امرأة شرقية

جوتيار تمر

لملمت أغراضها ..دخلت خلسة غرفة أخيها تلقي نظرة على ابنه الذي كان يحضن يد والده كأنما يحضن دميته .. اقتربت منه .. قبلته .. عادت أدراجها .. وهي في أعماقها تردد .. ترنيمة خالدة لشاعر خالد .. آه.. (( أيها الطفل يالهناءتك وأنت تقتعد التراب لاهياً بغصن قصيف ، طوال النهار  .. إنك تخلق من أي شيء تجده دمىً سارةً ، أما أنا فأنني أُبدد قواي ووقتي بحثاً عن الأشياء التي لن أستطيع الفوز بها .. )) وبهذه الترنيمة بدأت صباحها .. كانت الإشراقة التشرينية قد غزت ذلك الطرف من المدنية التي تسكن هي فيه .. وبدت وكأنها تبشر بيوم غير عادي في كل شيء ، نظرت إلى غرفتها ..

 وبدأت تتحسسها شبراً شبراً.. إنها متيمة بكل شيء فيها .. وقفت أمام نافذة الغرفة .. تأملت ذلك الجبل القريب من منزلها والذي رافق وجودها منذ البدء والجبل هذا ليس من الجبال الشاهقة التي تشتهر بها منطقتها  .. فهو أجرد .. لا شجر عليه.. لكنه يظل في نظرها .. جبلاً مميزاً .. همست ليتك تبقى هكذا للأبد قريباً من عيني .. أدارت بعنقها نحو الشارع القريب من نافذتها .. وجدت أطفالا يحملون حقائبهم المدرسية على ظهورهم وهم يضحكون فرحاً لأنهم غادروا بيوتهم .. أحضان أمهاتهم.. ومقبلون على مدارسهم حيث عالم آخر غير الذي رأوه .. وعاشوا فيه .. في داخلها همست بألم ليتكم

 تعلمون ما أنا فيه .. ؟

 أعادت بنظرها إلى أرجاء الغرفة .. وقع نظرها على صورة كبيرة لطفل .. معلقة في إحدى زوايا الغرفة .. قالت بصوت مسموع خارج عن إرادتها أهكذا علي أن أودع غرفتي .. ؟ صور الأطفال .. تلاحقني أينما نظرت ..! سمعت صوت أمها وهي تنادي عليها .. ومع صوت أمها سمعت صوت سيارة وقفت أمام باب المنزل .. رفعت ستائر نافذتها .. رأت إحدى صديقاتها من خلال نافذة السيارة جالسة على المقعد الخلفّي أدركت بأن نهاية بقائها بين جدران غرفتها قد آن ..!

 كانت السماء حينها قد تغيرت مساراتها .. فالإشراقة الصباحية تلك لم تدم طويلا ، حيث هبت رياح غربية وحملت معها غيوما سوداء متفرقة وكأنها هي الأخرى أدركت معنى هجر المرء لجدران ضمت أنين وآلام السنين ..!

 وقفت أمام باب غرفتها ونظرت إليها نظرة المودع .. أقفلت الباب وراءها.. وراحت تودع أهلها .. كان والدها الذي قارب من العمر ثلاثة وخمسين عاما واقفا على عتبة باب المنزل ينظر إلى ابنته نظرات كلها غرابة ودهشة فهو كرجل محافظ .. لا يستطيع لحد اللحظة تلك تقبل فكرة أن تذهب ابنته لوحدها إلى مدينة أخرى بعيدة غريبة .. لكنه كان قد خضع للأمر الواقع  .. وذلك لألحاح أخيها الأكبر الذي كان هو الآخر في المرحلة الأخيرة من دراسته الجامعية .

 الوالد كان ينظر إلى المسألة على أنها تخالف العادات والتقاليد التي تربى هو عليها لكونه يعيش في مجتمع عشائري  .. حيث أعراف وتقاليد العشيرة تمثل الشريعة الأولى في المجتمع .. إن لم نقل بأنها تمثل دستور البلد الذي تعيش فيه.. فالعشائر في وطنها كانت منذ زمن طويل قد ضمنت لها مكانة بارزة في سيرأمور البلد .. ولهذا كان الوالد يحاول أن يربي أولاده  على قيم وتقاليد الإباء والأجداد .. وحتى تكون الصورة أوضح وجدت بأنه من الضروري أن أصف بعض ملامحه لعلها ترسم صورة بدون إبعاد ومنظور في أذهانكم .. هو رجل طويل القامة ، ضخم الجسم ، ذو بشرة بيضاء .. يملك على

 حافات رأسه شعراً أبيض لأنه في الأصل قليل الشعر .. ولحيته الطويلة امتزجت شعراتها البيضاء بالسوداء وقد أعطته وقاراً وهيبةً يحسد عليها ، تعلم في المدارس الدينية .. لذلك يملك ثقافة دينية لا بأس بها .. له خمسة أولاد من زوجتين ، الأولى خلف منها بنتين تزوجتا بعد وفاة أمهما بسنتين .. فتزوج الوالد امرأة أرملة ، وكان للأخيرة ابن واحد فقط وخلف منها ولدا وبنتا ، وبهذا يكون له أربعة أولاد من صلبه إلا أنه كان يعتبر الآخر أيضاً من أولاده حتى أنه أخرج له بطاقته الشخصية على اسمه حتى لا يأتي يوم ويشعر بأنه لم يعامل معاملة أخوته..!

وما يهمنا من الأمر هذا هو أن هذا الابن كان وراء سفر أخته لتكلمة دراستها الجامعية .

 التمت الغيوم السوداء واجتمعت ، وأرسلت على المدينة ريح باردة..رطبة..وكأنها تلوح بأن المطر على الأبواب..!

