ابن العورة
نادر أبو تامر
"ابن العورة"!!! كانت هذه هي العبارة التي جعلتني أخجل من منظر أمي.
كنت في الصف السابع. أولاد الصف راحوا يتهامسون عندما دخلت أمي إلى الصف لتسأل مربي الصف عن تقدمي في الدراسة. صاروا يضحكون على أمي بعد خروجها، وراحوا يشيرون إلي بأصابعهم ويرددون "ابن العورة!!".
كدت أموت من شدة الزعل في ذلك اليوم. وكلّ النقمة التي شعرت بها تجاههم تحولت فجأة إلى أمي. لو لم تكن أمي عورة لما نعتوني بعبارة "ابن العورة!!!"...
لكنني لم أسامحهم حتى بعد سنين طويلة قد مرت على هذه الفعلة. وبعضهم قاطعته تمامًا مع أنني بطبيعتي متسامح واصفح عن الذين يرتكبون الأخطاء بحقي..
لكن عبارة "ابن العورة" ظلت ترن في أذني مثل دقاتي على الطبل الأجوف الكبير الذي أنقر عليه في الكشاف خلال عيد الأم.. وظلت العبارة تنقر دماغي لا تريد أن تفارقني، وكأنها كابوس عن أفعى مرقطة غليظة ولزجة تفتح فمها وتقبض على رأسي...
ومنذ تلك الحادثة وأنا أتفادى أمي، ولا انظر إلى عينها... العورة.. ولا إلى عينها السليمة.. لم أسأل نفسي لماذا هي عورة أصلا؟ هل ولدتها أمها هكذا؟ لا أريد أن أعرف السبب... ولا أريد أن أصدق العبارة السيئة التي ينعتونني بها.... "ابن العورة"...
أبي كان قد مات قبل عدة سنوات وترك لي هذه "الأم العورة"... !! التي تتدخل في كلّ صغيرة وكبيرة في حياتي.. في كلّ شاردة وواردة..
كنت أتمنى ألا تعود إلى المدرسة بعد تلك الحادثة التي شعرت فيها بحرج شديد... ليتني كنت استطيع أن أقول إنها جارتنا، أو إنها من معارف أمي.. لكن كيف أواجههم الآن وقد عرفوا من هي أمي... منذ الصف الرابع وأنا ارفض أن يأتي أولاد الصف إلى بيتي لئلا يلاحظوا أنها عورة.. ما عدا سميح الذي أتحجج أن أمي ليست في البيت عندما يداهمني فجأة في ساحة البيت لكي يلعب معي، فأصطحبه إلى الحقل الكبير بجانب البيت.. لم أعد أريدها أن تأتي إلى المدرسة.. لا في أيام عيد ميلادي ولا في عيد الأم التي نحتفل بها بالرقص والغناء وبالمسرحيات التي تحكي عن عطاء ووفاء الأم ولا حتى في أيام توزيع الشهادة الفصلية ولا السنوية...
بعد طول تفكير وبدون أن ارفع عيني إليها، تجرأت وفاتحتها بالأمر:
- لا أريد أن تأتي إلى المدرسة بعد اليوم...
- لماذا يا عزيزي؟
- لا أريد.. مفهوم؟
- لكن، أخبرني لماذا؟
- لا يوجد سبب. كلّ ما أريده أن لا تأتي إلى المدرسة.
- حاضر يا بني. لكن أريد أن تعدني بان تحضر شهادة ممتازة.
- سأحضر أحسن شهادة في كلّ المدرسة. المهم أن لا تأتي إلى المدرسة.
تلك الليلة لم تغمض لي عين بينما كانت إحدى عيني أمي مغمضة.. "العين العورة".. كنت سعيدا جدا لأن لا أحد من أولاد الصف يستطيع أن يعيّرني بأمي بعد اليوم... ولا أحد جديد سيعرف أنها "عورة" .. وشيئا فشيئا سينسون أنني "ابن العورة"..
مرت أشهر، وكما وعدتها، ففي نهاية العام الدراسي نلت مرتبة الشرف في المدرسة بفضل علاماتي.. وفي العام التالي وبعد عامين وثلاثة إلى أن تخرجت..
