زواج بالرشوة

1

محمد الخليلي

[email protected]

كانت الأصوات تعلو هنا وهناك فرحا وابتهاجا بقبول الطرفين من أهالي العروسين ثم قرأت الفاتحة على نية القبول ، وقد حضر كتابة العقد لفيف من الأقرباء والأصحاب ، وانطلقت زغاريد النسوة لتضج بها أركان البيت معلنة بدء حياة زوجية جديدة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان وأبعاد . فمن ناحية ها هي خلية اجتماعية جديدة تبنى من رجل وفتاة يريدان أن يبدآ الحياة الزوجية على سنة الله ورسوله منهيين حياة العزوبة تأسيا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزواج ؛ فهي سنته وسنة من كان قبله من الأنبياء ، وهي في نفس الوقت استكملت كل شروط عقد الزواج من قبول ورضا وشاهدين ووليٍّ . فقد كان ولي أمر الفتاة هو الذي عرض ابنته للزواج من شاب متدين ومتعلم ومن أسرة عريقة بالأصل والعلم والدين . أما الجديد  في هذه القصة غريبة الأطوار ؛ أنه لم يعهد الناس هكذا أسلوب في الزيجات ، فعادة ما يتقدم شاب عن طريق أسرته ليخطب فتاة من أسرتها ، ولكن أن يقدم رجل ابنته هدية لشاب أحب دينه وخلقه وعائلته ، فذلك مخالف لمألوف الناس ؛ لذلك حصل لغط في أسرة الرجل بين مؤيد ومعارض لهذه الفكرة المجنونة .

ومع كل ذلك كان الرجل قد مضى قدما فيما أقدم عليه ضاربا عرض الحائط عادات الناس التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، فهي مجرد تقاليد ألفها الناس ، ولا مانع في اتباعها ، ولكن المشكلة الكبرى أنهم لا يدعون أحدا من ألسنتهم الحِداد إن هو خالف قيد أنملة جزئية صغيرة من عاداتهم ؛ لذا كان على هذا الرجل أن لا يسمع تعليقاتهم اللاذعة وكأن في أذنيه وقراً ، أو كأنه ممن ختم الله على  سمعه فهو لا يلقي سمعاً لقولة فلان  ممن حضروا الحفل :

(يا أخي ابنته صغيرة لم تتجاوز السادسة عشرة  فعلام التسرع في تزويجها؟!)

 2

وآخر يقول وهو يلتهم صحن الكنافة الثاني : والله حرام لهذه البنت الصغيرة أن تترك الدراسة وهي في الصف الأول الثانوي ، ويضيف ثالث وهو يشرب كوبي ماءٍ بعد أن شرق بحلاوة الكنافة التي ملأ منها بطنه شر ملأ : أنا متأكد أنا العريس قد وعد أبا العروس بإكمال دراستها ، ولكنها حينما تصبح زوجة عنده يتناسى كل وعوده ،

 فيقاطعهم رابع بقوله وقد شد كرسيه ليكون قريبا من الكواليس التي انطلقت بعد الزغاريد : حرام أن تتزوج البنت قبل إنهاء الدراسة الجامعية الأولى ، وأنا بالنسبة لي أخيّر بناتي إن كن يردن إكمال الدراسة الجامعية العليا فلا أقبل حينها خطبة أي خاطب . حينذاك ينضم إلى الحلقة العم أبو عدنان قائلا : والله عقدتموها يا ناس إذ لا ما نع عندي من أن تخطب البنت بعد إنهاء شهادة الثانوية ، وإن صديقي أبا محمود يشرط على الخاطب أن يكمل لها زوجها دراستها الجامعية .

 فيقول الأول : ولكن من الذي يدفع تكاليف الرسوم الجامعية الأب أم الزوج ؟

يجيبه أحدهم : إن كانت البنت تزوجت أثناء دراستها الجامعية فعلى الأب الإكمال ، أما إذا تزوجت قبل البدء بها فنفقتها على زوجها ، ما رأيك يا أبا خالد ؟

أبو خالد : الأمر محير سيما وأن رسوم الجامعات أصبحت باهظة التكاليف ، لذا أقترح أن يستشار في ذلك قاض لحل هذا الخلاف .

