ذرية بعضها من بعض
ذرية بعضها من بعض
عبد الرحمن الحياني
( وضاح ) شاب في المرحلة الثانوية ، تبدو على وجهه ملامح الذكاء ، فعيناه المتوقدتان ، وشعره الكستنائي المعتدل الطول ، ينمان عن اتزان وثقة بالنفس ، لا يعرف التردد إليه سبيلاً ، له هدف واضح في حياته يسعى إلى تحقيقه ، إنه التفوق في دراسته ، والتخرج من كلية الطب ، همه أن يكون طبيباً ناجحاً يخدم المجتمع ، مثله وقدوته في ذلك والده الذي يعمل أستاذاً جامعياً ، ذاك الرجل العصامي ، ابن الخمسين ، الذي لم تؤثر فيه الأيام كثيراً ، فهو ما يزال معتدل القامة ، تميل ملامح وجهه إلى الجدية بعض الشيء ، وشعره الذي وخطه الشيب ، ينم عن تمرس وخبرة في الحياة ، يتابع شؤون أسرته دون كلل أو ملل ، فهم أمله في الحياة ، ونجاحهم يعد حجر الأساس في حياته ، ... جلس وضاح قرب والده على الأريكة المجاورة وبادره قائلاً :
ـ كم هو جميل أن يحقق الإنسان طموحه ، وأن يكون الأول في صفه - يا والدي – قالها وضاح وشعور بالسعادة يملأ عليه كيانه وجوارحه ...
ـ أجابه الوالد موافقاً : أجل ، الفضل كله لله - يا ولدي – فهو الذي يستحق الحمد والثناء ، لأنه هو الذي وهبنا العقل ، ورزقنا نعمة التفكير . وبعد أن أتم الوالد عباراته تلك ، راح وضاح يردد بصوت مملوء بالخشوع : الحمد لله ..الحمد لله ، ثم بادر قائلاً : لم يغب ذلك لحظة واحدة عن خاطري - يا أبي - فأنت الذي غرست في قلبي بذور مراقبة الله سبحانه وتعالى في أموري كلها ، في السر والعلن .
ـ مرحى لك - يا وضاح - وبارك الله فيك ، قالها الوالد وهو يرنو إلى وضاح بنظرات ملؤها الإعجاب والرضا ، ثم تابع حديثه قائلاً : هل ستجيب دعوة زميلك ( سعيد ) إلى الحفل الذي سيقيمه بمناسبة تفوقه في الدراسة ، ألا تحب أن تدخل السرور إلى قلبه ؟
ـ لم أحزم أمري بعد - يا أبي – ولم أتخذ قراراً بذلك .. فأنا متردد بعض الشيء .
ـ ولم التردد - يا وضاح - ؟ فالتردد صفة مذمومة ليست من صفات الشاب المسلم .
ـ إنها أول مرة أحضر فيها حفلاً كبيراً كهذا و... و ...
ـ وما الجديدة في الأمر ؟! قالها الوالد باستغراب ...
ـ في الحقيقية - يا أبي – إني ... إني لا أشعر بضرورة المشاركة في حفل زميلي سعيد ..
ـ لا - يا وضاح - بل هناك ضرورة ، فمشاركتك الآخرين أفراحهم وأتراحهم ، مما أمر به ديننا الإسلامي الحنيف ، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه ، ولا تنس - يا بني - أن إجابة الدعوة مما أمر به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( إذا دعيتم فلبوا) هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى أنسيت أنك ستقيم الأسبوع المقبل حفلاً مماثلاً - يا وضاح - ؟ ! ألا تريد دعوة زملائك ليشاركوك فرحتك ؟ أم أنك ستستثني بعضهم بسبب ما بينك وبينهم من تنافس ؟
ـ لا لم أنس - يا والدي - ولكن ...؟
وهمس وضاح في سره : لقد حاصرتني يا أبي ، ولم تترك لي مجالاً للتخلص ...
ـ ولكن ماذا يا بني ، فكما تحب أن يحضر حفلك من تحب من أصدقائك وأقاربك .. وكذلك زميلك سعيد ، بادر يا وضاح فأنت جدير بذلك ... هيئ نفسك يا بني واطرد وساوس الشيطان فالمنافسة الشريفة لا يجب أن تخلو من كل حقد وضغينة ..
ـ جزاك الله عني كل خير - يا أبي - فقد فتحت عيني على أمور غابت عني ، وأعدك أن أحضر حفل زميلي سعيد ، لأشاركه فرحته فأنا أحب لأصدقائي وزملائي ما أحب لنفسي ، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "
ـ بارك الله فيك - يا وضاح - ، فكم يعجبني فيك انحيازك للحق أينما وجدته ، وهذا من خلق المسلم الصادق - يا بني - فهو مأمور أن يدور مع الحق حيثما دار ، وأن يأخذ الحكمة أنى وجدها .
ـ هذه بعض صفاتك التي أخذتها عنك - يا أبي – فكم تعلمت وأتعلم منك ...
ـ والآن - يا وضاح - خذ هذه المبلغ من المال لتشتري هدية مناسبة لزميلك ، ففي الهدية تعزيز لأواصر الصداقة والمحبة بين الإخوة والزملاء وعملا بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : " تهادوا تحابوا "
ـ ما أسعدني بك - يا أبي – قالها وضاح ، وراح يعانق والده عناقاً حاراً ...