جُثمان

ماجد سليمان

[email protected]

لمحت جُثمان منال مُسجّىً في غرفة الجنائز القريبة من محراب الإمام، والمعزٌّون يغمغمون بما لا يُفهم، شاهدت وُجوهاً مُعفَّرةً بالحزن والغضب معاً.

 بعد أداء الفريضة حُمِلَ جثمانها وَوُضِع أمام الإمام لنصلّي

عليها صلاة الميت .. كُنت أتأمَّل جثمانها الطاهر ببكاءٍ داخلي، كان نحيبي لا ينقطع من بين ضلوعي .. تلك الملاك هي الآن في ظُلمة الكفن قبل ظُلمة اللحد .. تلك الملاك جَسدٌ بلا حِراك .. راحت لَقَطاتُها الطفوليّة تنثر صوتها وصورتها فوق بصري الضعيف .. ذكريات الصِغَر والحي كأنها لظىً يمتدُّ في مُخيِّلتي..

 بعد أن صُلِّي عليها، حُمِلت فوق الأعناق، أيدٍ تحمل نعشها الخشبيّ ذو الطلاء الأصفر الداكن، كُنتُ راغباً بأن تحمل يداي نعشها مع أقاربها لكن أموراً كثيراً تمنع ذلك، فكانت عينا قلبي قبل عيناني تلاحقان الجُثمان حَتّى رحلوا به إلى ترابه ومرقده.

 لم أجد طريقة مناسبة للبكاء، فكل الأوقات تُحَتِّمُ أن أذرف الدمع من عروقي لا من تحت أجفاني المترهِّلَة من بُكاء الدهر وصُرُوفه.

 من أين أبدأ مسح غبار الذكريات يا منال؟.. كيف سأرثيكِ .. من طفولتنا؟ .. أم من مآتمنا .. أتدرين .. سأرثيهما دون توقّف فسُحقاً للقلب الذي لا يُذوِّبُ لفراقكِ الدنيا.

عُدت إلى حَيّنا القديم أسحب خلفي جنازة الإرهاق والتعب، كانت الصدفة تعرض أصحابها أمامي دون ترتيب لمظالمهم السوداء، إنه " عفتان " تاجر القماش، وجار السوء الساكن في الحي المجاور لنا، صَدفته وهو يهذي دون توقّف، جسدٌ مشدودٌ إلى جهنم بذنوبه، شابكاً أصابعه ذات الجلد المتجعّد من وَقع الزمان عليه، وشارداً بعينين احمرّتا من فجيعةٍ طوَّقته .. شاهدته يشتم كل شيءٍ في طريقة بعد أن خسر ثروته، وسَمعتُهُ حين قال لنفسه وهو يركل أطفال الريح ويجلد آثار الدمع:

- ما أمرَّ الفقر بعد الغِنَى..

لقد كان مَنظَرُهُ مُرضياً أكثر مما كان محزناً، يا كم حُرِمت أفواه لُقمة عشيها قهراً بسببه، ويا كم دُهِسَت نساء تحت أقدام أزواجهن المعتوهين بسببه، ويا كم قُذِفَ بأبناء خارج منازل أهليهم ظلماً بسببه، ويا كم إلتهم السوط ظهور أناس وأوسعهم ضرباً بلا ذنب بسببه.

ليت لديَّ الجسارة وأتحامل على نفسي، وأركب الحماقة، لأبصق في وجهه القبيح الذي كان يبتسم بخبث في الوجوه بأسنان صفراء ذات رائحة نتنة.

 ما زلت حَتَّى وأنا أتشفَّى من منظره أشعر بطعم الخديعة، إحساسي بالخديعة مَن ينتشل نصله من داخلي؟ ويريق دمي ويريحني من البحث عن إجابته.

سؤال يتدحرج في رأسي قائلاً: "من أين يأتي صوت الخديعة..؟". لأُسند ظهري إلى جدار الحيرة كَاتِمَاً كُرَةً من النَفَسِ المغليّ خلف أسوار الضلوع، ليعود نصل السؤال مرةً أخرى مقتحماً تساؤلي عنه، لينتثر دم اللا إجابة على سؤالٍ يسري في هشيم الحقيقة، ويأكل من جسد الواقع وأعيننا تنكر مشاهدته، وتغمض أجفانها المكذِّبة للبرهان.

راحت الأيام تنزع رداء ساعاتها سريعاً .. تَدَّرجت في العلاقات الآثمة دون ترفّق، لم تتقلَّص ذنوبي بعكس بقيّة البشر الذين يغسلونها بالتوبة والاستغفار، عدت من جديد لأركض خلف ركب "نورانية" إنها الحبُّ المحرَّم، والعلاقة الشيطانية .. هي التفَُّاحة المحرَّمة ورحلة الضوء الشحيح في سماء حياتي.

 لماذا أنا متمرّدٌ على يباسي.. ؟! ..

سؤالٌ يرتطم بصدري دون إجابة..

رحتُ أعقد معها وعد المشتاق في إحدى أماكن الرياض العائلية، انغرست في كُرسيٍّ مُخمليٍّ احترق شوقاً للحديث مع أنثى، كان المكان خالياً إلا من انتظاري لها، غارقٌ في عَرَق حَيائي ولهفتي، تماثلت للقاء كما يجب، حاملاً يُتماً ما زال طامساً إحساسي كإنسان.

