مكتوب
حادة بوطاهر
ضاقت به الدنيا ، وكلما ازدادت الأمور تعقيدا.. كلما توجه في هدوء إلى بارئه لا يراه أحد.. عينان مغرورقتان حانيتان من فرط وجع السؤال لماذا أتجرع مرارة الفشل ؟ وشفتان تتمتم بكلمات خافتة كأنها بلسم لروح مكسورة في زمن عجيب كهذا الذي نعيشه!!!.
بعد سنوات من البحث عن الوظيفة لم يشأ القدر أن تكون من نصيبه..!
استعد ذلك اليوم استعدادا ..أخذ لوازمه ثم ودع أسرته الصغيرة، ليخوض غمار الامتحان نفسه للمرة الثالثة على التوالي من كل عام في نفس الزمن وفي نفس التاريخ .. فقد اعتاد على الأجواء : كيف يحرر مقالات في مواضيع شتى وقضايا معاصرة.
كان حلمه يكبر معه منذ صغره أن يكون قاضيا، وظل الحلم النفس الذي يتنفسه كل يوم وليلة..فلم يتوان في التهام الكتب والجرائد والمجلات.. لم يكن أي شيء يثني عزمه وحتى يبقى قريبا من عالم الكتاب فقد فتح مكتبة قرب الثانوية التي تبعد عن بيته بخمس كيلومترات عساه يصل الماضي بالحاضر دون تراجع أو تخاذل..
بعد أن ينهي امتحاناته ومناقشاته مع الطلاب المتبارين حول الظروف العامة للمباراة وحول المستقبل والأمل في الوطن الحبيب .. يكتشف دائما أنه الأقدم من بين الطلاب الذين يكررون التباري للمرة الثالثة.. لم يكن الأمر مدعاة للاستغراب فكل ما هناك أن القاعدة الأصلية التي تسير على الجميع أن تكرر ذاتك دون يأس . وإذا صرت ضحيته فجأة فليقرأ عليك السلام..‼
يعود أدراجه إلى البيت سعيدا فكل شيء على ما يرام ..في المرة الأولى كان يخبر زوجته بدقائق الأشياء عن الرحلة .. تعلوه ابتسامة مفعمة بالأمل والحيوية.. ثم تغير الوضع بعد ذلك فبات يلزم الصمت وكأن الامتحان عرف سنوي ينبغي أن يوفي حقه فقط..
كبر الحلم وكبر معه اليأس فالمرة الأخيرة آخر فرصة له، فالعمر المحدد للامتحان أوشك على النفاد..
نجح سعدان في المرات الثلاث في المراحل الأولى وفي المراحل الثانية تشهد اللجنة له بالاستحقاق وتنوه بقدرته البليغة في الإقناع وتطري عليه معترفة أنه المرشح الوحيد الذي جذب انتباه أعضاء اللجنة .....
في آخر عهد له بالامتحان أخبر الجميع بحالته العائلية وأنه أب لطفلتين و له من الأفكار الجريئة التي يود بلورتها في المجال .. فكان الجواب القديم يتردد على مسامعه لو كان الأمر بيدنا...... ولكن.......
- الأمر لله من قبل ومن بعد .
عاد أدراجه ويقين يحذوه أن النهاية ستكون هذه المرة إيجابية..
لكن يا فرحة ما تمت !
النهاية القاسية بعثرت أوراقه.. التفت حوله حيرة وتردد.. وذاب في صمت طويل طويل وكأنها صدمة ربما لم تكن في الحسبان ..
-2-
قرر أن يتخلص من المكتبة ومن كل شيء يذكره بعالم الأوراق والمعلومات والحوارات والنقاشات.. فالإحساس بالفشل أو بالأحرى التحسيس بالإفشال ترانيم يتغنى بها المغنون في طريق الكادحين .. وما أكثر المطربين دون تطريب في زمن الصخب‼ في زمن صناعة الكلام لا صناعة السماع.
كيف له أن يستعيد توازنه وقد أظلمت الدنيا في وجهه وولت الآمال أدراجها ؟
دخل إلى حجرته لا يرغب في رؤية أحد حتى أقرب الناس إليه ..بعثر الملفات.. القانون.. المصطلحات القانونية.. الأزمة السياسية ..ثم أجهش بالبكاء مثل طفل صغير..
لا أحد يستطيع أن يوقف اللحظة أو الزمن ثم يطوي الصفحة لغير رجعة أو يصرخ في وجه الجميع كفاكم تلاعبا بأحلامنا
- "ليست نهاية الدنيا يا زوجي الحبيب من يدري لو يقيض الله لك النجاح في
هذه المباراة لأصبت بمكروه قد لا ترى فيه طفلتيك أو تحرم من نعمة أنعمها
الله عليك.. او تخطيء الحكم على بريء أو ينتقم منك جاهل ..... خمن جيدا في المستقبل فما فات لم يكن ليصنع لنا المستقبل إلا ما كان من أنفسنا التواقة إلى صناعة حياة جديدة فلنغير قدرا بقدر".
كانت كلماتها الرنانة المفعمة بالود والحنو كافية بأن تفتت الصخر وتذيب الجليد رغم أنها أخفت الشيء الكثير .. فحسراتها صيرتها نغيمات الرضا والقبول وأحلامها في عيشة مترفة نسجتها عفافا وكفافا حتى لا تمد عينيها لأشياء تزهو بها الدنيا ....
سعدان خرج من صمته ..في اليوم التالي طلب من زوجه أن ترافقه إلى الخارج ،كان يريد أن يحادثها في موضوع .. اختار لها أحسن مكان و أهداها وردة ثم استجمع قواه وأخيرا نطق:
- ما كان ، صار في خبر النسيان لكن لن أنسى أنك عقلي الذي يرجح بك كلما أخفقت......
قاطعته قائلة :
- هل ترى هذا القرص الذائب هناك؟ مشيرة إلى الأفق الباسم.. هل تراه؟
- نعم وبدون شك
- إذن هي الحياة تبدأ عندما ينتهي معه الأمس ونحن الغد يا أغلى الناس.
بعد مرور شهور عزم أن يبدأ من جديد وأن يكدح دون أن يتوانى أحيانا تعود إلى ذكراه كل الأحلام القديمة فيطردها إيمانا منه أنه قدر...