أبو عدنان : لا قاضي ولا هم يحزنون ، لماذا لا يكتبوه شرطا من شروط العقد خصماً للخلاف ؟

قال الثاني : على أية حال أنا لأفهم كنه تزويج هذه البنت بارعة الجمال من يتيم لمَّا يتم دراسته الجامعية !

الجميع بصوت واحد : عش رجباً تر عجبا .

الأول : أصبحت الدنيا (بالشقلوب ) .

الثاني : وما يحمله على ذلك ؟

 3

الثالث : لو كان والدها فقيرا لقلنا إنه يريد الاستغناء بهذه الزيجة غريبة الأطوار .

 قال سادس وقد انضم إلى جلسة أكل لحوم البشر : لابد أن سرا ما وراء مثل هذه زيجة غريبة .

الأول : ستبدي لك الأيا م ما كنت جاهلا .

الثاني : أموت وأعرف كنه هذه الغرابة الفاحشة  .

أبو عدنان : لا يا رجل الفاحشة هي عدم الزواج  وليس الزواج عينه فهو يعف النفس ويحصن العين .

الأول مقهقهاً : لابد لأبي عدنان أن يقلبها مواعظ .

الثاني : يعني يقولون أحيانا تبريرا لزواج غريب إن العريس (لقطة) ، فما الذي التقطوه في هذا اليتيم ؟

أبو عدنان : وهل اليتم عيب ياهذا ؟

الثاني : أنا لاأقول إنه عيب ولكن اليتم في حد ذاته نقص .

أبو عدنان : وهل هذا النقص يختاره الإنسان أم إنه يفرض عليه من الله ؟

الثاني : لا تعقدها يا عم أبا عدنان ، فيكفي أن الزيجة نفسها معقدة وغريبة ، ولا ينقصنا تعقيدات أخرى .

أبو عدنان : لا تنس يا هذا أن خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم كان يتيماً ، ولم يعب عليه يتمه إلا مشركو العرب لجهلهم المطبق .

الأول : أظن أن كونك يتيم يجعلك تتعاطف مع الأيتام .

قهقه الجميع لهذه النكتة السخيفة إذ يجدون فيها ردا يناسب سخف أطروحاتهم ، فقاطعهم أبو عدنان بنبرة حادة :

خسئتم فمحمد صلى الله عليه وسلم أثنى ربه على يتمه ممتنا عليه في سورة الضحى قائلاً ) ألم يجدك يتيما فآوى ) .

لم تفلح كل مداخلات أبي عدنان الذي يجد غرابة في مثل هذا الزواج وهو حقيقة لا يستطيع أن يزوج بناته بنفس الطريقة لالتزامه بالتقاليد المعمول بها ولكنه لا يرضى من أكلة لحوم البشر أن  يجالسهم إذا هم تمادوا في غيهم ، فقال لهم قولة حق :

4

اسمعوا وإن كنت متأكدا أن كلامي لن يعجبكم ، قد نتفق وقد نختلف ، قد يكون لكل واحد منا وجهة نظر ، وقد نتجاذب أطراف الحديث فيقنع أحدنا الآخر أو لا يقنعه ، ولكن أن تهزؤوا  بآيات الله وأحكامه فلا جلوس لي معكم ، وسأذكركم بالآية التي لا أحفظها تماما لأنني لست عالماً ولكن أقول لكم معناها وأظنها من سورة النساء : أنه لا يجوز القعود مع من يستهزء بآيات الله .

قال الأول : ألم تعلم يا شيخ أبا عدنان أنه لا يجوز رواية الآيات القرآنية بالمعنى ؟ فلم يرد عليهم أبو عدنان ، بل بادر بالانصراف قائلا هيا يا أبا خالد فلا جلوس لنا مع هؤلاء المستهزئين بآيات الله وحديث رسوله .

قال الثاني : صاحبتك الأحاديث والآيات بالسلامة يا عم أبا عدنان ، نلتقيك بحول الله في زيجة غريبة أخرى لتتلو على مسامعنا الآيات وقد حفظتها جيداً كي لا تقع في الحرمة ، نحن والله نخاف عليك من الوقوع في الحرام.