 قبلت أمها التي كانت تعيش حالة ذهول تامة ..فقدعانت الأم ويلات الهجروالفراق.. عندما التحق زوجها الأول بالجيش وهي حامل.. ولم يعد إلا جثة صامته في تابوت ملفوف بعلم وهي كانت تواسي نفسها بجنينها وجارة لها فقدت هي الأخرى زوجها في نفس الظروف .. وقد تستغربون من ذلك .. لكن هنا حيث نحن نعيش لا شيء مستحيل قد تنام على صوت موسيقى فلكلورية قديمة مما كانت تعزف في أعالي الجبال بناي رعاة الغنم .. وتصحى وقد احترق نصف مدينتك .. وصوت المدافع  يطرق على سمعك وعندما رحل زوجها  .. كان حينها عمر الجنين سنتين..حضنت ابنتها..قبلتها وذرفت دموعها لتلامس خد ابنتها ..مسحت

 الابنة دموع أمها وقالت آماه لم أمت بعد.. فكفاك ذرفا للدموع..كلها أشهر وسأعود ..بل إن استطعت سأكون هنا رأس كل شهر..فهدأت الأم قليلا.. وكان على الابنة المسكينة أن تواجه والدها..حيث لم يحصل أن خرجت أمام والدها إلى مكان بعيد وبيدها حقيبتها ..لكنها كانت تجد في وجود أخيها خير دعم وتشجيع لها..وصلت إلى عتبة الباب حيث الوالد كان واقفا هناك وضعت حقيبتها أمسكت بيديه وقبلتهما ..قبلات المذنب التائب من ذنوبه ..مسح الوالد على رأسها وقبلها مبتسما وقال انتبهي لنفسك ولا تجعليني أندم .. وابتسم غصبا لها .. بل قبلها .. ثم أمسك أخوها بيدها وحمل حقيبتها وأوصلها

 للسيارة .. ونظرإلى أخته .. حاولت الأخت أن ترفع رأسها لتنظر إلى عينيه لكنها كانت تخشى أن تصطدم بالحزن المغروس فيها .. فحاولت أن تتهرب .. أدرك الأخ ما كان يجوب في بال أخته ..قال لها لا بأس ليلان.. تعلمين أين ستجدينني وكيف .. فلا تتردي لحظة .. قبلها .. وقبل أن تركب السيارة .. رفعت رأسها متحدية ألمها .. ونظرت إلى عينيه .. وهي تقول هل أضفت إلى حزنهما جديدا .. ابتسم ريان لها .. وقال بل أفر حيتهما بسماعك لنداءاتهما لك بتكملة دراستك .. قالت أعدك بأني لن أخذ لك .. قال أعدك أن أكون معك كيفما تريدين ..!

 دخلت السيارة وجلست بجانب صديقتها شرمين على المقعد الخلفي.. لوحت لأهلها .. ثم نظرت إلى أخيها .. ولوحت له مع ابتسامة رضا .. أدار السائق محرك السيارة ثم مالبث أن أنطلق حتى توارى عن الأنظار .. دخل الآخرون إلى المنزل .. وقبل أن يصعد ريان إلى غرفته ليطمئن على طفله ، قال لوالديه .. لا أريد أن أرى الحزن في هذا البيت فيكفينا ما نحمله في أعماقنا .. ولا تنسوا بأني سأهتم بها .

كنا قلنا بأن ليلان عندما أرادت أن تودع طفل أخيها كان الأخير نائما وقد احتضن يد والده .. وبعدها وضع ريان يد طفله على دمية .. وتملص حتى خرج من الفراش دون أن يوقظه .. ريان هذا شاب كان متزوجا .. لكنه أرمل الآن .. له طفل لم يبلغ بعد عامه الثاني .. أم الطفل توفت بعد ولادته مباشرة لذا لم يجد غير حضن ليلان يأويه .. ريان يدرس في كلية القانون ولم يبق له سوى سنة واحدة ويتخرج وهو الآخر يدرس خارج المدينة جامعته قريبة من المدينة التي ستدرس ليلان فيها .

 أما أخ ليلان الآخر كان خارج البيت بل إنه لم يبت في البيت أصلا .. لأنه كان يكره لحظات الوداع .. وقال قبل خروجه لأخته سأحبك دائما.. وخرج إلى بيت أخته الكبيرة المتزوجة .. وبات عندها ليلا .. وعندما عاد كانت قد رحلت .

 ريان دخل غرفته فوجد طفله لم يزل يغط في نوم عميق .. دمعت عيناه .. قال صغيري أمك الثانية رحلت هي الأخرى .. ماذا عساك ستفعل عندما تصحو .. ولاتجد حضن يأويك .. بل ماذا عساني أنا أصير.. عندما أسمع بكاءك ولاأملك الوسيلة لمنحك الأمأن والطمأنينة .. آه يا صغيري إنها الأقدار .. نعم الأقدار التي جعلت غضب الطبيعة يتعانق مع غضب الآلهة ومن ثم مع غضب الإنسان ..لأقع أنا الكائن الوحيد الذي يعاني الغربة في ذاته في شرك مصيدة الحياة .. ولتكون النافذة الوحيدة المتبقية لي في هذا السجن هي نافذة الموت .. بعدك.. لتطل من خلالكما على الأبدية .. وافقها الغامض .. أه ياصغيري

 .. اقترب منه قبله .. خرج من الغرفة ينادي أمه .. بأن تعتني به .. لحين عودته فهو الآخر على وشك السفر .

كانت السماء حينها تقذف بدموعها خارج أسوارها .. وهكذا أصبح المطر يطفىء بهطوله الحرائق القدرية التي اجتاحت الأنفس ..!

