حب الوطن من الإيمان
... الوطنُ يمنح الحبَّ ، كلَّ الحبِّ لأبنائه الأبرار ، ويحنُّ إليهم إذا فارقوه ، كحنين جذع النخلة إلى مجاورته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين يعظ الناس في مسجده المبارك . ويحزن الوطن إذا مانأى عنه أحبابُه لسبب أو لآخر ، والوطن لايبخل على أبنائه بإيجاد أسباب السعادة لهم . ولكنَّ الوطن ــ يابنيَّ ــ لايملك القرارات الملزمة ، ولا القدرة على التنفيذ ...عبارات مازال صداها يرنُّ في أُذُنِ وعيِ الفتى إبراهيم ، كما سمعها نديَّةً مؤثِّرةً من فم أبيه ــ يرحمه اللهُ ــ وكان يصغي إليه في شوق واهتمام ، قبل أن يفارق هذه الحياة الدنيا . ولم تزل كذلك بعد أن فارق وطنَه قسرًا ، وما زال يرددها كلما اشتاق إلى والده ، أو حـنَّ إلى وطنه الحبيب وترابه الطاهر ، وهوائه النقي ، ومائه العذب ، وكلما استذكر الأيام الخاليات في مساجده العامرة ، ومدارسه المتميزة ... فالوطن منحَه أقصى درجات الوفاء ، وهيَّأ له أجملَ وأوفى أسباب السعادة ، ولكنه أُخرجَ ، ولا يزال يركض على مضمار فواجعَ دوَّخت رأسَه ، وأكلتْ سعادته ، وأظمأتْهُ رغم وفرة ذلك السلسبيل من فرات صافٍ رقراق مازال يتدفق ، وما زال صدى خريره الأخَّاذ يردد أعذب شدو ، ويجلو بين عينيه أعزَّ الذكريات المعجونة بالأفراح التي كان يغزل عذوبتها ضوءُ القمر في أبهى الليالي المقمرات .
عاد إبراهيم إلى بيته ، وكأنه التائه المفجوع ـ وربما هو كذلك ـ وجلس يحتضنه الألمُ الذي يريدُه أن يبكي ، أن تترقرق الدموعُ السخينةُ بين عينيه اللتين مازالتا تتوهجان بالعنفوان ، كأنهما عينا صقرٍ جريح ، العنفوان الذي منحه له وطنه العاني ، ولكن هيهات لمثله أن يستسلم لقيودِ تنوُّعِ الأحزان ، أو أن يخرجَ من دائرة المجدِ الذي صاغه الوطن بقيمه الأثيرة التي حملتها الملائكة إلى الأرض ذات يوم ، فكانت رحمة للعالمين . آهِ إنَّ حبَّ الوطن من الإيمان بالله ، وليس لأحد أن يقتلَ جذوة هذا الحبِّ لأيِّ سبب ، أو أن ينثر باقة أزهار الوفاء التي مازال أريجُها فوَّاحا في حنايا صدره . وحاول أن ينامَ ، بعد أن التقط حبَّةَ ( الهستوب ) وبلعها بمساعدة كأسِ ما من أجود ما أنتجتْه معامل تكرير الماء العصرية في الزمن الأمريكي ، وعارك القلق ودخل معه في جولات ، ولم ينتصر أحدُهما على الآخر ، فأذابَ حدَّةَ قلقِه بتسبيحات ما قلاها منذ أن كان في الخامسة عشرةَ من عمره ، يوم تلقَّاها من والده ــ يرحمه الله ــ أول رمضان يصومُه ، وهو يعي معنى السُّمُو الروحي ، واستفزَّ كلَّ قواته الروحية ليسافر على متن رفارفها ، وليستوي على مغنى إشراقات استعاد عليها أُنسَه الذي أودعه في ذلك الوطن النائي الحبيب . فاحتفى بنفسِه التي لم تعرف الكلل ولا الاستسلام لسحب المكاره التي طالما أمطرته همًّـا تبعا لقانون الانهزام الذي لايعتدُّ به ، بل لايرضى بأيِّ عنوان من عناوينه البغيضة .
