدينة لخطبة إبنتي أمل ! .
- الأستاذة أمل زينة القرية وقدوتها ولا تستحق إلا كل خير، فمن هو صاحب هذا الحظ السعيد ؟
- مدرس في المدينة يدعى الأستاذ عادل ومن عائلة آل هلال باشا ، فهل تعرفه ؟
- قال أبو خالد بحدة ونزق وهو يضرب الأرض بقبضته ولكني لم أوافق على الخطبة .
- يا لك من غبي أحمق ! ........ ولما لم توافق ؟ !
- هل كنت مخطئا في قراري ؟
- بل كنت مجرما في خطئك .
- ولم ؟
- لأنه لا يوجد سبب واحد في تقديري يستدعي الرفض .
- ولكنك لم تسمع وجهة نظري .
- هاتها .
- هؤلاء أناس أبناء عائلات وذوات ، ونحن أناس بسطاء ، سوف يأخذونها جارية وخادمة لهم وليس زوجة ، سوف يعيرونها بنا كلما اختلفوا ، ومن ثم ماذا سيقول الناس عني .... باع ابنته ...
- بل الذي سيقولونه إن الأستاذة أمل درّة مكنونة لا تقدر بثمن ، وقد جرى خلفها أبناء الذوات لأن أخلاقها وجمالها لا يليق بأقل من ذلك ، ثم استطرد أبو سليم قائلا بل سأقول لك ما سيقول الناس لو علموا برفضك من هذا الشاب الذي لا يعاب عليه دين ولا خلق فضلا عن مكانته ومكانة عائلته الإجتماعية ، سيقولون لم يرض أبو خالد بتزويجها حتى يمتص دمها ، ويستأثر بمرتبها ، ويبقيها عنده خادمة وعانسا كل حياتها .
- صرخ أبو خالد وقد ثارت ثائرته وخرج عن طوره : مستحيل أن يحدث هذا .... أنا ....
- وأنا أقول هذا مثلك مستحيل لأني أعرفك ، ولكن أين ذلك المنصف من الناس الذي يعرفك مثلي حتى يقول مثلي ومثلك ؟ وأما ما تفضلت به عن البيع والجارية والتعيير فما هي إلا أوهام ، فهم الذين أتوا إلى بيتك يطلبونها ولم تعرضها أنت ، وهل أختلفتم على قيمة المهر حتى يقولون باعها واشتراها ؟ ومن ثم إن الشاب صاحب الدين والخلق الذي يطلب فتاة لتكون زوجة له وأما لأولاده ، فكيف يعيرها وبم يعيرها ؟
- إن ألسنة الناس لا ترحم !
- إن ألسنة الناس لن ترحمك لو أنك رفضت مثل هذا الأمر ، ودعنا من أمر الناس وأقاويلهم لك
أو عليك مما تظنه ، سواء كان سيحصل أو لا يحصل ، ولننظر إلى المصلحة الحقيقية وما يأمر به الدين والعرف .
- وبماذا يأمرالدين والعرف ؟
- "إن أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" فهل لديك إعتراض على دينه وخلقه وشخصه ؟
- لا .
- فهل رفضته إبنتك وأعربت لك عن ذلك ؟
- اللهم لا .
فعلام تقف حائلا بين سعادة شخصين بسبب أوهام مريضة لا أصل لها ، وتمنع تكوين أسرة ولبنة صالحة في هذا المجتمع ، بل وقد تجر عليهما شقاء وتعاسة لا يمكن إصلاحها ، فالزمن لا يعود إلى الوراء ، والفرصة قد لا تتكرر مرة ثانية .
- فما ترى يا أبا سليم ؟
- لا أرى غير الموافقة .
- وهذا ما تنصحني به ؟
- بالطبع ، وهل ترانا نمزح أم نتكلم عن الصيد وأيام زمان ! وبلغ أم خالد والأستاذة أمل بذلك الآن وحالا .
- هذا الأمر بسيط ولكن كيف سيقبل آل هلال باشا أن يعودوا بعد أن كسرنا بخاطرهم ، ولم نبلغهم بردنا .... والله لقد كان تصرفا غبيا وأحمق مني كما ذكرت يا أبا سليم .
- لا عليك يا أبا خالد ، الرجوع عن الخطأ فضيلة ، ودع هذا الأمر عليّ ، فسوف أعالجه بطريقتي ، ولكني أريدك أن تدخل مباشرة إلى أهلك فتبلغهم موافقتك وتعتذر لهم عما حصل .
أمرك يا أبا سليم ... كم كنت أحمق عندما تسرعت في الرد قبل أن أستشيرك .
استأذن أبو سليم مودعا ومنصرفا ، وأسرع أبوخالد ليقدم بخجل وندم خبر موافقته إلى زوجته وابنته أمل ، ويعتذر لهما عن سوء تصرفه وتسرعه في رفضه ! .
بينما كان أبو سليم يتجه مسرعا ليتصل بالأستاذ عادل مبشرا ومهنئا بالخبر السعيد ، فنزل عليه الخبر بردا وسلاما ، ورد له روحه لتنبض بين جنبيه ، وسمع خفقات قلبه ووجيبه يضرب بعنف في صدره ، وقد غمرته البهجة والسعادة ، بعد أن كان يتقلب على أتون ملتهب وينتظر على أحر من الجمر .
ثم أسرع في تجهيز نفسه ليذهب إلى أبي سلبم طائرا على جناح السرعة بسيارته ، ليسمع منه مباشرة الحديث الذي دار بينهما بالتفصيل الطويل والغيرممل ، وكيف أقنع ذلك المزاجي وروّض ذلك الرأس الناشف ، ويقدم له جزيل شكره وعظيم امتنانه على هذه الخدمة الجليلة ، ويقبله بين عينيه ، ويبلغه ليكون أول المدعوين إلى جاهة الخطبة مساء الغد .