 ليلان وصديقتها شرمين كانتا في ذلك الوقت قد خرجتا من حدود مدينتهما .. كل واحدة منهما كانت تنظر بلهفة إلى كل شيء يقع أمام نظرهما .. وأحيانا كانت الدهشة تمتلك أعماقهما لأنهما يوما لم تتصورا بأن مدينتهم كبيرة هكذا .. فهما لم تعرفا سوى محلتهما .. حيث لم تتجاوز الزيارات التي قمن بها حدودها .. وما زاد من دهشتهما نقاط التفتيش والأسلاك الشائكة والجنود والآليات العسكرية المنتشرة في أرجاء البلد التي يجدها المرء على الطريق ..حتى أصبح بها يعرف البلد .

 أخذهما التفكير في دوامة دون أن تشعرا بالوقت ولم تحسا بنفسهما إلا وهما أمام باب القسم الداخلي الذي أعد للطالبات..فخرجتا .. وأخرج السائق أغراضهما..وقال هل تحتاجان إلى شيء أفعله لكما قبل أن أعود .. شكراه..فرحل هو .. ودخل الاثنتان إلى القسم وقدما أوراقهما لمسوؤلة القسم فرحبت بهما وأرشدتهما للغرفة التي ستحل مكان الجدران التي كانت تأويهما قبل .

 دخلا الغرفة ..ولم تتفوه أي واحدة منهما بكلمة ..لاإراديا توجهت كل واحدة إلى سرير معد في الغرفة.. أخرجتا أغراضهما .. ورتبتا ملابسهما ..ثم جلست شرمين على سريرها .. ونظرت إلى ليلان ..ثم دمعت عيناها .. حاولت ليلان أن تتجنب النظر إليها .. لكن هي الأخرى وجدت صعوبة في منع دموعها من السقوط..اقتربت منها ضمتها..وبعد رحلة مع البكاء الدموع ..قالت شرمين ..هل هذه هي النهاية أم إنها مجرد البداية ..قالت ليلان لاأدري ..ولكن عساها تكون أفضل عساها ..عساها..!

 ثم دخلت كل واحدة إلى فراشها .. وغفت عيناها حتى المساء حيث استيقظا على ضجيج أتى من خارج غرفتهما .. وعندما فتحت ليلان باب الغرفة وجدت الممر ممتلئا بالبنات وهن يتعارفن ويصدرن أصواتا وضجيجا وضحكاً ..فنادت شرمين .. ولكنهما لم تمتلكا الجرأة لتخرجا.. فأقفلا باب الغرفة على نفسهما .. قالت شرمين أنني لاأفهم لغة بعضهم .. ردت ليلان لابأس ستتعلمينها .. ثم قالت ألست جائعة .. ردت شرمين بلا .. فأخرجت ليلان ماجلبته معها من طعام .. لأنها كانت تعلم بأن الاقسام الداخلية لايقدم الطعام فيها ..مع أن قسمهم المكون من ثلاثة طوابق وكل طابق يحوي على ست عشرة غرفة كان

 قريبا من السوق .. إلاأنهما لم تكونا تعرفان شيئا عن نظام الأقسام ..ولا عن هذه المدينة .. لذا فكرت ليلان قبل مجيئها بأن تحتاط لمثل هذا الظرف ..جلسا وأكلا .. وتبادلا الحديث .. وأخذهما الوقت..كانت تحاول كل واحدة أن تواسي الأخرى .. حتى تأخر الوقت .. فعادتا إلى فراشهما .. لأن أمامهما في صباح اليوم التالي رحلة صعبة..!

 وسادع ليلان تصف لكم يومها الأول .. لأن بعض أقارب شرمين بل ابن خالتها كان قد أتى إلى القسم واخذ شرمين معه إلى كليتها وللعلم فقط فإنها لم تكن في نفس اختصاص ليلان , فهي كانت خريجة الفرع العلمي أما ليلان فقد كانت في الفرع الأدبي وهذا ما مفاده أن قبولهما في كلية واحدة أمر مستبعد نوعا ما , قالت وهي تصف يومها ..((استيقظت من نومي منذ ساعات باكرة متعبة .. بل أكثر تعبا مما لو بقيت صاحية طوال الليل أعمل في حقل ......  وانتظرت النهار حتى يشق عتمة الليل .. وعندما انبلج .. ردد صوتا خفيا في أعماقي أعني ذاتي هاهو النهارالموحش يهجم على شباك نافذتي ..كئيبا..

 تحمل إشراقته الغاضبة ذرات لامرئية دامية .. لتنثرها في أرجاء الغرفة .. شعرت بثقل مبهم في صدري وكأن قلبي أصبح مهددا بالتوقف عن حركته اللامجدية , حاولت أن أستجمع ما تبقى لي من قوى..أيقظت صديقتي .. خرجنا معا نغسل وجوهنا..عدنا..أفطرنا..انتظرت هي ابن خالتها ..أما أنا فقد خرجت هائمة على وجهي دون أن أعرف من أين .. وإلى أين وكيف ..؟ ولكني اتبعت بعض الفتيات .. حاولت أن اسألهن .. لكن خانتني قواي .. وعندما أصبح الأمر أكثر جدية بين التيه والضياع والجهل بكل شيء .. تجرأت وسألت إحدى الفتيات عن كلية الآداب .. فعرفتني وبسرعة البرق بشاب كان معها وقالت إنه أيضا

 سيذهب إلى الآداب.. فابتسم لي الشاب وقدم نفسه .. كنت أعيش حينها حالة من الذهول متسائلة ..عن جرأة تلك الفتاة.. وفي أعماقي كنت أناجي ريان أن يلحق بي .. لكني كنت أعلم أنه لن يفعل لا لأنه لايريد .. لا .. فقط لأنه يريدني منذ البداية أن أواجه أموري وأقداري بنفسي .. فتشجعت عندما استحضرت وجهه .. ورفعت رأسي وابتسمت له وقدمت له بخوف ممزوج بخجل إنسانة لا تعرف ولم تتعود أجواء التعارف نفسي ..فأرشدني بل سرنا معا إلى الكلية .. وكانت هذه المرة الأولى التي أخرج فيها مع شاب غريب إلى مكان ما .. ولا أعلم حينها ماكان يختلج في أعماقي .. حيث الشعور بالخوف .. من أن أكون