ويطرقُ عليه البابَ خليلُه الحميمُ أبو ربعي ، وهو يحمل إليه سلَّةً من يقين صادق ، يبدد حسراتٍ أنتجتْها الحيرةُ التي تنتابه في بعض الأحايين ، والأيادي البيض التي تخفف وطأة الآلام والأثقال أضحت نادرة بسبب زخم المآسي والفواجع ، والفوز بأخ يعين على نوائب الحق ، وعلى توسيع دائرة الأمل ، ويجعل من الكُوى الضيِّقة نوافذَ مشرعةً لأنوار الفرج . ولإشراقات تحيي القلوبَ التي دفنتْها مراراتُ الغربة ، ولتنقلها إلى عالم أوسع ، وإلى قوانين أكثر أهمية مما اصطنعتْه الأنفسُ ذات الأعذار المترهلة لأمرٌ نادر ... تحدَّ ث أبو ربعي عن الزراعة الموسمية ، وكيف شاهد بيادر الأفراح تحتضن أشعة الأصيل ، فتستهوي عربات المآثر التي تنقل الجديد من ثمار المغاني ، وفي حين يزدهر سوقُ الابتسامات ، وربما ابتسامات يشوبها الحزن ، فيبدو أن سوق الخير يطلبه الغرباء ، ويتعامل مع حوانيته المترعة عشَّاقُ التفاؤل الذين آثروا الهمم العاليات ، ولم يدنسوا نفوسهم بأقذار الحقد والظلم ، ولم يُيسِّروا للأطماع أن تنال من صفو عنفوانهم المتألق دائما بجُذى اليقين بالله ، وبمسيرة قيمهم الرصينة التي تفيض حُنُوّا وعشقا للوطن الذي خسر الكثير ... الكثير من قيمه الكريمة بعدَ رحيلهم . أطلق إبراهيمُ للسانه العنان في مخاطبة خليله أبي ربعي ، وكأن هدأة الليل ، وابتسامات أنوار القمر في الفضاء الرحيب أغرتْهُ في سرد روائع الأخبار التي تتناقلها وسائل الأعلام التي لاتزيِّف الأقلام المتميزة رغم قلة مدادها وكثرة حسادها ، وهي التي أضرت نفسَها من أجل ما للوطن من قدسية ومكانة . فهو ظلُّ المجد وموئل السؤدد ، الذي لايختفي في النهار ، ولا تخيفه ظلمةُ الليلِ البهيم ، فصفحاتها ملأى باغتنام الأوقات ، واستجماع شتات الأنفس التي تبحث عن مطلع الفجر الجديد المرتقب . في حياة سلبتها القيودُ الآثمةُ بهجة اندياحها في بساتين الرضا . وحرمتها غياهب الويلات حبل عذوبة النجاة من أنياب المكر وأظافر الأحقاد .
آهٍ ... يا أبا ربعي !!! كأني وحدي مع الأيام ، أسمع أنين الملايين الذين استسلموا بين يَدَيْ الأخطاء ، ولكنهم استدركوا مافات ، فهم اليوم يذيبون ما تجمَّد من مشاعر ، ويعيدون ماتوارى من توهُّج حسِّهم الذي كاد أن يبددَه طول الأمد . أجل : يا أباربعي ... وحدي مع الوحشة ، وحدي في غيابة خريف يذروه نُواحُ ثكلٍ يذيبُ الأفئدة ، قلقي الممض لايبرحُ ذاكرتي المثقلة ، ولكني لم أعدم مشاعل المسيرة يتهلل بأنوارها وجهُ السماء الضحوك . ويمنحني ربي ـ جلَّ وعلا ـ الكثير ... من اليقين برحمته وقرب نُصرته وفتحه . فأرى عشقَ أبناء أمتي للحقيقة الزهراء التي تحتضنها أوطانُهم ، كلُّ أوطانِهم ، وحبُّ هؤلاء الغرباء من حولي لمسيرتهم المضيئة ذات المباهاة بوطنهم الذي تصدح في جنباته ... اللهُ أكبرُ ... ولجماله الطبيعي الفطري الذي استغنى عن كل المحسنات البديعية والاستعارات المستوردة من الذين تخلوا عن فطرتهم وأنفسهم ، فتاهوا في لذائذ ليس فيها طعم اللذة التي لاتُشترى في عالم النكوص على الأدبار . أجل إنهم الغرباء الذين اختارهم الله لتعويض رداءة الخدمة بتصحيح المسار الذي لن تتهاوى أعمدتُه الممتدة على أُسس من المعارف والحقائق الثابتة ثبوت دورة الشمس في فلك الكون المديد . وهم الذين لم يعرفوا العجزَ ، ولن يداهمَهم الخذلان .
