س. ص
(قصة قصيرة)*
م. زياد صيدم
بعد أن أجرى صيانة ضرورية على موتوره قبل منتصف النهار، وفى طريق عودته تذكر أمرا قيل له ليلة أمس؟ فاستبدل وجهته قاصدا زيارة عاجلة لعديله.
اخذ طريق الساحل كعادته.. لأنه اعتاد أن يلقى بتحيته اليومية على صديقه البحر.. كان الجو ربيعيا، ونسمات الهواء تلفح وجهه فتزيده انتعاشا، تُبدد ما تكدس من روتين يومي أصبح لا يطاق.. توقف جانبا بمحاذاة الطريق ..ثم أجرى مكالمة قصيرة من هاتفه النقال، ومضى إلى جهته المقصودة التي أصبحت على بعد أمتار معدودة ...
دخل البوابة الرئيسية..أطفأ موتوره، واتجه إلى القسم والغرفة المحددتين بناءً على وصف عديله قبل دقائق معدودة..استدل على طريقه، فما تزال بواقي إعلانات ورقية تشير إلى الأقسام وأرقام الغرف..
س: السلام عليكم.. قالها بتمديد بعض الحروف وتمغيط التحية..مفاجأة أليس كذلك؟
ص: وعليكم السلام.. وقد فتح عينيه المغمضتين .. فعلا مفاجأة..أهلا وسهلا وقد ابتسم وجهه لرؤيته ..سلم عليه مقبلا وجنتيه.. واستدرك: لم أتوقع وصولك بهذه السرعة..فقد اعتقدت بأنك ما تزال في البيت عندما اتصلت بى.
س: لكنى اتصلت بك وأنا على بعد دقائق من المستشفى.. حيث قلت لنفسي، إما أن تكون هنا أو خرجت إلى البيت.. وفى كلا الحالتين كنت سأزورك حتما اليوم ..وأطلق ضحكة قصيرة واتبعها: طمنى عن صحتك كيف أنت ؟ وماذا حدث ؟
ص: اجلس أولا وسأحدثك بما حدث..عصر أمس شعرت بخذلان وتنميل في يدي وساقي.. ولم اعد أحس بهما..و كأني أخذت تخديرا جزئيا ! فنقلوني إلى هنا على جناح السرعة..وأخشى فعلا من بوادر...
س: ألف سلامة عليك.. إن شاء الله سليمة.. لكن لو تبين بأنها بوادر جلطة فعلا فلا تقلق، فهذه أمور لها علاج ناجع وفعال .. و كثيرون في المجتمع يعانون من أزمات قلبية، وتصلب في الشرايين، وضغط في الدم ، وارتفاع في السكر يا عزيزي.. فلن تكون الأول ولا الأخير..المهم ماذا كان من نتائج الفحوص وتخطيط القلب ؟
ص: ماذا تقول ؟ حاول الاعتدال وهو يبتسم، كمن أراد قول شيء أضحكه.. واستطرد قائلا: جاءوا بجهاز تخطيط القلب وكان لا يعمل للأسف! فسألتهم احضروا الجهاز البديل، فضحك الممرض قائلا مفيش يا حاج جهاز آخر في كل المستشفى !
س: أيعقل هذا ؟ وكيف تصرف الأطباء على ذلك؟ وكيف يستدلون على طبيعة ما حدث لك بتشخيص دقيق للحالة ؟ لإعطائك الدواء المناسب والفعال.
ص: تبدلت تقاسيم وجهه إلى حالة ألم وقهر فقال: عصر أمس لم يزرن أي طبيب لحظة دخولي، وحالتي كانت معرضة لان تتفاقم في اى لحظة.. تصور؟.. وحتى هذا الصباح مروا لعندي وقد أعطوني حقنة فقط.. وكما ترى لا يوجد على حافة السرير كارت معاينة للحالة مثل ما كان متبعا قديما! آه نسيت.. نعم لقد قاسوا لي ضغط الدم فقط.. لكن اليوم جاء لزيارتي قريبي الدكتور عدنان بناء على اتصالي به.. وأجرى تحويلي إلى مستشفى آخر لعمل تخطيط للقلب وصور ملونة لتشخيص الحالة.. ومن ثم سأعود إلى هنا في قسم الباطنة كما ترى !..
س:يصمت والتوتر على تقاسيم وجهه...
ص: ما بك لا تتحدث؟ أين سرح ذهنك وشرد عقلك؟
س: لا..لا أبدا، ولكنى أحسست بألم يعتصر قلبي على هذه الأوضاع الغير طبيعية، وهذا التدهور الذي حدث لأكبر مستشفى كان موجودا.. وما حل بأقسامه المختلفة والفعالة بكفاءة عالية التي شاهدتها في الماضي..و بكثير من الأجهزة والمعدات التي كانت.. فأنت تقبع هنا في قسم الباطنة !!؟.. وهذا ما يحيرني فعلا وأكاد أجن حقيقة فمكانك هناك في وحدة القلب.. أين ذهبت كل المعدات والأجهزة التي تبرع بها العرب والأجانب؟ ودخلت قوافل كسر الحصار بالمعدات الطبية والأدوية التي من كثرتها قد فسدت في المخازن؟ أين ما جلبته قوافل التطبيل والتزمير ؟ أحس الآن يا عديلي برغبة في البكاء !!
ص: لا.. لا تفعل أرجوك لا تبكى.. وكلها على ربك الكريم..
س: ونعم بالله ..لكن هذا ظلم واستهتار بالبشر..أين كنا وأين أصبحنا الآن ؟..لا حول ولا قوة إلا بالله.
ص: يصمت عن الحديث.. ويحاول صب كأس من عصير البرتقال لتقديمه لى.. لكنه يفشل في الحركة..
س: حسبنا الله ونعم الوكيل.. سأخدم نفسي بنفسي ..لا تتحرك أنت..وابق مستريحا أرجوك ..هل تريد معي قليلا من العصير؟
ص: حسنا، ليكن ما قلت.. ولنشرب سويا فاني اشعر بجفاف في حلقي !
مكث عنده قرابة نصف ساعة ، حتى حضر ابن أخيه لزيارته حاملا معه طعام الغذاء.. وهنا استأذن في الذهاب على أن يكون على اتصال معه.. متمنيا له الشفاء العاجل، وأن تكون زيارته القادمة له في بيته، بعد خروجه بالسلامة.
ما أن خرج من بوابة القسم إلى الهواء الطلق.. حتى أشعل سيجارته التي استشعر رغبة قوية في تدخينها.. تحرك متباطئا نحو باحة المدخل الرئيسي للمستشفى..وما بين بوابة القسم ومكان ركنه لموتوره ..مر بمخيلته فيلما وثائقيا عن الصومال وجنوب السودان..استعاد وعيه على سيجارته تلسعه، فقد حرقت ما بين إصبعيه .
اعتمر خوذته.. فهو نادرا ما يضعها على رأسه؟ لكنه أحس بضرورة قصوى لها الآن ! انطلق عائدا وقد سلك الطريق الساحلي المحبب إليه.. وصل سوق بلدته.. أراد أن يقضى بعض حاجياته المنزلية.. وقف على بسطة الخضار .. لمح احد أقربائه ينزل بمحاذاته من سيارة أجرة.. ترجل منها .. اتجه نحوه بهمة بدت جلية على وجهه.. بادره باستهجان وامتعاض شديدين؟ عما رآه قبل دقائق من سرعته الفائقة على الطريق الساحلي.. وتجاوزه لسيارات الأجرة بسرعة جنونية.. و مهنئا إياه على سلامة الوصول!!.
إلى اللقاء.
* قصة حقيقية