 خرقت الحدود وأغضبت والدي بعاداته و تقاليده ومعها .. دست على شرائع العشيرة .. خاصة وكلمته الأخيرة لم تزل ترن في أذنيّ ..(أندم ).. أو أن أكون قد خرقت عقدة الركود التي كان ريان يحاول إخراجي منها .. المهم أتممنا معا معاملات التقديم واستلمنا معا الكتب ودخلنا معا القاعة التي سندرس فيها ، وعندما انتهى الدوام خرجنا معاً .. وأوصلني إلى باب القسم .. وأنا مازلت أعيش حالة من الذهول .. فأنا ليلان أكاد أكون قد قضيت نصف نهار كامل مع شاب لم أعرفه إلا في بداية النهار .. أهو الكبت الذي كنت أعيشه جراء شرائع العشيرة .. أم هي الحرية والتوق إليها .. وكأني كنت

 حبيسة جدران أربع .. وعندما تسنى لي أن أخرج وأرى البحر ركعت على ركبتيي على شاطئه وبدأت أناجي مجهولاً بعيداً عن الجدران الأربع .. وتاركتاً للريح ذبذبات صلاتي لتنثرها في آفاق الكون الرهيب ..) .

كانت شرمين حينها تنتظرها في القسم وشرمين هذه فتاة لم تعرف هي الأخرى سوى مدرستها وأهلها ، حيث في داخلها كانت تعيش نوعا من الخوف المخفي لكونها غير قادرة على اتخاذ أي قرار دون تردد .. وقد أعدت أغراضها وابن خالتها كان هو الآخر موجوداً .. وعندما دخلت ليلان القسم ووجدت حقيبتها في يدها أدركت أنها ستعيش مؤقتاً لوحدها.. ودعت صديقتها .. ودخلت غرفتها .. وكم كانت مندهشة عندما وجدت بعد ثلث ساعة فتاة تطرق باب الغرفة .. وكانت هي نفسها التي سألتها في بداية نهارها .. ابتسمت وقالت هل تسمحين لي بمشاركتك الغرفة .. قالت تفضلي .. وبعد أن تعارفتا .. بدأت الزائرة

 .. بل الساكنة الجديدة تسرد لها قصتها الطويلة كيف عاشت في حي فقير بدون أم .. حيث توفيت أمها وهي صغيرة .. ومعاناتها مع زوجة أبيها ومن ثم موت أخيها بحادث سير .. وصراعها من أجل تكملة دراستها .. وبعد أن أنهت قصتها .. ألحت على ليلان أن تتعارف مع جاراتها فخرجن وتعارفن وأكلن .. ثم عدن إلى غرفتهن.. ودخلن فراشهن .. وفي المساء وعلى صوت الرعد استيقظت ليلان وكان الظلام قد بدأ يرمي بعباءته الرمادية.. المائلة إلى السواد .. فوق جراح الحرم الجامعي .. وقفت أمام نافذة الغرفة تتأمل السماء الرمادية بغيومها السوداء .. والمطر الهاطل على نافذتها .. ومعهما كانت في

 أعماقها تتحسر على ذلك الطفل الذي تركته وراءها .. وقالت بصوت مسموع أين هي (( اليثيا )) ربة الطفولة والأمومة لتستنجد آهات قلبي وتذهب لتحمل طفلي ذاك وترعاه .. آه يا أيتها السماء أنك الآن تذكريني بذلك الإله الذي عبدته قبائل الأنكا ( كاتيكويل ) حيث كانت تقدم أطفالها قرابين له لتتجنب غضبه .. غضب برقه ورعده .. استيقظت صديقتها على صوتها كأنها شعرت بمعاناة صديقتها المناجية .. حيث وجدت عيناها تمطر مطراً مع المطر الهاطل .. وقفت بجانبها .. ضمت رأسها لصدرها ..قالت طفل من هذا الذي تناجين الإله من أجل حمايته ورعايته ..قالت وصوتها أقرب إلى صوت أم باكية ..

 طفلي.. الذي حضنته بعد ولادته .. قالت هل متزوجة أنت..قالت..لا ..إنه طفل أخي الأكبر .. الذي ماتت زوجته بعد ولادته مباشرة..قالت أليست هناك من ترعاه ..؟ أجابت ..أمي ..أمي ..لكنه الصغير .. تعود حضني .. ارتفع صوت بكائها ..فأجهشت الصديقة واسمها سارا .. بالألف .. حيث إنها عندما تعرف نفسها لأي شخص تؤكد على ذلك .. لأن الشائع هو سارة.. ولكن هذه الظاهرة تتكرر في مجتمعنا .. فاسم الشخص متوقف على الأصابع التي تمسك بالقلم في دوائر الجنسية والأحوال المدنية ..! وأجهشت بالبكاء لبكائها .. وبعد مأتم آخر .. أمسكت سارا بيدها وذهبا ليغتسلا .. وقالت سارا سأذهب لأعد مكانا لنا

 في المطبخ ..حتى نعد طعامنا فيه ..قالت لابأس سأرافقك لكن الصديقة أبقتها ..وخرجت لوحدها .. مضى المساء بسرعة .. كانت الصديقة قد وجدت مكانا تضع عليه (مدفأة نفطية صغيرة) جلبته معها فالأقسام هذه لكل جناح فيه مطبخ خاص وهو كبير يستوعب جميع هؤلاء الطالبات..المهم جهزت الصديقة عشاء لهما .. وبعدها زارا بعض الفتيات .. وسهروا لساعة متأخرة من الليل وعندما شعرت الصديقة بالنعاس طلبت من ليلان أن يعودا لغرفتهما فاستجابت ولم تمهل الصديقة لنفسها وقتا للتفكير أو أي شيء إنما دخلت فراشها ولم تكن سوى لحظات حتى كانت قد غاصت في سبات عميق .