ثم سافرت إلى بئر السبع لأعمل وأتعلم. كلما سألتني بالهاتف لماذا لا أعود إلى البيت في نهاية الأسبوع أتحجج بأنني يجب أن أعمل لأصرف على نفسي في الغربة، وهي الفقيرة التي لا تملك النقود لتقطع عليّ حجتي لم تستطع إقناعي بتغيير رأيي، فلم أذهب لزيارتها في البيت طوال سنوات، مع أن اتصالاتي الهاتفية بها كانت عديدة، وخصوصا من هاتف المستشفى الذي عملت فيها في نهايات الأسبوع. واستمرت الحال هكذا إلى أن تخرجت وعملت في مكتب محترم في المدينة الكبيرة التي تعودت عليها.
وتعرفت على إحدى زميلاتي، وسارعت في الزواج منها. وحتى عندما أرادت التعرف إلى أبي وأمي أخبرتها أنهما توفيا وأنني مقطوع من شجرة. خفت أن ترى "أمي العورة"!! وبعد أقل من سنة من زواج بدون احتفال رزقني الله ابنا، تأملت عينيه عند ولادته، ولم تكن عنده عين عورة...
وكنت من مرة لأخرى أتصل بأمي من المكتب لأطمئن عليها، وإذا كانت بحاجة لأي شيء، كنت أرسله إليها مع احد أصدقائي.. وأشرّط عليه ألا يحدثها عن عائلتي..
وكبر ابني... وكما يبدو فإن احد أصدقائي باح لها بالسر.. وبسرعة البرق كان الردّ منها...
عندما قرع جرس البيت ظهيرة ذلك اليوم الحارّ، لم تكن زوجتي في البيت. كانت مع إحدى صديقاتها في نادي الحي. ذهبت لتشرب بعض العصير.. ذهب ابني بسرعة لفتح الباب وأسرعتُ أنا وراءه فكانت "أمي العورة" تقف هناك.. انزعج ابني من منظرها وصار يبكي وكأنه يرى عفريتا أمامه.. فلحقتُ به، ليس قبل أن اصرخ عليها وأبهدلها فكيف يُعقل أن تخيف ابني هكذا...
أرادت أن تقول لي بأنها سمعت بزواجي وإنجابي وأنها أتت لتبارك لي.. وأنها لم تقصد تخويف ابني... بدأت تتمتم بعض العبارات التي غص بها حلقها، لكنني لم اسمعها إلى النهاية...
بعد فترة... عندما دعيت للمشاركة في مؤتمر عقد في عكا، ولم تكن عائلتي معي، فكرت أن أذهب إليها، وربما أعتذر لها عن تصرفي...
وجدت باب البيت مقفلا.. وهي لا تغادر البيت، فكيف يكون مقفلا؟
دققت باب جارتنا أم مفيد. فتحت الباب وعانقتني وراحت تبكي.. ثم أخبرتني أن أمي قد توفيت.. أمس.. وبينما رحت أبكي مثل الأطفال، ربما من شدة الندم والذنب الذي أشعر به تجاه فعلتي بحقها، أخبرتني أنهم كانوا يبحثون عن هاتفي لإبلاغي بالحضور للجنازة، لكنهم لم يجدوني، فقرروا دفنها في غيابي...
وبعد أن قدمت لي جارتنا صديقة أمي فنجان قهوة سادة لم أشربه من هول الصاعقة.. قالت:
- أمك تركت لك رسالة يا كمال قبل وفاتها...
- أعطيني إياها..
فتحت الرسالة فوجدتها تكتب فيها:
"حبيبي كمال، نور عيوني يا يما، آسفة لأن ابنك خاف مني في المرة السابقة. أردت أن تكون مفاجأة لك وله.. لكن يا حبيبي.. توقعت أن تدعوني للدخول فلم تفعل. عدت متألمة إلى البيت. ولم أصدق أن هذا هو الولد الذي أنجبته.. آه لو تعلم يا حبيبي كم أحببتك، وضحيت من أجلك.. عندما كنت صغيرا يا كيمو تعرضت لحادث وكان الحل الوحيد أن أقوم أنا بمساعدتك.. وبالفعل، طلبتُ من الجراح إجراء عملية لي يستأصل فيها عيني ويزرعها بدل عينك التي انعورت في الحادث. لا تزعل ولا تحزن يا يما. سأبقى راضية عنك إلى الأبد يا حبيبي".