المرحومة

أحمد صرصور

[email protected]

حان موعد اجازته السنويه . حزم امتعته , وحمل حقائبه . توسط باحة البيت , ونظر الى كل ركن فيه , مودعا الصغير, والكبير . تمعن في افراد  اسرته , ثم تابع خطاه . وما يكاد ان يفعل , حتى وقف مرة اخرى , لينظر الى الخلف . وكأن قلب المؤمن دليله . انه يشعر في قرارة نفسه ,  باحساس غريب , احساس الفقدان لاحدهم . يساوره شعورا بالقلق ان جللا سيحدث .

فكر بالغاء الاجازة . لكن  بماذا سيبرر تخلفه عن اصحابه , الذين ينتظرونه في الحافلة , امام بيته . هل يعلن عن مكنونات قلبه امامهم , ليستخفوا عقله , ويتهمونه بقلة الايمان . وتضيع فرصته الوحيدة , لهذه الاجازة المجانيه , التي ينظمها المصنع للعمال .

 لا , لن يضيِّع الفرصة على نفسه .

يخطو عدة خطوات للامام , ليعود وينصاع لهواجسه . ثم يقف , وينظر الى الخلف , الى افراد اسرته , عساه ان يستنبط , ولو باحساس مرهف, من ذا الذي لن اراه مرة اخرى . من سافقد يا ترى؟

 ولكن يتمتم مرة اخرى , باعوذ بالله من الشيطان الرجيم..... واستغفر الله العظيم .... والمكتوب على الجبين .... والله عالم الغيب..... حتى انسل من باب بيته القديم , ليستقل الحافلة .

استقل الحافلة , واتخذ له مجلسا . فكره ما زال منصبا في تفقد اسرته . انه في حيرة من امره . الم يكن الواجب , ان يستغني عن رحلته هذه , ليبقى وسط اسرته ؟

فاذا كان فكره قد شُغل , ومن اللحظات الاولى للرحلة , على بيته . فكيف سيكون وضعه بين طيات ايام الرحلة المقبلة ؟

هل سيجني متعتها , ليخزنها في ذاكرته , كما في كل سنه؟

 من الافضل ان يعود الأن , قبل ان تقطع الحافلة , شوطا كبيرا في السفر . لكن سرعان ما تعاوده افكاره الى نقطة البداية.

 اعوذ بالله .....والمكتوب ...... والغيب في علم الله....

قرر مجاراة اصحابه , فكتم هواجسه . ولتكن مشيئة الرب .

 انقرض اليوم الاول من الرحلة , وتحول لتاريخ . وتبعه الثاني , والثالث . وحل الرابع ضيفا , ليحمل له النبأ السيء , الذي حسب له الف حساب .

 لقد وصلته رسالة على جواله مفادها : احضر حالا, لقد ماتت الغالية دهسا !!!!

-  هذا ما كنت خائفا منه .

-  لقد تحقق القابوس الاسود .

صرخ باعلى صوته , انا لله وانا اليه راجعون . لقد كان قلبي دليلي . توقعت فقدانها , هي بالذات . لِما رايت في عينيها من حزن . اعتقدت انها حزينه لرحيلي , فاحتضنتها , وقبلتها بين عينها , كانت تملأ ُعليَّ حياتي .

 اول ما تفعله عيناي في الصباح , هو النظر اليها ,لاكحلهما بجمالها . تواجدت جنبي في الضيق . لا تفارقني في الليل , ولا يغمض لها جفنا , حتى اهجع الى  مضجعي .  تودعني حتى الباب ان خرجت. واول المستقبلين لعودتي . حرصت على تقديم الفطور لي يوميا , وما اشهى ما تحَضِره لي من بيض .

 ضممتها لاسرتي صغيرة . ترعرعت بين احضاني . كم كانت رائعة, بياضها يعلوه صفرة جميلة .

 بارك الناس لي بها . واعتقِد انهم حسدوني عليها.

ايتها العزيزة , لن ينعم لي عيش, من بعدك. ولن اكون في رغد .

لن يحل محلك احدا, حتى لو اضررت , ان اخرج من البيت , بلا فطور .

اسال الله , ان يعوضني عنك بالصبر, والسلوان. وليتغمدك الله في رحمته , ايتها الرفيقة المثالية .

علم احد اصحابه بالرسالة .فنشر الخبر بين زملائه .

جاؤوا ليقدمو له العزاء , وليواسوه في محنته .

قال احدهم : لا عليك يا اخي , سآتي لك باثنتين , ان اردت غيرها .

رد عليه : لو آتيتني باربع , لن تقرّ لي عينا , ولن يغمض لي جفنا , من بعدها . فانا يا اخي , اعتدت عليها , واعتادت عليَّ , لدرجة اننا اصبحنا , روحين في جسد واحد .

قال الثاني : لماذا لم ترافقك في هذه الرحلة ؟

قال : يا ليتني فعلت , لما كانت قد دُهست .

وقال آخر : استغفر ربك يا اخي , فهذا نصيبها , ولن تفرّ منه , حتى لو وضعتها في بروج محصنة .

 ساله احدهم : ماذا كان اسمها ؟

رد عليه : ام علي رحمها الله .

قال آخر : هل في جعبتك صورة لها , لنتعرف عليها , نحن اصدقاؤك !!

-  نعم يا اخي .

مد يده الى اعماق جيبه , ليعود بها بعد هنيه , تحمل الصورة , التي دفعها بكل لطف وحنية , الى صديقه .

نظر الصديق الى الصورة , بتعجب ودهشة لا نظير لهما , وترجل من مجلسه , ليطلق صرخة , تلتها ضحكة , بل قهقهة طويلة , جذبت اليه الانظار .

استمر الصديق في القهقهة , موجها كلاما بذيئا الى الفاقد .

- انني لم ار اغبى منك احدا , على وجه البسيطة . تستغفلنا , وتتلاعب باحساسنا .  وقذف بالصورة في وجهه .  ثم خرج يمارس اكبر قهقهة , عرفها كتاب جينيس .

نظر المعزون بعضهم الى بعض , تعلو وجوههم الدهشة لهذا المنظر . واخذ كل واحد منهم يلتقط الصورة من الارض , فينظر اليها , فتتحول دهشته , الى قهقهةٍ عاليةٍ , ثم يقذفها في وجه الفاقد , ويخرج  تاركا للعزاء .وهكذا دواليك . منهم من زاد ذلك باللفظ البذيء(ايها الغبي) .

دنا منه آخر المعزين , وقال: ما رأيك ان اطلب من الله في صلاتي ان يُلحقك بها؟    ثم تابع سيره خارجا , وهو ينفض بيديه .

- دجاجة !!!! دجاجة!!!! ايها الغبي .

رد عليه الفاقد : سامحك الله . أقليلة هي قيمة الدجاجة عندكم ؟ اليست هي من تعطينا البيض ؟