 ريان كان حينها قد جهز هو الآخر أغراضه بعد عودته للمنزل..وكان يداعب طفله الذي سيصبح يتيما بعدما يشق النهار جدران الظلام ..كان يبتسم لحظة ويئن لحظات .. لكنه تمالك نفسه وفي ساعة متأخرة غفا الطفل على صدره وكعادته أمسك بيد والده ليحضنها كأنها دميته .. وظل الوالد ينظر إليه وهو في ذاته يكاد يتلاشى من شدة الألم الذي يغرسه مجرد التفكير بالسفر مضى الليل بظلامه .. واصطدمت آلهة الظلام بجدران قدرية صنعتها آلهة النهار .. أشرقت الشمس .. وكان على ريان أن يذهب عند أختيه .. دخل غرفة أخيه الذي كان قد عاد .. وطلب منه أن يأخذ مكانه لحين عودته ..وخرج هو ..زار

 الأخت الكبيرة وطلب منها أن تحاول جهدها لمساعدة أمه في رعاية طفله ..ثم ودعها .. وذهب إلى الأخت الأصغر .. بالطبع أصغر المتزوجتان .. مكث عندها لحين الغداء .. لأن مجرد الانتقال من حي إلى آخر يحتاج المرء إلى ساعات بسبب الازدحامات المرورية .. المهم بعد الغداء اتفق مع أخته بأن ترافقه ابنتها المتخرجة والتي تعمل في إحدى رياض الأطفال القريبة من منزله..لتساعد جدتها في رعاية الطفل .. خاصة وأن الابنة كانت قد اقترحت على أمها أن تفعل ذلك من أجل ريان.. خالها الذي تحبه أكثر من اي شخص آخر .. مضى الاثنان إلى المنزل وكان الوقت آنذاك قد قارب على الثالثة وسبع

 وثلاثين دقيقة .. حيث دنت ساعة رحيله .. التمت العائلة حوله..نظر إلى وجهوهم وجدها تعيش حالة من الموت والعذاب .. وكأنها كانت تناجي السماء نفقد في يومين اثنيين من فلذات أكبادنا .. إنه لظلم .. ظلم كبير .. قال ريان لن أسافر إذا كنتم ستبقون هكذا .. أنه ليس اول مرة أغادركم فيه .. مابكم .. انسوا موضوع سفري .. وانتبهوا لأنفسكم سأكون بخير تعلمون ذلك .. ضمه والده مبتسما قال أعلم بني أعلم .. لكننا سنشتاق لوجودك .. قال لابأس والدي العزيز .. لن أدعكم تشتاقون .. توجه إلى أمه وضمها وقبل رأسها ومسح دمعتها .. قال ألا تعلمين موتي عندما أرى دمعتك فأسرعت الأم تمسح

 دموعها وقالت عسانا نموت جميعا ولانراك حتى لحظة حزينا فانت لاتعلم حزنك ماذا يفعل بنا .. فكيف ......؟ توجه لاخيه وضمه وقال له اهتم بوالديك .. ودراستك .. فابتسم الاخ له وقال اعتمد على اخوك .. ولاتفكر بهم فقط اهتم بنفسك وعد إلينا مسرعا .. كان ريان يتجنب حتى النظر إلى مكان ابنه .. مع أنه كان يسمع صوته أحيانا .. كان يخشى أن يضعف أمام أهله وتنهمر دموعه فيخلق مأتما .. توجه بعدها إلى أم طفله الجديدة .. حاضنة طفله الجديدة قبلها واحتضن رأسها وقال لها سأدع بين يديك روح خالك فاعتني بروحه .. قبلته هي الأخرى ودموعها تصيح .. تنادي يا خالي من أجلك سأفعل المستحيل

 .. حمل حقيبته وهو في داخله يقول فقط لو أخرج دون أن أضعف.. دون أن يقول لي أحد ألن تودع ابنك .. فقط .. لكن صوت أمه قطع عليه تفكيره هذا .. قالت ألن تقبل طفلك ..ألن تودعه ..؟

 بريق غريب خرج من عينيه وأصبحت دموعه على حافات عينيه .. تماسك.. قال بلى.. بلى .. دخل إلى غرفة أمه حيث كان طفله هناك ضمه.. ثم أسرع يحمل حقيبته خارجا..وهكذا ودع ريان أهله ..!

كانت ليلان لم تزل أمام نافذتها في ليلها الطويل وهي تتأمل الظلام..نعم الظلام.. كانت أعماقها تردد بين الحين والآخر .. ماأطول الليل حين تصبح المسافة بين الموت والحياة ليلة انتظار .. غدا .. يرحل ريان .. كما فعلت أنا قبل اليوم .. فيزرع برحيله الموت في كل أرجاء البيت ..إنه ليس كأي واحد منا ..لأنه الوحيد الذي نحيا جميعا به .. غدا .. وآه من غد تصبح الحياة في منزلنا مجرد موت .. استمرت ليلان بتفكيرها هذا .. لكن فجأة داهم تفكيرها .. يومها الذي مضى على غير مامضت أيامها .. وبدت ملامح وجه الشاب الذي تعرفت عليه تجوب في ذهنها وأمام أنظارها .. وتساءلت من جديد ..

 تراني لن أغضب والدي .. لن أخرق عاداته وتقاليده إذا ما استمرت رؤيتي له .. تراني لن أجعل والدي الطيب يندم .. آه من هذه التساؤلات .. دعني منها .. نعم دعني منها .. لكن كيف لي أن أتخلص منها.. وأنا بطبيعتي إنسانة لم تمتلك يوما قرار نفسها إلا في إتمامي لدراستي.. وحتى هذا القرار لو لا ريان لما كنت أستطيع اتخاذه.. أنا فتاة شقية .. بل سأصبح شقية إذا ما اعتمدت على نفسي .. نعم فأنا حتى لا أعرف كيف أتخلص من هواجسي هذه ..!