جلست أُحدِّقُ في الشارع من خلال الشُبَّاك الزجاجيّ المتّسخ، وأخيراً كانت سيَّارة الأجرة الصغيرة تقف قرب المكان لتنزل بائعة الغرام في حُلَّة الأميرات .. اقتربت من الباب دَخَلت عبر الممرّ العام للعوائل، رَنَّة كعبها تُغري ضلوع الأرض، نبض الرخام مُتيمٌ من تحتها، قرع كعبها كأنه في عروقي، رائحة عطرها يسبِقُها إلى كرسيها، إنني لا أعرف دفء الملذّات، تزايدت حَبَّات العَرَق على جبيني، فالشوق لآذع هذه اللحظة، أزاحت بأناملها الفضيّة ستارة الباب، لتطلَّ عليَّ كالبدر بل أشدّ جمالاً .. إنها البهاء المنثور .. إنها الغواية التي لا تنضب.. إنها الرائحة المحرّمة..

"كيف أنت؟"..

حَلَّقت من بين شفتيها اللتان تهمسان من خلف طرحتها الشَفَّافة، بعد أن سبقتها ابتسامة ناعمة .. أحسست بدفءٍ شيطاني، فأيقظ سؤالها عن حالي رُكام قلبي وبعثر شهقات صدري .. اعتدلت في جلستي واضعاً يداي على الطاولة، فراحت أصابعها النديّة تخربش في صفحة كفيّ وتسرد شفتاها شوقها الكاذب لي، وأنا مغموسٌ في بركة الحزن على نفسي..

وبعد أقل من الساعة تحرَّك جذعها الرشيق، كأنها مُتلحِّفة بالشمس، وتَرَكَت عطرها يهدهدني والمكان، وذابت في البعاد، فلا بُدَّ من أن أُأَرجح نفسي لتستريح ولو لقليل شحيح، فانتصبت لغوايتي منشداً عذابي، كانت عيناي وحدهما تتكلمان وتصرخان.

التهمتني الشوارع ذات الأنوار الضئيلة عائداً إلى ضياعي ورغباتي الملوّنة .. وحيداً أمشط القاع بخطواتي المتردِّدة .. راحت أقدامي تَدُوسُ غَضَب الطريق، ضَربتُ بركبتيّ تراب الأرض محاولاً إيلاج أصابعي السمراء ذات الأظافر الطويلة جدار صدري، راغباً في اقتلاع قلبي من مكانه العصيّ، كُلُّ أملٍ نُزِعَ من محيطي دون رجعة، ولم أرث من ظروفي غير دمعٍ أحمرٍ يَنزُّ من ثُقب روحي، فآهٍ يا مجتمعاً يراني بلا مغفرة.

 تَيَبّس شبابي، وأرخى الحزن وشاحه على قلبي، وصَبَّ نهره في شراييني، وانطفئ فتيل سراج أيامي، وذابت شمعةٌ أضاءت دربي، ورافقت ظلمة ليالي، وجدت نفسي، فجأة، وحيداً أُلوّح لرفيق غاب..

 في اليوم التالي صباحٌ يَجُتَرُّ خلفه ظهيرةً محرقة، وظهيرةٌ تسحب

وقت العصر ببطء، وعصرٌ يمشي برداء الخيلاء، وينشر البرودة قُبَيل المغيب، لينقضي يومي.

عيناي أكلهما الدمع وهيمن عليهما الحزن، وشفتاي أيبستهما التمتمة، فجَمَعت شتاتي ثم خرجت إلى ظلمة الصحراء لأُصدر أمراً بكيفية الموت المحبَّب إليَّ ولكني تراجعت.

 أتأمل جبين الأمس، إنها الأيام .. سفني المبحرة نحو شواطئ الهلاك، أو القوافل التي بعضها في أثر بعض، أحمالها مَلئ بالمفاجآت، فها هي الدنيا تُعذِّب محبّيها، وتؤانس مبغضيها، أو الأشواق التي تثوي في قلبي الذي أتقن الحزن حتَّى أدمنه، ليحيلني إلى خرقة بالية.

دَنَّست حياتي بحزني، وأهلكت نفسي بهمّي، أعمقت في شغاف قلبي أخاديد الحسرة على ما مضى من حوادث الدهر، وما غَرَق من سفائن العمر، ووقفت يعصرني حبل الحنين إلى المدبرات من ذكرياتي، فبعض العواطف تحرمنا من الحياة، فلم يزدني التوجّد على ما قد سَلَف إلا وجعاً وحسافة، وقلقاً وكلافة، ولم أرث من تقليب صفحاته إلا الألم والأسى، ففَنِيَ قلبي، وجفَّ صدري.

 أسير أُحدِّث نفسي، وأرسم خطوطاً جنائزية في الهواء .. جسدي مشرَّعٌ للظمأ، فليس لي أيادٍ مُتَّصلةً بسماء الغرام .. مجتمعي .. وَسطٌ ينزف .. لهاث البشر وأنفاسهم، لقد تَلَظَّت الشوارع بصخبهم وعنفهم واضطراب أفعالهم..

هكذا كانت ذكرياتنا تعبر أَزّقة الرياض وممرَّاتها الضيّقة، وتربض في زوايا الأمكنة المخلوعة من الحياة، صارت شاهداً أبديّاً علينا، لم نجد ممحاةً لأوجاعنا غير موتٍ يتَعقَّبُنا ليموت بعضنا غدراً، ويشفق بعضنا على نفسه حَتَّى يغرق كمداً وحيرة لا تنقطع، فنمسح بمنديل الصبر دمعة اليأس، لنُعلَّقَ صُوراً باهتةً مثلما عشنا حياةً باهتة..

وتمضي الرياض تحدوا ذكرياتنا دون تَوَقّف..