لم يلتفت إليهم أبو عدنان ، بل وضع كفه في كف أبي خالد قائلا : اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون .

ضحك الجميع ضحكة هستيرية ملأت أركان العمارة كلها  وهم يرددون جملة أبي عدنان ثم قال قائلهم هذه جملة تصلح للرقص سيما ونحن في حفل وأن هذا الحفل يجب أن يُسجل في  سجل (جينيس ) للأرقام القياسية ثم طفق يضحك حتى وقع على ظهره من شدة ما ضحك.

 ثم أذن مؤذن بينهم أيها الصحب : هل بقي من الضيافة من شيء لم نطعمه ، ثم أجاب نفسه إذا لم يبق أي شيء ففيم جلوسنا ؟ هيا يا أصحاب ، باي باي  .

تفرق الجمع وولوا الدبر دون أن يسلموا على والد العروس ؛ لأنهم ملأوا بطونهم من الضيافة الدسمة فمنهم من أكل صحنين ومنهم من زاد على ذلك وما وفروا في ذلك توفيرا ، ولم يدعوا لأي نوع من الضيافة أن يعتب عليهم ، حتى إن بعضهم قال لآخر : يا رجل اليوم ليلة جمعة فدع ثلث بطنك كي تتعشى مع زوجك .

 5

في الزاوية الأخرى كان يجلس رجل مربوع القامة أزهر اللون يسمع جل أحاديثهم ويغيب عنه بعضها حين  يتهامسون وهو لا ينفك يردد لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وفي يده سبحة مئوية يطقطق بها تسبيحا لا لعبا كما يفعل جل الناس ، فأبو الخير هذا رجل يحزن عندما يرى الناس في المجالس قد ملأوا بطونهم ليس من الضيافة فحسب ولكن من لحوم البشر غيبة ونميمة وإفساداً .

وفجأة نادى والد العروس يا أبا الخير أنت كلك خير  وأنت موظف حكومي فهل لك أن تدلنا على أفضل محكمة شرعية قريبة علينا كي نسجل عقد الزواج ؟

فيجيب أبو الخير بنبرة ممزوجة بالأسى : أخشى ألا تصدقني يا صديقي إذا قلت لك أنك ستواجه مشاكل جمة في التعامل مع المؤسسات الحكومية ف

لم يدعه والد العروس يكمل الجملة فقاطعه : وهل نريد تسجيل عقد نكاح أم عقد سفاح ؟

أبو الخير : أنت لا تعرف يا أخي ما ينتظرك من مفاجآت حين تدخل أية دائرة حكومية .

والد العروس : الصباح رباح وأرجو أن لا ألاقي مفاجآت .

 وفي الصباح الباكر ذهب العروسان ووالد العروس إلى المحكمة الشرعية التي كانت تغص بالناس .

سألت العروس أباها : هل كل الذين في المحكمة يا أبتي يريدون تسجيل زواجهم، وإذا كان الوضع كذلك فلم يقولون إنه توجد حالة عزوف عن الزواج في بلدنا ، كما أننا درسنا في مادة الاجتماعيات أنه يوجد عدد كبير أيضا من العانسات  في بلدنا ، أنا لا أصدق ذلك إن كان كل هؤلاء يريدون الزواج ؟

تبسم الأب وقال : قد لا يتجاوز عدد من يريدون الزواج هنا ربع الموجودين .

6

شهقت البنت قائلة : وماذا يفعل ثلاثة أرباعهم .

الأب : أتوقع أن نصفهم يراجع من أجل الطلاق .

البنت وقد وضعت عشرها على رأسها : إذاً ما درسناه في الكتب صحيح وقد كنت أظنه مبالغا به ، ولماذا الطلاق يا أبتي؟

الأب : لأن معظم الزيجات لا تقوم على أساس التكافؤ مثلا .

البنت : وهل من سبب آخر ؟

الأب  : بل أسباب كثيرة يا بنيتي .

البنت : أخبرني عنها يا أبتاه .