حاولت ليلان جهدها من أجل أن تتخلص من ملامح وجهه الذي رافقها.. لكنها عادت ترضخ للواقع وهي تقول إن كلماته الرقيقة .. ملامح وجهه البريئة .. وتعامله الطيب .. حتى خجله .. كل ذلك أصبح ينبت داخل رأسي ويتسلق جدران روحي كنبات أسطوري شرير .. ثم عادت تقول وأنا التي لطالما قال لي ريان بأن لا أفكر بالأمور عاطفيا .. روحيا .. إنما أن أستحكم الأمور كلها للعقل وأدعه هو الذي يوجهني بالأخص في مثل هذه المواقف .. لكنها لم تصمد وعادت تناجي ريان .. ريان .. ريان .. ملاكي الطيب .. هل ستصدق ما يحضرني الآن من الكلمات .. ليتك هنا لأقولها لك .. أعلم أنك كنت ستفرح بها لأنها

 لأول مرة ستخرج مني لتخرق جدران سمعك .. لكن سأقولها نعم سأقولها لعلك تسمعها .. يا ملاكي .. إن مأساتي الآن .. نعم الآن .. هي أني أصبحت مضطرة كعادتي في كل شيء أن أعتمد سبل الروح والغيبيات والعاطفة التي تدور الروح في رحاها.. لأني إذا ما اعتنقت مذهبك حيث لاوسيلة أخرى لأثبت نفسي .. سأعود للضياع والتيه الذي شعرت به اليوم وأنا أخرج دون أن أعلم من أين وإلى أين وكيف .. نعم ياملاكي .. لست على استعداد الآن بالذات لأن أفلسف مذهب العقليات والواقعيات لأظهره على مذهب العاطفة والروح .. فأنا يا أخي سأضيع .. سأتيه .. فدعني أقرر بنفسي ..؟

 كان الظلام لم يزل دامسا .. وخيوط ماقبل الفجر الرمادية الداكنة لم تزل تلف الحرم الجامعي .. وصديقتها كانت لم تزل غاصة في سباتها العميق .. لكن فجأة هبت ريح عاتية .. قضت على تلك الخيوط الرمادية.. وأظلمت السماء كما لو أن شيئا حجب ما قد يفرج عن تلك الخيوط .. استيقظت صديقتها .. فوجدتها مغروسة أمام نافذة الغرفة .. قالت ألم تنامي .. التفتت إليها ليلان .. قالت لا .. ليس بعد .. قالت عليك أن تأخذي قسطا من الراحة لأن أمامك يوم طويل .. قالت نعم .. أمامي يوم طويل .. طويل .. دخلت فراشها وغصت بعد لحظات في نوم عميق .. وفي الثامنة والربع أيقظتها صديقتها .. واستعدت

 الاثنتان .. وخرجتا كل إلى كليتها ..! وصلت ليلان إلىباب كليتها .. عيناها منذ البدء بدأت تبحث عن مجهول ما .. يؤنسها .. قاومت رغبة عينيها .. وحاورتها .. قائلة .. أنا أظل فتاة.. لايمكنني أن أستسلم بهذه السرعة لرغبات علي أن أستحكمها للعقل والمنطق قبل أن أهتم بها .. ونجحت .. فدخلت الكلية .. ومن ثم قاعتها .. دون أن تبالي .. لكن صوته جاء لينهي ذلك التحدي .. ويهزمه .. عندما اقترب منها وسلم عليها وجلس على مقعد بجانب مقعدها دخلت في صراع مرير .. فهي فتاة لم تعرف هذه المواقف .. ولا تعرف كيف تواجهها .. بل هي مقتنعة تماما بأنها ضعيفة ولا تملك القدرة على مواجهة كل

 مايمكن أن يتعلق بطبيعة وجودها فهكذا علمها مجتمعها أن تعيش منذ البدء .. حتى لو أدركت أنها أصبحت داخل دائرة قنص غيرها..!

ريان كان في طريقه إلى مدينته .. جامعته .. وطريقه يمر بنفس المدينة التي أصبحت ليلان تدرس فيها ..بالطبع وهذا ما كانت تعقد عليه ليلان الآمال بأنه سيمربها .. انتصف النهار .. كانت السماء قد أفرجت لبعض الوقت عن الشمس .. ليلان مع صديقها .. وصديقتها التي تركت كليتها القريبة لتأتي إليها كي تطمئن عليها .. الثلاثة معا في النادي جالسين يتبادلون أطراف الحديث خاصة الصديق والصديقة .. وقلما تتدخل ليلان في حوارهما لأنها فعلا مقتنعة بعدم قدرتها على مواجهة مثل هذه المواقف لكونها ضعيفة ولعل هذا الأمر يحتاج لوقفة لكون الإنسان في مجتمعاتنا لم يتعود أن يكسر

 القيود بل اعتاد على الخضوع بداعي العادات والتقاليد .. وشرائع الاجتماع.. وغيرها .. حيث عكست هذه الأمور على شخصية أغلب الناس وليلان منهم حيث وصل الأمر بها .. حتى إنها لا تسمح لنفسها بأن تفكر في صديقتها الجريئة التي تناقش وتبدي رأيها بل وتتمسك به .. أصبحت الساعة الرابعة وخمس أربعون دقيقة .. رفعت ليلان رأسها نظرت حولها ..وجوه .. وابتسامات .. وضحكات .. وأحاديث .. وصوت المسجل يعلو الكل .. أعادت بنظرها إلى حيث ماكان .. كانت تلتهي بكتاب في يديها .. في أعماقها شعرت بأن شيئا ما يقترب فيسرع نبضها .. استجابت لذلك الشعور رفعت رأسها .. واذا بريان واقف على

 رأسها..ابتسمت من عمق أعماقها .. حاولت أن تنهض منعها ريان ..سلم عليها .. لكنها وقفت صافحته وهي تقول كم أتمنى أن أحضنك الآن..عرفته بصديقتها وصديقها .. ابتسم لهما ..سلم عليهما .. وعرفتهما به .. !

