حلاق الزعيم
علاء سعد حسن*
منذ سرى نبأ إصابة (احمد المهدي) بالرعاش وبلاط القصر في حالة استنفار.. و(أحمد المهدي) هو حلاق الزعيم منذ أكثر من عشرين سنة كاملة، ولقد تجاوز الرجل السبعين من عمره، وأصاب الوهن جسده الضعيف الهازل منذ فترة فحاول المرة تلو المرة، وقدم الالتماس في إثر الالتماس من أجل الحصول على حقه الطبيعي في التقاعد، لكن الزعيم كان يرفض في كل مرة، ويزداد رفضه إصرارا كلما تقدمت بـه السن، قال له ذات مرة :
تدري يا أحمد يا مهدي لو أن لك ابنا لاتخذته حلاقا شخصيا لي ولسمحت لك بالتقاعد والراحة والاسترخاء كما تريد.. لكن قدرك هكذا يا رجل يا عجوز أن تمضي عمرك كله بجواري فأنت في مهمة قومية من أجل الوطن..
ثم ضيق الزعيم عينيه وأضاف وهو يزفر:
أنا أيضا أتمنى اليوم الذي أستريح فيه ولكن..
ترك الزعيم جملته معلقة، فتبسم أحمد المهدي في وجهه كابتا بقوة مشاعر مخزونة كأنه يضغط عليها بحجر أصم حتى أنهى مهمته اليومية في حلاقة ذقن الزعيم، ولما خلا بنفسه سمح لعينيه الكليلتين بالبوح بدمعات ألهبت خديه المغضنتين، لقد كان له ابنا.. كان سامي هو كل أمله في الحياة، ورغم ذلك لما اختطفته صغيرا يد الموت حمد الله، فرح وحزن، ضحك وبكى، بللت دموعه زوايا ثغره المنفرج من أثر الابتسام، قال لنفسه وقتها: لعلها رحمة
كان قد أصبح حلاقا للزعيم منذ أكثر من ثلاث سنوات، وكان سامي قد شارف عمره على عشر سنوات، كان ينظر إلى براءته بإشفاق، مكتوب عليه أن يعده ليخلفه في مهنته ومكانه( حلاق الزعيم )، فما كان سامي لينفك من هذه المهمة الوطنية المقدسة كما لا يمكن أن ينفك هو شخصيا منها..
كانت كل سنة تمر عليه في هذا القصر المنيف تؤيد وجهة نظره، فهو لا يخرج من القصر أبدا، وهو بأمر الزعيم أو بحكم البروتوكول لن يعفيه من وظيفته إلا الموت.. أين يذهب( أحمد المهدي) بما يحمله من مخزون الأسرار وتفاصيل كثيرة عن حياة الزعيم وعائلته وحاشيته؟.. إنه يسمع أن مهندسي الكمبيوتر بإمكانهم تفريغ ذاكرته من كل المعلومات المخزنة فيها، فهل يأتي على الإنسان حين من الدهر يخترع فيه عقارا يفرغ ذاكرة الآدميّ من رصيد الذكريات ليبدأ من جديد!! الزعيم ذاته لا يستطيع أن يتقاعد!! فالأبناء والعائلة والأصهار والحواريون لا يمكن أن يسمحوا له بذلك، هم يعيشون في خير زعامته، فأين يذهبون إن رحل؟ إنهم يعتصرونه إلى آخر قطرة من دمه..
والقصر المنيف حلم من الخارج سجن مبطن بالذهب من الداخل، ظاهره الرحمة، وباطنه من قبله العذاب، هو حياة مستقلة، أو قل منعزلة عن الحياة، ففي القصر كل شيء من أي شيء إلا الحياة ذاتها، فهو يعيش في عالم كبير من الدمى..
( أحمد المهدي )وهو يتلقى من طبيب القصر نبأ إصابته بمرض الرعاش إصابة مزمنة تلازمه حتى الموت، شعر بحالة كالتي انتابته يوم وفاة ابنه سامي، لكن ابتسامته اليوم لا يلامسها أثر من دموع، هو يذكر أنه حمد ربه في المصائب الكبرى مرتين، مرة يوم وفاة ابنه، ومرة عندما أصابه المرض، لعل في مرضه الخلاص من ممارسة المهمة القومية التي لا تتوقف.. ابتسم لنفسه وهو يتذكر كيف كان تكالبه وكانت معركته الشرسة مع كل منافسيه من حلاقي البلد ليدخل هذا القصر.. واتسعت ابتسامته لنفسه وقد أطلق لخياله العنان ليرَ شباب وكهول الحلاقين من أصحاب الحظوة والمهارة الخاصة يتصارعون الآن للدخول إلى هذا القصر، فالخبر لن يتم كتمانه طويلا،على العكس لقد بدأ البحث على قدم وساق لاستخلافه بحلاق شاب.. لن تكون رحلة البحث عن حلاق بمواصفات خاصة جدا سهلة في هذا العصر.. هي مهمة قومية لا شك في ذلك، فرأس السيد الزعيم تصبح تحت رحمة موسى الحلاق كل صباح، ولذا يشارك في اختيار خليفته في حلاقة الرأس العظيمة أجهزة عدة على أعلى مستوى في الدولة منها مثلا المخابرات العامة، وجهاز أمن الزعيم، والحرس الوطني وأجهزة أمن الدولة، و..... و....... و........