الأب : ما يقولون عنه الزواج عن طريق التعارف والحب قبل الزواج وغيرها من الخزعبلات التي بدأت تنتشر في مجتمعاتنا وجامعاتنا .

البنت : نعم يا أبي ، فقد أخبرتني بنت جيراننا أنها على علاقة حب مع زميلها الجامعي وأنهما الآن يختبران بعضهما بعضا وقد يتزوجا في المستقبل ، فهل تجوز مثل هذه العلاقات قبل عقد الزواج ؟

الأب : بالطبع لا ، فهي محرمة ، وإذا ما تزوجا غالبا ما يؤول مثل هذا الزواج إلى الطلاق السريع لأنه لم يُبن على أسس متينة ؛ ولذلك تغص قاعات المحكمة بمثل هذه الأكوام البشرية .

وفجأة سُمع صوت امرأة تصيح بأعلى صوتها : منك لله يا ظالم ، أين ستفر من ربنا...

سألت البنت بدهشة : ما بال هذه المرأة ؟

الأب : كلما طال انتظارنا ستسمعين مثل هذه الولاويل يا حبيبتي التي أرجو من المولى تعالى أن يأجرنا منها . هناك كثير من المظالم فقد تكون هذه المرأة طُلقت ظلما ، أو ظـُلمت لأي سبب آخر .

البنت : وما هي  الأسباب الأخرى لهذه الوفود هنا ؟

الأب : هناك من يراجع من أجل النفقة أو التفريق أو الخلع أو أية أسباب أخرى كثيرة .

 7

البنت وقد أخرجت منديلا لتمسح عرقها من شدة الحر : وما الخلع يا أبي ؟

 الأب : أن تطلق المرأة نفسها من زوجها إذا استحالت بينهما الحياة الزوجية على أن تتنازل عن حقوقها .

البنت : ولماذا إذا يصفون الحياة الزوجية بأنها عسل كلها ما دامت المحاكم تغص بمراجعي الطلاق والتفريق والخلع الذي كنت أسمع به واليوم عرفت كنهه ؟

الأب : الأصل في الزواج الديمومة إذا بني على أسس شرعية صحيحة ، ولكن نادرا ما تكون موجودة ؛ ولذلك ترين ما ترينه من العجب العجاب .

البنت وقد اصفر وجهها : إنني أشعر بالخوف لهول ما رأيت يا أبي في هذه المحكمة ، أشعر بأن كابوسا قد جثم على صدري وأجهشت بالبكاء .

الأب : هوني عليك ، وأعطاها منديلا لتمسح دموعها ، أرجو من الله العلي القدير أن يبارك في زواجكما . على أية حال أرى أن ننتظر في الخارج حتى يسمح لنا سيادة القاضي بالدخول فلقد تعبت من مشاهدة وسماع مآسي الناس في المحكمة .

البنت : ولم كل هذا الانتظار مادمنا مع القلة التي تريد تسجيل الزواج ؟

الأب : لأنهم يقولون إن القانون الوضعي الجديد لا يجيز تسجيل الزواج لمن يقل سنها عن الثامنة عشرة .

البنت وقد بدت عليها أمارات الخوف : وهل ، ثم انعقد لسانها فلم تطق الإكمال .

ضمها الوالد إلى صدره قائلا ً : اسمعي يا بنتي أرجو ألا يخيب الله أملي في أن يتم تسجيل هذا الزواج ، وأنا تعودت من مولاي ألا يخيب أملي .

البنت : سمعت الحاجب ينادي على اسمك يا أبتي .

هرع الوالد وصهره وابنته إلى غرفة سماحة القاضي الشرعي ولكنهم لم يأذن لهم بالدخول عليه فورا بل كان لا بد من الانتظار

8

في غرفة مدير مكتبه . نظر إليهم مدير المكتب من عينين شبه مغمضتين شزراً وهو يخرج لفافة سجائر من جيب قميصه الحريري الأحمر قائلاً وهو ينفث أول سحابة من دخانه : ما مشكلتكم حتى أعرضها على سماحته ؟

الأب : أولا نحن نتأذى من الدخان ، وهو حرام ، وممنوع في الدوائر الحكومية ، أضف إلى ذلك أننا في محكمة شرعية أكرر شرعية .