 بعد سؤال وجواب وسؤال .. استأذن الصديقان ..وتركاها مع أخيها .. قالت أولا كم أحتاجك..وثانيا أتعلم بأني مازلت أعيش حالة ذهول .. لو علم أبي بأني أصادق شابا منذ يومين .. قاطعها ريان لن يفعل شيئا بل حتى لن يفكر بالأمر .. كيف ترين والدك .. هو ليس بتلك الدرجة من التحجر التي تتصورينها .. كل ما قاله.. كل ما علمه لنا .. كل حياته .. لم تكن إلا حرصا على أن نكون جميعا بأفضل ما يمكن أن يكون عليه أي إنسان .. وإن كنا نشعر بنقص ما الآن لأننا لانستطيع أن نواجه الحياة ومتطلباتها .. فليس ذنبه لأن وسعه كان ماقدم .. ولاتنسي أننا بطبعنا الذي ينعم بالخضوع والذي بدورنا لا

 ذنب لنا في تكوينه بسبب الظروف التي مررنا بها سواء أكانت سياسية أم اجتماعية .. نتحمل جزءا مما نحن عليه الآن .. وسأذكرك بكلمات سمعتها ذات يوم في إحدى أسفاري من إنسانة لاتنتمي إلى أعرافنا..((قد أركع أمام رغبات القلب ..والحبيب .. قد أكون حملا وديعا أمام جزاري ..حين يساق بي إلى حتفي..قد أكون مستعدة لأن أتحمل المزيد من الألم ..نعم قد أكون كذلك ..لكن لكوني شرقية وسأظل شرقية في طباعي التي لاتؤمن في الأصل وبعكس مايفهمه غيري بأن أسلم رقبتي أمام كل دخيل معتد..لذا.. ياطفلي لاتخشى علي ..واهتم بنفسك..)).

 فيا صغيرتي كوني أنت كما تريدين ..لست أقول لك تحدي والدك.. لا .. لأن هناك ثوابت حتى في العلاقات الاجتماعية .. هي أكثر شيء التزامات أخلاقية نتحمل تبعاتها من أجل الحفاظ على ماء وجهنا .. لكننا خارج هذه الثوابت أحرار .. نعم نستطيع برغم قيود المجتمع وآفاته أن نصنع من أنفسنا أحرارا نفعل حسب قناعاتنا خارج إطار قيود الاجتماع لأننا نحاول أن نبقي بذلك على ذواتنا كما نريد أن نكون ولا كما يريد غيرنا لكونه أكثر سلطة وقوة وحضورا اجتماعيا .ويا صغيرتي إن المرأة التي تعاني اللاثقة لاتستطيع أن تحافظ حتى على ثوابتها .. لذا تسلحي بالثقة.. وانسي تلك المرأة

 التي تشنق دميتها الطفلة الصغيرة لأنها تشعر بأنها تأخذ من نظرات صديقها إليها أكثر.. مما تنظر إليها وهي التي تتزين بالحمرة و ....!

 أذهلتها كلمات ريان .. بل أخرستها .. ظلت تنظر إلى شفتيه دون عينيه .. أخذهما الوقت .. أفاقها ريان وقال علينا أن نخرج الآن ... صعقتها .. كلمة نخرج كأنها لم تكن تشعر بشيء سوى كلماته التي كانت تلامس أعماقها .. أمسك بيدها وخرجا .. وفي حديقة الجامعة جلسا تحت شجرة زيتون خضرة .. بالرغم من أن السماء كانت قد عزمت أمرها على أن تمطر .. قالت ليلة أمس وأنا أفكر بطفلك .. شعرت وكأن الموت يجلس بجانبي ينظر إلي وأنظر إليه .. ثم قالت أتذكر ذات يوم قلت لي إن الإنسان دائم التنقل من حالة إلى أخرى .. وقلت نحن ننتقل باستمرار من حالة اللامكان إلى حالة الوجود .. إذ تنفذ

 أفعالنا إلى صميم الواقع .. فتنقل بنا من دائرة الوجود الضمني إلى دائرة الوجود الفعلي .. الواقع .. وكأنك كنت تعلم ما سأكون فيه وعليه اليوم ..؟ وكأني كنت قبل اليوم أعيش وجودا ضمنيا لم ألتق فيه إلا بذاتي المتعلقة بالمنزل وأهلي .. وكل ما كان غير ذاتي وأهلي كان مجرد فراغ.. لم أبال به .. ولا بسده ..!

 أجابها ريان بأن مأساة الانسان هي تلك المرواحة الأبدية بين الفراغ والامتلاء.. الحنين والهجران .. التمرد والخضوع .. إن المرواحة بين النقيض والنقيض تهدد ببطلان المعنى في أفعالنا .. ومن ثم في حياتنا .. وعلينا أن نسلك أو بالأحرى أن نجد معنى لحياتنا لنشق عبره وبواسطته طريق الخلاص.. أي إننا علينا أن نحدد ماهيتنا ونعمل من أجل ترسيخها حتى لو فعلنا ذلك على حساب رغبات وتطلعات غيرنا .. وأن لا ندع للفراغ الموجود أصلا أن تملأه رغبات الغير فتكون عبئا على كاهلنا ولا نجد حينها أنفسنا إلا ونحن نستسلم ونخضع بدافع الاجتماع وكونه الأكثر حضورا ..!

