سر العودة

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

ضاقت به السبل و اشتدت الحاجة و لما لم يعد عمله المتواضع كبائع متجول في باص قديم مجدياً ،عشعشت في فضائه فكرة سوداوية عززها تراكم الضرائب و تآكل الدخل – على محدوديته – رآى أن ساعة الرحيل قد أزفت و أن مساحة الوطن قد ضاقت به ، و أن طرقاتها ما عادت تحتمل دبيب خطواته . حاول إخوته  و أصدقاؤه ثنية عن مجرد فكرة الرحيل لأنها صنو الموت أو تشمع كبدي قاتل ، إلا انه ركب صهوة عناده المعروف رغم أنه طيب السريرة.

لقد صبرت عقداً من الزمن دون جدوى و هاهي سجلات المصلحة والفواتير التي تنتظر السداد و هذا إيصال وصل للتو  من البنك. قال بشىء من الأسى و المرارة.

نظر احد أصدقائه المقربين إلى الإشعار البنكي بدافع من الفضول و قرأ......"بسبب عدم تغذية رصيدك منذ فترة طويلة فإننا سنكون مضطرين لإغلاق الحساب خلال أسبوع ..."

ما دام الوضع المالي بائساً إلى هذا الحد فكيف لك أن تبدأ خارج الوطن- ألا تحتاج إلى بنية تحتية و مبلغ مالي محترم تبدأ به بكرامة ؟ تساءل صديق آخر.

لقد جهزت للأمر عدته و للسفر حقائبه و خطته، إذ  أنني سأبيع قطعة الأرض الزراعية التي ورثتها عن المرحوم أبي و أبيع أثاث البيت كاملاً ثم أقوم بتأجير شقتي لصديق و بمبلغ مناسب- قال بارتياح كبير.ثم أضاف" إن بضعة آلاف من الدنانير كفيلة بأن تبعث الحياة في العروق و التفاؤل في النفوس و حجر الأساس في مشروعي القادم. أعرف ان هناك مخاطرة و لكن الحياة كما يقول الحكماء هي المخاطرة و المغامرة و لا طعم لها من دونها، و نفث دخان سجائره من أعماق صدره كأنه يريد أن يرسم حجاباً ساتراً أمام محاوريه كي ينسحبوا بهدوء أو يختفي بسلام.

***********

وجد نفسه كضرير يتحسس طريقه في أطراف مدينة كبيرة، و كانت الحافلة مثقلة بحقائبه وضجيج أبنائه وعبوس زوجته المترددة.هاهي المدينة الممتدة عند خاصرة الصحراء ليست كما عهدها سابقاً- إنها متخمة متمدده كوباء سرطاني غامض ابتلعت  الأماكن الخضراء و البساتين و أحالتها إلى هياكل اسمنتية متكدسة.الأزقة تزدحم بعشرات الأطفال و تفوح منها روائح لا تبعث سوى التقزز.

أقترح عليك أن تختار شقة فندقية مفروشة لفترة مؤقتة حالما تستأجر منزلاً لائقاً-اقترح السائق

لا بأس من الفكرة- هل تعرف واحدة منها؟

أمام أحدى البنايات المتخمة بالشقق الفندقية نزلت الأمتعة و السكان الجدد و تم الاتفاق سريعاً فالأجرة محددة و حاله كبقية المستأجرين.

بعد أيام بدأ بدراسة السوق من خلال بعد أصدقائه القدامى و لاقت فكرة استئجار معرض سيارات و البدء في استيراد بعض السيارات الكورية عنده قبولاً.كانت البدايات مشجعة إذ أنه لم يضيع وقتاً طويلاً في البحث و بدأ يكتسب صداقات جديدة.يبحث عن شقة سكنية دائمة قريبة من المعرض، إلا انه تفاجأ  بالأسعار المرتفعة إذ أن الشقة المناسبة في حي راق لا تقل أجرتها  السنوية عن ثلاثة آلاف دينار تدفع مقدماً ! وأخيراً تمكن من العثور على شقة متوسطة المساحة في بناية حديثة غير أنها تقع تحت مستوى الشارع. تقبل الوضع على مضض هروبأ من الشقة المفروشة. كان السكن تحت مستوى الشارع دون مستوى طموحه و شكل صفعة  سددتها المدينة لشموخه و عنفوانه.

  مرت الشهور الثلاثة الأولى و كانت وتيرة المبيعات معقولة إلى حد ما بحيث غطت المصاريف الكبيرة، و فجأة من دون سابق إنذار خيم الكساد سوق السيارات ربما تأثراً بركود الأسواق العالمية أو لضعف القوة الشرائية للناس.المدينة تكشر له عن أنيابها من جديد و تجعله يئن بصمت ليكتشف أنها ليست المدينة التي عرفها قبل عشرين عاماً.

  الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت في العطل الذي أصاب شبكة الصرف الصحي في البناية حيث أن المقاول كان قد غش في مواد البناء ليضمن أرباحاً طائلة فتعطلت خطوط الصرف الصحي فقذفت بمكنوناتها في أرجاء الغرفة و تسللت إلى غرفة نومه بالاضافة الى تسرب آخر من الأعلى واستغرق إصلاح الموقف أموالا طائلة.

الهموم تتساقط عليه كقطع الليل البهيم..يكاد يجهش في البكاء، يتمالك نفسه ويضع رأسه بين راحتيه في محاولة لاحتواء الموقف الذي لا يتمناه لأي إنسان.يعبر في مخيلته الحدود و يتسامى فوق الجراح.

  في اليوم التالي ظهرت عند مدخل البناية يافطة بالبنط العريض" للبيع أثاث كامل بأسعار مغرية جداً". و لما حزم حقائبه من جديد أدرك أن حسابات الحقل ليست دائماً مطابقة لحسابات البيدر. وصل مشارف الوطن احتضنته بلدته بسلام  و ما أن اشتم عبق رحيق البرتقال من الحقول المحيطة التي تسور البلدة حتى تساقطت همومه وأحزانه و خفف عليه من وعثاء السفرو تبدلت كما تبدل أفعى ثوبها البالي.