استشاط المدير غضبا وقال : يا أخي أنا أجلس ثلاث ساعات في مكتبي خلال دوامي وكررها ثلاث ساعات ، فكيف لي أن أعيش ،ثم نفث سحابة كبيرة ملأت أرجاء الغرفة ذات الفرش الوثير ، ثلاث ساعات بدون تدخين . اسمع يا هذا أنا أستطيع أن أعيش ثلاثة أيام

دون طعام ولا أصبر على الدخان ثلاث ساعات ، ومن أفتاك أن الدخان حرام ؟ ألا تعلم أن معظم القضاة الشرعيين ليس المدنيين فحسب إنما الشرعيين مدخنون ؟ إذا لم تطق دخاني فانتظر في الخارج حتى يسمح لك البيك بالدخول ، ولا أريد أن أعرف ما مشكلتك  . كنت أريد أن أفهم مشكلتكم كي أوطأ للبيك عنها علني أستطيع مساعدتكم . لكن الآن تدبر أمرك بنفسك ما دمت مفتيا وقاضيا  وفقيها .

سكت قليلا ثم أردف يقول : أخشى ما أخشاه أن تكونوا تريدون التوسط لديه بمسألة قانونية كسن زواج البنت أو غير ذلك . لتعلموا أن سماحته لا يمكن أبداً أبداً أن يتجاوز القوانين . مرة على سبيل المثال : وقد سحب ثلاثة أنفاس من لفافته ورفع رأسه للسقف ونفثها ثلاث زفرات فملأ الجو سحائب سوداء ، جاءته قريبة له ليست من قبيلته ولا من حمولته ولكن من حمولة أخرى يلتقون معها في الجد السابع تتوسطه لتزويج ابنتها التي لما تبلغ الثامنة عشرة ، فقام من على كرسيه وقد ضرب الطاولة بكل ما أوتي من قوة وصوت : أتشفعين في قانون من القوانين الوضعية يا قرابة ؟

 9

فقالت له الأم : ولكن لم يبق لها حتى تتم السن القانونية يا بيك إلا ثلاثة أشهر .

فقال لها : لو أن نيفين ابنتي جاءتني وهي غير مستكملة شرط السن لما زوجتها .

فقالت الأم : بحق قرابة الجد السابع الذي يربطنا لا تفوت علينا هذا العريس اللقطة .

فقال لها : وما مواصفاته ؟

الأم : مليونيييير .

عدها طأطأ البيك رأسه ثم أجابها : في القضية نظر ، ارجعي لعندي آخر الدوام .

ثم سأل الرجل الأب : وما هي مواصفات عريسكم ؟ هل عنده مميزات ؟

وضعت البنت رأسها على كتف أبيها فقد كادت أن يغمى عليها من سحب الدخان التي ملأت المكتب فلم يعد أحد ير أحدا ومن هذه الأخبار غير السارة  التي سمعتها .

رفع الأب رأس ابنته هامسا في أذنها : لا تلق بالا ً لكل ما قيل فقد أخبرتك أن الله لن يضيعنا .

رن الجرس فهرع المدخن لغرفة القاضي قائلا حاضر يا بيك ، فقال : أدخل عليَّ من عندك ثم لا تسمح لأحد بالدخول فقد أنهكت اليوم فقد عملت ثلاث ساعات .

فلما دخلوا عليه وجدوه يضع التبغ في غليونه وقد جلس على طرف كرسيه الدوار موجها رأسه إلى الشباك ، ثم أخرج قداحة ذهبية أشعل بها تبغه ونفث سحابة في وجه مدير مكتبه مومئاً له بالانصراف ، ثم قال : إن شاء الله ما تكونوا جئتموني بتوسط غير قانوني ؟

الأب : كل أملنا بالله أن تتفهم سؤلنا .

القاضي: أوجز فإني جائع وزوجتي اتصلت بي قبل قليل وأخبرتني أنها قد طبخت ملوخية ، يا الله كم أحبها ، أعني الملوخية ، لا تفكروا أني أعني زوجتي ، فأنا لا أحب غير طبخها ، ثم طفق يربت

10

على كرشه  الذي يمتد نصف متر أمامه وكأنه قد حمل فيه خروفا صغيرا ً .