 قالت أتراني أخطأت حين تسرعت بالتفكير بصديقي .. بملامح وجهه .. ليلة أمس ..؟ قال .. أنت تحكمين .. ولست أحكم .. إنما أليس انتصارا لكما معا .. أن يستطيع هو بلحظات تغيير بعض ما لم تغيره السنوات التي مضت فيك .. ثم أليس انتصارا لك أن تكسري قيود الاجتماع التي فرضت على عقلك وأن تفكري بما تجدينه أنت بأنه خارج عن أعرافهم وعاداتهم ..؟

 صغيرتي .. كلماتي الأخيرة لك لأن الوقت تأخر وعلي أن أغادر لألحق بالقطار الذي سوف أسافر به هذه المرة .. هي أن الجحيم الذي خلقناه في فكرنا ليس بأكبر من ذلك الجحيم الذي يفرض عليك أن تعيشي في مكان ما .. مع إنسان ما .. في وقت ما .. لا يربطك به شيء أكثر مما يربطك بأية آلة داخل مصنع .. أو بيت.. أو حقل .. حيث حينها لا يبقى لك غير الصمت والنظر .. والانتظار .. حين تضطرين أن تسلمي عليه .. أن تبتسمي له .. أن تعاشريه.. أن تسكني معه تحت سقف واحد .. صغيرتي إن مثل هذا الصمت غير الودي .. ليس إلا صمت العجز عن الالتقاء على جسر التفاهم والحوار .. صمت الخضوع لمعاني الاجتماع

 المفروضة عليك.. صمت الغرباء في مجتمعات بربرية .. صمت الكهوف .. صمت الموتى .. إنه ليس إلا الصمت داخل حجر الصمت .. فعليك أن تفكري قبل كل شيء بنفسك لتجديها ومن ثم ابحثي لها عمّا يريحها .. ودعيني أوصلك للقسم.. لأغادر بعدها. أمسكت هي بيده هذه المرة .. وسارا إلى القسم .. صعدت بسرعة لغرفتها وجلبت في حقيبتها شريطا ووضعته داخل محفظته .. ولم تنس أن تنزل معها صديقتها.. وضع رأس أخته على صدره وقبل رأسها .. ثم صافح صديقتها .. وغادر .. قالت صديقتها أي ملاك هذا .. ردت ليلان وبسرعة إنه الحياة التي يحيا بها كل من يعيش في منزلنا .. بل حتى أقاربنا.. عادتا إلى غرفتهما

 ..وقد أدركت ليلان تماما ما عليها أن تفعله .. بل اطمأنت أن ريان بفكره سيكون حاضرا معها كلما احتاجت لوجوده .. ! عاد الظلام يفرض .. عباءته الرمادية .. السوداء .. فوق جراح الحرم الجامعي وفي ساعات الليل المتأخرة .. كانت ليلان الفتاة الرقيقة ذات العيون السوداء الجميلة .. تناجي ذاتها .. وتقول من لك غير ذاك المسافر الذي أينما سار يترك وراءه كلمات تظل ترتجف على سطور الحياة كآثار دماء جريح يزحف فوق حقل مزروع بالقطن الابيض ..!

ريان حينها كان هو الآخر قد وصل لغرفتة التي استأجرها مع زميل له آت من الجنوب في منطقة خارج الحرم الجامعي .. ألأنه بطبعه لايحب القيود المفروضة حسب نظام الجامعة على الأقسام الداخلية ..! وصديقه هذا كان هو الآخر غريباً .. بل لعل القدر أراد لريان أن يرى ويشاهد كل شيء ليصبر على محنته الأبدية التي يعيشها .. فصديقه .. كان علوياً.. وكان يحب فتاة مسيحية .. وفي مجتمعنا .. بل حيث نعيش يعتبر مجرد أن يفكر المرء بهكذا علاقة أمر خارج عن العرف والشرع .. بل لعل الأمر يصل أحياناً إلى سفك الدماء ..! فكان صديقه دائماً يرمي بهمومه على صدره .. وكان هو يردد في أعماقه ..

 متى سيأتي يوم وتنكسر مثل هذه الأعراف التي جعلت الخوف والخضوع وحدهما يكونان شخصية الإنسان لدينا ..؟

 ليلان كانت تهمس وبصوت يكاد يكون مسموعا إن الذي يعزف بنبرات صوته موسيقاه الحزينة لطفل رضيع لايفهم .. فيهدأ الطفل وينام علىصدره متخذا من أصابع يده دمية يحضنها هو الآخر ..لهو القائم إلى الأبد بجانب نافذتي هذه .. يحمل نايه ليعزف لي أنا أخته .. نعم إنه قائم .. قائم ..! لكنه قلب الأخت .. نعم الأخت التي ربت طفل أخيها .. سيظل قلباً جشعاً يطالب بقطف الكون من الفضاء ليضعه بين يدي لأرتاح ولأطمئن .. بأنه مع طفله لن يبتعدا عني .. آهٍ يا طفلَيَّ .. ماذا أكون إن لم تكونا .. وداهمها حزن شديد .. ثم صحت من حزنها على ذكرى صديقها .. وهي تردد كلمات سمعتها ذات يوم .." في

 عتمة مأساوية السواد .. تتمدد رغبات امرأة.. داهمها القدر .. كصليب مقدس .." أسدلت ليلان بعدها ستار نافذتها تلك .. قالت ريان تصبح على خير .. أيها الظلام أراك مساء غد .. ودخلت فراشها .. وغاصت في سبات عميق .

 السماء كانت تعيش حينها ظلاماً غير عادي .. حيث الريح كانت تصدر أصواتاً مرعبة .. وعندما قررت السماء أن تمطر أرسلت تحذيراتها البرقية والرعدية أولاً .. ثم أمطرت .. نعم أمطرت .. واستمر المطر.. واستمرت ليلان بعدها في سباتها .. !