بشراك ... أخي أباربعي ، إنَّ ما أخبرتني به أمس ، زفَّ لي خبرَ صحته هاتفُ أخيك أبي نوَّاف في ظهيرة هذا اليوم الأبلج ، ولم يكن الشكُّ في يوم من الأيام قيدا على رفرفات أمانينا العِذاب ، ولم تستطع الحسرات المطبوخة بالشقاء المـر أن تحرق الأمل الوريفَ الذي يعمر صدورنا بالوفاء . ففيه أُنسُنا ، ومنه تستمد أعمارُنا ابتساماتها التي تتأرج حتى على شفاه أبنائنا الصِّغار ، الذين لم يستمتعوا بجمال وطنهم وجلاله وحُنُوِّه!! هم يسمعون عنه ولم يروه ، إذ لم يترك أهلوهم خلَّةً أثيرة إلا سلكوها ، ولكنهم كانوا غرضًـا للنَّشَّــاب الذي يلاحقهم حتى في قيلولة النهار . ويترصدهم حتى آخر ساعات الليل في الأسحار .
وافترق الخليلان ، وكأنهما شهِدا بدرا ـ على شهدائها السلام ـ لشدة ما اكتنفهما من فرح روحيٍّ غامر ، وقد تركا من قبلُ ما تنافس فيه الناس من أطماع ومتع . ولذلك تحاسد الناسُ وتباغضوا ، وأفسدوا ما يجب أن يكون بينهم من المودة والإخاء والوفاء . وفي اليوم التالي التقيا من غير موعد ، وخرجا مع القافلة التي مازالت تتابع مسيرتها نحو الوطن ، رغم بعد الطريق و وعثاء السفر ومشقاته . فتسرع أحيانا ، وتتعثر خطواتهاوتقعد مرة ، وتغذ السَّير مرة أخرى ... ولم تتخلَّ عن المتعبين الذين يطلبون الراحة ، ربما لأنهم يظنون أن الوصول إلى أرض الوطن المباركة ضربٌ من المستحيل . ولكن المشتاقين مابرحوا يجددون العزائمَ بالعزائمِ التي جعلها اللهُ ـ تعالى سلطانُه ـ نورا استُلَّ من كهوف دياجير العتو الفرعوني ، وفي زحمة الأنواء ، وجلبة الهرج الشعبي ... مازالت السماء مكفهرةً بسحبها الداكنة ، والرياح الهوج تزمجر في لجج أقدار الله ربِّ العزة والجلال ، وتلفح الوجوه والصدور أعاصيرُ تلك الفصول المتتاليات . وتنهمر الأمطار ، ويقترب الليلُ من عيونهم ، فما عادوا يرون شيئا من دنياهم التي عهدوها ، ولا يشعرون بغير الأنواء والأعاصير والظلمات بعضها فوق بعض . وهنا أنكر المشتاقون على القاعدين امتداد قعودهم الذميم ، وانحسار رجائهم ، ونادوا عليهم : أن يوقدوا جُذى يقينهم بالله الأحد ، ويشمروا عن سواعد ماضيهم الناصع . ويشتد سوادُ ليل المحنة ، وتكفهر الغُمَّةُ ، وتهتز أطراف الكون من شدة الرعد الذي يزلزل ما يأتي عليه ، وتضيق الدنيا الرحيبة على القافلة ... رجالِها نسائها شيبِها شبابِها ، وتكاد حبال اليأس التي تتدلى مع الأمطار أن تخنق الرجاء في النفوس ، إنها ساعة فصلٍ لايثبتُ فيها إلا الأوفياء الأشداء . إنها الساعةُ التي لاحدود لها ولا شاطئ أمن يُرى في مدارِها المتأزم . وإذا بصوت أبي ربعي يهدر بأذانِ الفجر الصادق ، الذي غفل عنه الكثيرون : الله أكبرُ ... الله أكبر ... وسكت الرعدُ ، وتوقف هطولُ المطر ، وهدأت الرياح ، وانجلت الظلمة عن خيوط النهار الوليد ، وهو يبدد الليل الطويل ، وإذا بمغاني الوطن تتراءى أمام عيونهم . الله أكبر ... الله أكبر ... هذه مراتع الصِّبا ، وتلك مرابع الأشواق ، وهناك مواطن السَّمر في الأمسيات المقمرات . وتلوح المآذن الشامخات تهزأ بكل أعداء الوحي على مرِّ الأيام . واحتضنتهم الحارات الجديدة والأحياء القديمة ، واختلطت دموعهم بتراب الذين واراهم الردى من الشهداء والأحباب والخلان ، وأقبل أبو نواف بالبينات من الأخبار التي ترفض الافتراء ، ولا ترضى بزور وأكاذيب الإعلام المتأمرك المتصهين مهما زيَّنتْه الأهواء . إنه الوطن الذي عاد لأبنائه الأوفياء ...
وسوم: العدد 837