الأب : أريد أن أزوج ابنتي من هذا الرجل الطيب .

القاضي : وما يمنعك ؟

  الأب : القانون ، وقد أحالوني  إليك قائلين لا أحد يستطيع تجاوزه إلا سماحتكم .

القاضي : اسمع يا هذا ، ما دمت تعرف أنه قانون ، فعلام تريد مخالفته ؟

الأب : لأسباب إنسانية .

القاضي : أريد أن أقص عليك هذا القصص رغم أن لعابي يسيل من أجل الملوخية ، وبدأ يقص عليهم ذات القصة التي سمعوها آنفاً ، فقاطعه الأب : يا سيدي

فاستشاط القاضي غضبا وقال : أنت رجل غير محترم لماذا تقاطعني يا هذا ؟

الأب : لأن مدير مكتبك خلال الأربعين دقيقة التي قضيناها معه قص علينا كل شيء وزيادة .

القاضي : إذاً فما تروني أني صانع لكم ؟ أتظنون أني الذي شرع القوانين ؟

على أية حال ، هناك بعض الأمور التي تستثنى فهل عندك استثناء يا هذا ؟

الأب : نعم يا سيدي .

القاضي وقد انفرجت أساريره : وما هو ؟

الأب : إنه يتيم .

القاضي وقد قطب جبينه وانتفخت أوداجه ثم نفث سحابة يشتم منها رائحة التبغ المعسل بالتفاح : أنا أعني ماذا يعمل وكم يملك فتلك هي اللقطة .

الأب : هناك استثناء آخر يا سيدي وهو أن البنت نضجت نضوجا جسميا وعقليا أكبر من سنها وتعادل من بلغت السن القانونية .

 11

القاضي : نحن لسنا في مسابقات ملكات جمال لكي نحضر أجهزة قياس فنقيس هذه أو تلك ، لا حل لكم عندي .

الأب : ألتمس سماحتكم بالرأفة بحل من عندكم .

القاضي : لا أجد لكم حلاً .

الأب : فماذا عسانا نفعل ؟

القاضي : سمعت من الكواليس أن مجلس النواب المنحل سيناقش في جلسته العاشرة بعد الانتخابات السنة القادمة دراسة رفع السن أو تخفيضها ، مع أنني مع الرفع دائما ؛ لأنني وحسب خبرتي كقاض شرعي أجزم أن بناتنا تحت العشرين غير كفؤات للزواج .

رُفعت الجلسة حتى يبت بها المجلس التشريعي الوضعي القادم ، والآن حان وقت الملوخية ، لبس سترته وقد خرج من مكتبه قبلهم قائلا لمدير مكتبه كلاما لا يفهمه إلا هو فقد كان يتكلم من طرف فمه الذي ملأ الغليون معظمه وقد اسودت شفتاه من كثرة التدخين.

خرج الجميع يجرون أذيال الخيبة والأب يردد حسبنا الله ونعم الوكيل .

 وبعيد صلاة الفجر جماعة ً جلس الأب يسبح ورده المعهود حين أتاه أحد رواد المسجد يسأله : ما بالك على غير عادتك ؟ فقص عليه القصص ، فقال لا عليك أنا أعرف قاضيا يمكن أن يحل هذه المشكلة ولكن

قاطعه الأب : إلا أن تكون رشوة ، فقد حاولت عشر مرات في عشر محاكم وفشلت ولم أرضَ أن أدفع لهم قرشا واحدا ، هل تريد أن تبدأ بنتي حياتها بحرام ؟

قال الرجل : تعال بنا نستفت الإمام فهو فقيه جيد .

قال الإمام : إذا استحال حصولك على حقك إلا برشوة تدفعها فالإثم على آخذها .

الأب : وكم سيأخذ سماحته ؟

الرجل : تسعة أعشار المبلغ المطلوب .

وضع الأب رأسه بين يديه وبدأ ينتحب حتى خضب الدمع لحيته وهو يقول حسبنا الله ونعم الوكيل ، حتى الزواج أصبح بالرشوة.