العقبة الكبرى التي ستواجه الحلاقين في صراعهم على المنصب هي كشوف عائلاتهم، فكشوف العائلة لابد أن تمتد إلى الدرجة الرابعة أو الخامسة، وتشمل الأصهار والأصدقاء والجيران والزبائن أيضا، ولكل حلاق دائرة معارف لن يقل محيطها عن ألف شخص بأي حال من الأحوال، وفي هؤلاء جميعا لابد أن تجد خبايا وزلات وعورات ستظهر حتما لجهاز من هذه الأجهزة، زلات ربما لا يدري عنها الحلاق أي شيء، ولو كان يعلم لقتل صاحبها حتى لا يكون عقبة في طريقه إلى القصر.. فمن بين هؤلاء الألف ستجد ولو شخصا واحدا من الإخوان، وآخر شيوعي، وربما ثالث له ميول إصلاحية على الطريقة( البوشية ).. هل يستوردون حلاقا أجنبيا! إن وصول المناوئين للأجنبي وشراءه أو رشوته أسهل من وصولهم لابن البلد، والحلاق الأجنبي لابد له من أجازة يسافر فيها إلى بلده، وهناك؟.. فالمؤامرات اليوم أصبحت ذات طابع دولي.. والزعيم إن لم يحمه ابن بلده ويفده بدمه، فلن ينفعه الأجنبي..
إذن سيظل(حلاقي البلد) يلفقون التهم ويرمون بعضهم بالعورات والمخازي ويبحثون عن التاريخ السياسي للجد الثالث حتى الجد السابع لعله كان يوما من أصحاب عمر مكرم أو من العرابيين أو من أنصار المختار أو من أتباع المهدي.. أخذت ابتسامة الحلاق الهرم تتسع أكثر فأكثر حتى صارت ضحكة فقهقهة كبيرة عالية، نظر حوله ليستوثق من خلو المكان، فهو لا يريدهم أن يتهموه بالجنون في أواخر أيامه، لقد ذكره ذكر الحركة المهدية باسم جده السادس وهو الملقب بلقبه( أحمد المهدي )، لقد وشى به صبيه وربيبه في مهنة الحلاقة( عباس الدغيدي) متهما جده ذاك( المهدي) بأنه لقب بهذا كونه من أنصار الحركة المهدية، كادت الوشاية أن تؤتي ثمارها، وكان عباس تلميذه هو منافسه الأول على دخول القصر، فقد كان فتيا وحاذقا وناعما في الوقت ذاته، وتذكر كيف بذل محاولات مستميتة كلفته أن يجوب البلاد من أدناها إلى أقصاها ليثبت أن لقب العائلة كان اسما لجده السادس ولم يكن لقبا أو صفة، ولم تكن هناك أي علاقة بين (المهدي) جده الكبير وبين الحركة المهدية.. واقتنعت أجهزة الدولة بأدلته، وفضله كاتم أسرار الزعيم على تلميذه( عباس الدغيدي ) قائلا:
إن الذي يبيع معلمه بمثل هذه الخسة من السهل عليه أن يبيع أي شيء بعد ذلك..
همس لنفسه بتلذذ وهو يهز رأسه وقد اتسعت ابتسامته:
كانت أيام
وسرعان ما تحولت ابتسامته إلى شهقة وجحظت عيناه وتقلصت عضلات وجهه، ثم سقطت ذراعه إلى جواره بلا حراك..
*تعريف بالكاتب
الاسم الثلاثي : علاء سعد حسن حميده
الاسم الفني : علاء سعد حسن
مكان الميلاد وتاريخه : 13/4/1968م دمنهور – بحيرة - مصر
محل الإقامة الحالي : مكة المكرمة - السعودية
الجنسية : مصري
المهنة : فني كمبيوتر
الشهادات الدراسية : بكالوريوس زراعة - دبلومة عامة في التربية (جامعة الاسكندرية)
الاتحادات والأندية المنتسب إليها : رابطة أدباء الشام
الكتب والبحوث التي ألفها ونشرها : عشرات المقالات والقصص القصيرة بمجلات المجتمع ( الكويتية ) – النور ( الكويت ) – المنار ( السعودية ) – رابطة الأدب الإسلامي ( قصة قصيرة ) – البيان – المستقبل ( السعودية ) – آفاق عربية ( مصر ) – المصري اليوم ( مصر ) – المصريين ( مصر ) – اسلام أون لاين – الاسلام اليوم - وغيرها من مواقع الانترنت – كتاب الاعلام بين الواقع والتحديات ( مشاركة مع الدكتور عادل فهمي البيومي – تحت الطبع دار طيبة بالسعودية ) – رواية حتى لا تموت الروح ( يتم توزيعها معرض القاهرة الدولي للكتاب يناير 2008م – دار ليلى للنشر والتوزيع القاهرة).