الزّنديق والناسك
د. هوار بلّو /العراق
ذات يوم من أيام الربيع ، أخذ الزنديق قراطيسه وخرج من بيته في الصباح الباكر ميمماً وجهه صوب ضواحي القرية بعيداً عن الناس حيث يخيم الهدوء والسكينة . كان عازماً على أن يدوّن جملة من التناقضات التي لطالما لاحظها في هذا الكون ليسوقها أمام أهل القرية كأدلة دامغة على افتقار هذا الكون لأوجهٍ مختلفة من الدقة ويستبعد بها في الوقت نفسه احتمالية وجود خالق أزليّ يتميز بالحكمة والقدرة ، إذ كان هذا الزنديق على موعد مع ناسك القرية صبيحة اليوم التالي و بحضور جموع غفيرة من أهل القرية ليناظره في مسألة الإيمان و الإلحاد . ولما انتهى به المطاف في ضواحي القرية وشعرت نفسه بالهدوء أخذ يبحث عن مكان يستريح فيه ، فوجد شجرة جوز باسقة تمد مساحة كبيرة من الجوار بفيئها المريح فجلس في ظلها و أخرج قراطيسه و راح يستذكر التناقضات التي طالما ظنّ أنّ الكون يزخر بها منذ الأزل . وقبل أن يستذكر واحدة من هذه التناقضات الكثيرة التي يعج بها رأسه ، انتبه إلى تناقض جديد في هذا المضمار لم يفكّر به من قبل لا من قريب ولا من بعيد . إنّ شجرة الجوز هذه التي يجلس في فيئها رغم قامتها المنتصبة في برج السماء و أغصانها الوارفة فهي لا تحمل غير ثمار صغيرة تكاد جاذبية الأرض لا تكتشف وجودها لخفة وزنها ، بينما نبتة اليقطين التي لا تعلو قامتها عن أديم الأرض غير بضعة أشبار تحمل العديد من ثمار اليقطين الكبيرة الثقيلة التي تُلصقُ قامتها القصيرة بأديم الأرض وتضفي إليها مظاهر الشيخوخة و الكهولة . ثم أخذ يردّد في نفسه :
أليس هذا تناقض ملفتٌ في هذا الكون ؟
وهل هناك أقوى من هذا التناقض ليكون محور المناظرة الموعودة ؟
وهل سيستمر الناسك الخرف ومعه أهل القرية على إيمانهم التقليدي الذي ورثوه عن أجدادهم بعد أن أسوق لهم هذا الدليل القاطع على فساد معتقدهم ؟
ألم يكن الأحرى بالخالق المزعوم أن يعلّق ثمار اليقطين الكبيرة الثقيلة بأغصان شجرة الجوز ليتناسق مع قامتها الشاهقة التي تعانق أعالي الفضاء ؟ و يعلّق في الوقت نفسه ثمار الجوز الصغيرة الخفيفة على أغصان نبتة اليقطين الرفيعة لتتمكن من رفع رأسها قليلاً وتتحرر من العوج و التشوه الذين ابتليت بهما ؟
ألا يدلّ هذا على افتقار الخالق المزعوم للحكمة والدقة في التصميم ؟
وأخذ الزنديق يسطر بريشته هذا التناقض المفرح في قراطيسه ، و بينما البهجة تغمر أعماقه على إثر انتباهه لهذه الحجة الجديدة التي ستكون محور مناظرته الموعودة و ليضيفها إلى جملة الحجج التي عفا عليها الدهر في ذاكرته ، هبّت نسمة ريح هادئة اهتزت أغصان شجرة الجوز على إيقاعها ، فوقعت ثمرة جوز على رأسه ثم تدحرجت على قراطيسه ، فأمعنَ نظراته في هذه الثمرة الصغيرة ثم تطلّع إلى أغصان الشجرة الممتدة في الفضاء ، فتجلّت له فوراً حكمة الخالق في شأن ثمار الجوز واليقطين ، فهمهم قائلاً : (ماذا كان حال رأسي لو كانت ثمرة اليقطين مكان ثمرة الجوز هذه ؟ ألم يكن رأسي ليتهشم على الفور من جراء سقوط ثمرة اليقطين الكبيرة عليها و من هذا الارتفاع الشاهق ؟) ، ثم أخذ يشطب ما كتبه بشأن ثمار الجوز و اليقطين و هو يقول في نفسه : (خير لي أن لا أحسب هذا الأمر تناقضاً ولا أشير إليه غداً ، وأستذكر ما عندي من تناقضات قد أعتدْتُ أن أردّدها في مثل هذه المناسبات ، فأخاف أن ينقلب الأمر عليّ ويتحوّل ما أحسبه الآن في نفسي حجة لي إلى حجة عليّ غداً وأمام مرأى ومسمع من أهل القرية كلها) .